&
&
أجرى الحوار في البحرين : علي أحمد الديري
سؤال: يتحدث طه عبد الرحمن في مشروعه "فقه الفلسفة" عن الأصول الفلسفية بمعنى "المحدّدات والمقوّمات الفلسفية التي تتميز بالاستقلال والبداهة والتقدم" ويتحدث محمد أركون في مشروعه "نقد العقل الإسلامي" وعلى وجه التحديد في كتابه "الفكر الأصولي واستحالة التأصيل" عن فكرة استحالة " عملية التأصيل" التي تعني في الفكر الإسلامي " البحث عن أقوم الطرق الاستدلالية ،وأصح الوسائل التحليلية والاستنباطية للربط بين الأحكام الشرعية والأصول التي تتفرع عنها أو لتبرير ما يجب الإيمان به، ويستقيم استنادا إلى فهم صحيح للنصوص الأولى المؤسسة للأصول التي لا أصل قبلها ولا بعدها " واستحالة التأصيل تعني عند أركون : نفي إمكانية التأصيل للعقل أو لحقيقة ما دينية أم علمية أم فلسفية أم اقتصادية أم أخلاقية أم سياسية أم اجتماعية بشكل نهائي ، فالعقل يتطور والحقيقة تتغير ، من هنا علينا أن ننشغل بتفكيك أنظمة الأصول
وينتقد علي حرب مفهوم التأصيل عند نقاد الأدب الذي يعني " العمل على أقلمة المنقول أو المستورد من المقولات والمفاهيم لجعله ملائما لخصوصية الواقع العربي أو من أجل تكييفه مع المواصفات الحضارية والتاريخية للمجتمعات العربية ". في ضوء هذه المراجعات المعرفية لعملية التأصيل . كيف ترى مشروع قراءتك لسياق ما أسميته بثقافة التطابق مع الغرب أو مع الماضي&في كتابك "المرجعيات المستعارة "؟ هل يندرج ضمن معاني التأصيل هذه أم أنه يقيم علاقة خاصة مع مفهوم الخصوصية والتميز ؟ وألا تخشى أن يقع مشروعك وهو يبحث عن خصوصية السياق الثقافي العربي في تميزه عن السياق الثقافي الغربي الذي انتقدت مركزيته في كتابك (المركزية الغربية ) في أوهام التأصيل بالمعنى الأيديولوجي ؟
عبد اله ابراهيم: في وقت مبكر ومتزامن مع الاهتمام بالسرد الأدبي، اتجه اهتمامي إلى المنظومة المعرفيّة الحديثة في الثقافتين العربيّة والغربيّة، وشمل ذلك الاهتمام الجوانب الفلسفيّة والتاريخيّة والاجتماعيّة، ومن الطبيعي أن تثير اهتمامي العلاقة الملتبسة من ناحية التأثر والتأثير بين الثقافتين الغربيّة والعربيّة، ذلك أنها علاقة& حددت أنظمة التفكير ومرجعياته وأنساقه في ثقافتنا الحديثة، وعولجت بمنظورات مختلفة وأحياناً متناقضة. وتبيّن أن اتجاهاً واحداً يحكم تلك المنظومات بشكل عام، ومؤدّاه التطابق مع معطيات الثقافة الغربيّة. وهو في حقيقته لا يختلف عن الاتجاه الآخر الذي يقول بالتطابق مع الماضي ومرجعياته. ومن هنا نشأة فكرة (الاختلاف) عن الاتجاهين. وحول هذه القضية خصصت كتابي "المطابقة والإختلاف" الذي يتركب من جزء أول هو "المركزية الغربيّة: اشكالية التكوّن والتمركز حول الذات" وثان هو" الثقافة العربية والمرجعيات المستعارة: تداخل الانساق والمفاهيم ورهانات العولمة" وثالث، هو "المركزية الإسلامية:صورة الآخر في المخيال الإسلامي خلال القرون الوسطى" وكما تلاحظ فالجزء الأخير ينقض فكرة الوقوع في أسر أيدلوجيا التأصيل، هذه الأيدلوجيا التي أتحسّس نقديا منها، لأنها تتخطّى الانتماء التاريخي الطبيعي إلى الماضي ، وبه تستبدل صورة مزيفة ورغبوية، صورة مصطنعة تستجيب لرهانات معاصرة لاصلة ها بالماضي،والنقد ينبغي ان يحذر من سلطة الأيدلوجيا، ويسعى إلى تفكيكها،ويضع مكانها المعرفة القائمة على الحوار العقلي والثقافي الذي ياخذ بالإعتبار كل العناصر المكوّنة للظاهرة المدروسة.
طرحتُ فكرة (الاختلاف)بوصفها بديلاً عن فكرة المطابقة مع(الآخر) المتمركز حول ذاته. والمطابقة مع(الذات) المنكفئة على نفسها في اتجاه يفضي إلى الماضي ويحاكي معطياته،بسبب تلك المحاذير التي لايمكن إغفالها.&وقد ظهرت الفكرة بسبب المراجعة التي تعتمد المنظور النقدي لمعطيات الثقافة العربية الحديثة.& وعلى هذا، فإنّ نقد الذات ونقد الآخر أمر فرضته حالة الالتباس والحيرة من جانب، وحالة الولاء والامتثال للآخر من جانب آخر. وهكذا انصرف اهتمامي إلى نقد التمركز الغربي وكشف ظروفه التاريخية، ومصادراته في الكتاب الأول، ونقد الثقافة العربية الامتثالية في الكتاب الثاني.ونقد المركزية الإسلامية في القرون الوسطى في الكتاب الثالث.&
سأحاول تقديم مخطط عام للأفكار والقضايا التي كانت موضوعاً للبحث دون أن أغفل الإطار الفكري- النقدي الذي يتنزل فيه الكتاب بالنسبة لي، كونه يندرج ضمن محاولات نقدية- تحليلية تحاول أن تدمج بين منظورين متلازمين هما: المنظور التاريخي والمنظور النقدي؛ الأول يكشف ملابسات ظروف التمركز وتشكّلاته، والثاني يفضح اقصاءاته واختزالاته لـ(الآخر)، وتهمّني الإشارة إلى هذا الأمر، لأن الكتاب ليس مخصصاً لتاريخ ظاهرة التمركز فقط، إنما للظروف الثقافية والاجتماعية والسياسية والتاريخية، التي أفرزت تلك الظاهرة والتي أنتجتها حاجات الفكر، واصطنعت لها تاريخاً يوافق رؤيتها لنفسها وللعالم. فالنقد هنا لا يقرّ بحكم القيمة، إنما يسعى، بتوفير ظروف منهجيّة، إلى كشف تعارضات الفكر المتمركز حول نفسه، وتعرية ممارساته الاقصائية. على أنّ ذلك النقد لم يتم بمعزل عن واقع الثقافة العربية الحديثة، التي أراها ثقافة امتثالية وولائية، يتجاذبها قطبان بعنف وقسوة؛ قطب يمثله الغرب بمركزيته الثقافية، وقطب يمثل النموذج الفكري المتصل بتجربة تجاوزها الواقع، تمثلها المركزية الإسلامية. ووسط هذا التجاذب الدائم والمستمر، تحولت الثقافة العربية إلى (ثقافة مطابقة)، لأنها في جانب منها تتطابق مع الآخر رؤية ومنهجاً، فتحاكيه في منظوراته ومفاهيمه وأهدافه، دون الأخذ بالاعتبار الاختلافات السياقيّة بينهما. وفي جانب آخر تتطابق مع الماضي ونموذجه اللاهوتي، فتقع في أسر سحره الخاص،وجاذبيته الشفافة بفعل تقادم الزمن، وذوبان الزخم التاريخي المرافق له. في المرة الأولى تتماهى الثقافة العربية مع (الآخر)، وفي المرة الثانية تعتصم بـ(الذات) في نوع من التمركز الذاتي المنكفئ على نفسه، بحثاً عن أصل يمكن الاتصال به دون مراعاة عامل الزمن، وهكذا فما يحكم واقع الثقافة العربية الحديثة ، إنما هو نوعان من (المطابقة) مطابقة الآخر، وهو اغتراب في المكان، ومطابقة الماضي، وهو اغتراب في الزمان. ولهذا فانّ دعوة لـ(الاختلاف) عن الاثنين، دون الانقطاع الطبيعي عنهما،إنما الأيدلوجي، تصبح حاجة ملحّة تفرضها حالة التوتر الذي لم يمزق نسيج الثقافة العربيّة الحديثة فحسب، إنما لم يسمح له بالتكوّن على نحو طبيعي، فثمة انهيارات عميقة وغامضة، وردود فعل مفاجئة ومباغتة، ورغبة مزدوجة في التحديث والتخلّف، وممارسات متعارضة، وانقسام في الوعي، وتشنجات عرقيّة ودينيّة وطائفيّة وثقافيّة وسياسيّة واقتصادية، لا سبيل إلى حلها، فالانتماء العقلي المزدوج إلى قطبيّن، دمّر وسيدمّر كل شيء، ولا بد من إدراج كل تلك الظواهر ومسبباتها ضمن منظور يستكشف أسبابها الحقيقيّة.
لعلّ أهم تلك الأسباب- دون أن تكون الوحيدة- هو ما أسميناه(المطابقة) بكل ملابساتها واتصالاتها الخفيّة ونتائجها، وإزاء كل ذلك لا بد من وضع مسافة، تمكّن الذات من ممارسة نقدها لنفسها ولغيرها، مساقة تفصل الذات فصلاً رمزياً عن ماضيها الذي مضى، وعن الآخر الذي له سياقات ثقافية خاصة به. تلك المسافات الطبيعية والضرورية أول خطوة لـ(الاختلاف) الذي يحوّل الانتماء الأعمى المزدوج الذي ذكرناه إلى نوع من الحوار والتفاعل والتمثّل والاختلاف، وليس التماهي والاندماج والتطابق.
ضمن هذا التصور يأتي حديثنا عن(المطابقة والاختلاف)، ومن الواضح أنّ كتاب(المركزية الغربيّة) يُعنى فقط بالكيفيّة التي تشكلت بها تلك الظاهرة، بوصفها إحدى المؤثرات في ظهور (ثقافة المطابقة)، أما تجليّات تلك الثقافة في ميادين المناهج والمفاهيم والرؤى والتصورات فيُعنى بها الكتاب الآخر(المرجعيات المستعارة)، وكل هذا لا يغيّب أمراً أساسياً، وهو: إن نقد الذات أهم من نقد الآخر، أي نقد ثقافة المطابقة من جانبها المتصل بالذات وليس بالآخر، فهو كما نرى، الممارسة الأكثر أهمية، إذا ما توفرت له الأسباب المناسبة منهجاً ورؤية، وذلك أمر أمسُّ ما نحتاج إليه في عصرنا.& ولا يمكن الحديث عنه الآن إنْ لم يصبح أمراً واقعاً.وهذ هو الأساس الذي يقوم عليه كتاب ( المركزية الإسلامية).
أودّ التأكيد بوضوح يرفع الالتباس والتشويش على أنّ نقد (المركزية الغربيّة)و(المركزية الإسلامية) لا يعني إصدار حكم بحق ظواهر ثقافية لها شروطها العامة الخاصة بها، وهو نقد لا يدّعي تقديم بدائل جاهزة، وليس بمقدوره استبدال معطى بآخر مباشرة، فهو من هذه الناحية نقد لا يقرُّ بالمفاضلة ،إنما هو ممارسة فكرية تحليلية استنطاقية كشفيّة، غايتها توفير سياقات تمكّن من إظهار تناقضات الفكر المتمركز حول نفسه، وإبراز تعارضاته الداخلية، ومصادراته، واختزالاته للثقافات الأخرى،والأعراق المختلفة، وهو لا يدّعي القدرة على الاجهاز فوراً على كتلة ضخمة ومتصلبة من الممارسات المتمركزة، فالنقد هنا أبعد ما يكون عن كل هذا، فلا يصار أبداً الاجهاز على ظاهرة من خلال إبداء الرغبة في ذلك، فـ( التفكير الرغبوي) انفصالي بطبيعته عن موضوعاته، لأنه يكيّف نظرياً مسار الوقائع للرغبة دون الأخذ بالاعتبار الهوّة التي تفصل الرغبة عن موضوعها، إنما يريد النقد أن يمارس فعله عبر الدخول إلى صلب ظاهرة ثقافية كبيرة، والتفكير فيها ولكن ليس التفكير بها. إذن هو نوع من العمل المنهجي- النقدي الذي يتصل بموضوعه وينفصل عنه في الوقت ذاته، إنه يتصل بفكرة& التمركز على مستوى اشتغال مفاهيمها وفروضها وقضاياها واشكالياتها؛ بهدف استكناه طبيعتها الداخلية، لكنه انفصال واضح عنها، لأنه يهدف إلى ضبط مصادراتها، واقصاءاتها، وإبراز تناقضاتها الضمنيّة، فالنقد هنا، لا يقبل لنفسه، بوصفه ممارسة واعية، ان يتهرّب من الاقتراب الحقيقي إلى الظاهرة التي يدرسها، إنما هو مدفوع للوقوف تفصيلاً على التشكّلات الداخليّة لتلك الظاهرة، والارتباطات الخفيّة بين المفاهيم المكونّة لظاهرة التمركز، وهو لا يصدر عن مرجعيّات تجريدية ثابتة ترتبط بهذه الثقافة أو تلك- ناهيك عن المرجعيات الدينية والعرقيّة- إنه في الواقع ممارسة معرفية،&تتوغل في تلافيف الظاهرة، وتضىء الأنوار في عتمتها الداخلية، لتكشف ماهيتها. والهدف من ذلك توسيع مديات الوعي فيما يخص الظواهر الثقافية القائمة في عالمنا ، واعطاء أهمية للبعد التاريخي للثقافات الانسانية دون أسرها في نظاق النزعات التاريخية-الأيدلوجية.
إنّ النقد هنا، ممارسة حرة واعية بشرط حريتها، وهو التفكير في موضوع التمركز، من أجل ابطال نزعة التمركز وتكسير مقوماتها الداخلية شيئاً فشيئاً. وهو يريد إعادة ترتيب العلاقات بين (الذات)و(الآخر) على أسس تحاورية وتواصلية، بهدف إيجاد معرفة& مفيدة، ولن يكون ذلك ممكنا إلاّ إذا تم التفكير فيها نقدياً، والاشتغال بها بعيداً عن سيطرة مفاهيم الولاء والاذعان والتبعيّة، وبعيداً عن احساس الطهرانية الذاتية وتقديس الأنا، وأخيراً فإنّ من الأهداف الأساسية لهذا النقد، تغيير مسار التلقّي، الذي نقصد به الطريق الذي تأخذه الأفكار الأخرى للدخول في وعي الذات، إذا تتشكّل ضمن تلك الذات، وهي حاملة معها دلالاتها، دون أن تخضع لمراجعة، بحيث تحتفظ بمحمولاتها وسياقاتها الأصلية، وهو ما يُحدث انقساماً شديداً في الذات الثقافية، لأنها لم تُكيّف تلك العناصر، بسبب غياب الاطار النقدي والمُنظّْم والمكيّف القادر على اعادة انتاج تلك العناصر، بحيث تصبح مكونات في هذه الذات، وما يحصل أنّتلك العناصر، ستمارس افعالها كأنها ضمن نسقها الثقافي الأصلي، وهو ما يقود إلى تعريض مكونات الذات إلى انهيارات داخلية، لأنّ تلك العناصر نضِّدت جنباً إلى جنب، ولم تُركَّب محمولاتها وفقاً للشروط التاريخية للذات الثقافية. وظيفة النقد إذن يُسهم في تغيير مسار التلقّي، ويقترح كيفيات لاندراج عناصر الثقافات الأخرى في الذات الثقافية التي أصبحت حقل صدمات لا نهائية بين المفاهيم والمقولات والرؤى والتصورات .
يشغلك أمر التمركز ونقده، وهو إحدى الثوابت في عملك خلال السنوات العشر الأخيرة، ماذا تقصد به؟ وما الأهداف التي تتوخّاها من تكريس هذا الجهد له ؟
وينتقد علي حرب مفهوم التأصيل عند نقاد الأدب الذي يعني " العمل على أقلمة المنقول أو المستورد من المقولات والمفاهيم لجعله ملائما لخصوصية الواقع العربي أو من أجل تكييفه مع المواصفات الحضارية والتاريخية للمجتمعات العربية ". في ضوء هذه المراجعات المعرفية لعملية التأصيل . كيف ترى مشروع قراءتك لسياق ما أسميته بثقافة التطابق مع الغرب أو مع الماضي&في كتابك "المرجعيات المستعارة "؟ هل يندرج ضمن معاني التأصيل هذه أم أنه يقيم علاقة خاصة مع مفهوم الخصوصية والتميز ؟ وألا تخشى أن يقع مشروعك وهو يبحث عن خصوصية السياق الثقافي العربي في تميزه عن السياق الثقافي الغربي الذي انتقدت مركزيته في كتابك (المركزية الغربية ) في أوهام التأصيل بالمعنى الأيديولوجي ؟
عبد اله ابراهيم: في وقت مبكر ومتزامن مع الاهتمام بالسرد الأدبي، اتجه اهتمامي إلى المنظومة المعرفيّة الحديثة في الثقافتين العربيّة والغربيّة، وشمل ذلك الاهتمام الجوانب الفلسفيّة والتاريخيّة والاجتماعيّة، ومن الطبيعي أن تثير اهتمامي العلاقة الملتبسة من ناحية التأثر والتأثير بين الثقافتين الغربيّة والعربيّة، ذلك أنها علاقة& حددت أنظمة التفكير ومرجعياته وأنساقه في ثقافتنا الحديثة، وعولجت بمنظورات مختلفة وأحياناً متناقضة. وتبيّن أن اتجاهاً واحداً يحكم تلك المنظومات بشكل عام، ومؤدّاه التطابق مع معطيات الثقافة الغربيّة. وهو في حقيقته لا يختلف عن الاتجاه الآخر الذي يقول بالتطابق مع الماضي ومرجعياته. ومن هنا نشأة فكرة (الاختلاف) عن الاتجاهين. وحول هذه القضية خصصت كتابي "المطابقة والإختلاف" الذي يتركب من جزء أول هو "المركزية الغربيّة: اشكالية التكوّن والتمركز حول الذات" وثان هو" الثقافة العربية والمرجعيات المستعارة: تداخل الانساق والمفاهيم ورهانات العولمة" وثالث، هو "المركزية الإسلامية:صورة الآخر في المخيال الإسلامي خلال القرون الوسطى" وكما تلاحظ فالجزء الأخير ينقض فكرة الوقوع في أسر أيدلوجيا التأصيل، هذه الأيدلوجيا التي أتحسّس نقديا منها، لأنها تتخطّى الانتماء التاريخي الطبيعي إلى الماضي ، وبه تستبدل صورة مزيفة ورغبوية، صورة مصطنعة تستجيب لرهانات معاصرة لاصلة ها بالماضي،والنقد ينبغي ان يحذر من سلطة الأيدلوجيا، ويسعى إلى تفكيكها،ويضع مكانها المعرفة القائمة على الحوار العقلي والثقافي الذي ياخذ بالإعتبار كل العناصر المكوّنة للظاهرة المدروسة.
طرحتُ فكرة (الاختلاف)بوصفها بديلاً عن فكرة المطابقة مع(الآخر) المتمركز حول ذاته. والمطابقة مع(الذات) المنكفئة على نفسها في اتجاه يفضي إلى الماضي ويحاكي معطياته،بسبب تلك المحاذير التي لايمكن إغفالها.&وقد ظهرت الفكرة بسبب المراجعة التي تعتمد المنظور النقدي لمعطيات الثقافة العربية الحديثة.& وعلى هذا، فإنّ نقد الذات ونقد الآخر أمر فرضته حالة الالتباس والحيرة من جانب، وحالة الولاء والامتثال للآخر من جانب آخر. وهكذا انصرف اهتمامي إلى نقد التمركز الغربي وكشف ظروفه التاريخية، ومصادراته في الكتاب الأول، ونقد الثقافة العربية الامتثالية في الكتاب الثاني.ونقد المركزية الإسلامية في القرون الوسطى في الكتاب الثالث.&
سأحاول تقديم مخطط عام للأفكار والقضايا التي كانت موضوعاً للبحث دون أن أغفل الإطار الفكري- النقدي الذي يتنزل فيه الكتاب بالنسبة لي، كونه يندرج ضمن محاولات نقدية- تحليلية تحاول أن تدمج بين منظورين متلازمين هما: المنظور التاريخي والمنظور النقدي؛ الأول يكشف ملابسات ظروف التمركز وتشكّلاته، والثاني يفضح اقصاءاته واختزالاته لـ(الآخر)، وتهمّني الإشارة إلى هذا الأمر، لأن الكتاب ليس مخصصاً لتاريخ ظاهرة التمركز فقط، إنما للظروف الثقافية والاجتماعية والسياسية والتاريخية، التي أفرزت تلك الظاهرة والتي أنتجتها حاجات الفكر، واصطنعت لها تاريخاً يوافق رؤيتها لنفسها وللعالم. فالنقد هنا لا يقرّ بحكم القيمة، إنما يسعى، بتوفير ظروف منهجيّة، إلى كشف تعارضات الفكر المتمركز حول نفسه، وتعرية ممارساته الاقصائية. على أنّ ذلك النقد لم يتم بمعزل عن واقع الثقافة العربية الحديثة، التي أراها ثقافة امتثالية وولائية، يتجاذبها قطبان بعنف وقسوة؛ قطب يمثله الغرب بمركزيته الثقافية، وقطب يمثل النموذج الفكري المتصل بتجربة تجاوزها الواقع، تمثلها المركزية الإسلامية. ووسط هذا التجاذب الدائم والمستمر، تحولت الثقافة العربية إلى (ثقافة مطابقة)، لأنها في جانب منها تتطابق مع الآخر رؤية ومنهجاً، فتحاكيه في منظوراته ومفاهيمه وأهدافه، دون الأخذ بالاعتبار الاختلافات السياقيّة بينهما. وفي جانب آخر تتطابق مع الماضي ونموذجه اللاهوتي، فتقع في أسر سحره الخاص،وجاذبيته الشفافة بفعل تقادم الزمن، وذوبان الزخم التاريخي المرافق له. في المرة الأولى تتماهى الثقافة العربية مع (الآخر)، وفي المرة الثانية تعتصم بـ(الذات) في نوع من التمركز الذاتي المنكفئ على نفسه، بحثاً عن أصل يمكن الاتصال به دون مراعاة عامل الزمن، وهكذا فما يحكم واقع الثقافة العربية الحديثة ، إنما هو نوعان من (المطابقة) مطابقة الآخر، وهو اغتراب في المكان، ومطابقة الماضي، وهو اغتراب في الزمان. ولهذا فانّ دعوة لـ(الاختلاف) عن الاثنين، دون الانقطاع الطبيعي عنهما،إنما الأيدلوجي، تصبح حاجة ملحّة تفرضها حالة التوتر الذي لم يمزق نسيج الثقافة العربيّة الحديثة فحسب، إنما لم يسمح له بالتكوّن على نحو طبيعي، فثمة انهيارات عميقة وغامضة، وردود فعل مفاجئة ومباغتة، ورغبة مزدوجة في التحديث والتخلّف، وممارسات متعارضة، وانقسام في الوعي، وتشنجات عرقيّة ودينيّة وطائفيّة وثقافيّة وسياسيّة واقتصادية، لا سبيل إلى حلها، فالانتماء العقلي المزدوج إلى قطبيّن، دمّر وسيدمّر كل شيء، ولا بد من إدراج كل تلك الظواهر ومسبباتها ضمن منظور يستكشف أسبابها الحقيقيّة.
لعلّ أهم تلك الأسباب- دون أن تكون الوحيدة- هو ما أسميناه(المطابقة) بكل ملابساتها واتصالاتها الخفيّة ونتائجها، وإزاء كل ذلك لا بد من وضع مسافة، تمكّن الذات من ممارسة نقدها لنفسها ولغيرها، مساقة تفصل الذات فصلاً رمزياً عن ماضيها الذي مضى، وعن الآخر الذي له سياقات ثقافية خاصة به. تلك المسافات الطبيعية والضرورية أول خطوة لـ(الاختلاف) الذي يحوّل الانتماء الأعمى المزدوج الذي ذكرناه إلى نوع من الحوار والتفاعل والتمثّل والاختلاف، وليس التماهي والاندماج والتطابق.
ضمن هذا التصور يأتي حديثنا عن(المطابقة والاختلاف)، ومن الواضح أنّ كتاب(المركزية الغربيّة) يُعنى فقط بالكيفيّة التي تشكلت بها تلك الظاهرة، بوصفها إحدى المؤثرات في ظهور (ثقافة المطابقة)، أما تجليّات تلك الثقافة في ميادين المناهج والمفاهيم والرؤى والتصورات فيُعنى بها الكتاب الآخر(المرجعيات المستعارة)، وكل هذا لا يغيّب أمراً أساسياً، وهو: إن نقد الذات أهم من نقد الآخر، أي نقد ثقافة المطابقة من جانبها المتصل بالذات وليس بالآخر، فهو كما نرى، الممارسة الأكثر أهمية، إذا ما توفرت له الأسباب المناسبة منهجاً ورؤية، وذلك أمر أمسُّ ما نحتاج إليه في عصرنا.& ولا يمكن الحديث عنه الآن إنْ لم يصبح أمراً واقعاً.وهذ هو الأساس الذي يقوم عليه كتاب ( المركزية الإسلامية).
أودّ التأكيد بوضوح يرفع الالتباس والتشويش على أنّ نقد (المركزية الغربيّة)و(المركزية الإسلامية) لا يعني إصدار حكم بحق ظواهر ثقافية لها شروطها العامة الخاصة بها، وهو نقد لا يدّعي تقديم بدائل جاهزة، وليس بمقدوره استبدال معطى بآخر مباشرة، فهو من هذه الناحية نقد لا يقرُّ بالمفاضلة ،إنما هو ممارسة فكرية تحليلية استنطاقية كشفيّة، غايتها توفير سياقات تمكّن من إظهار تناقضات الفكر المتمركز حول نفسه، وإبراز تعارضاته الداخلية، ومصادراته، واختزالاته للثقافات الأخرى،والأعراق المختلفة، وهو لا يدّعي القدرة على الاجهاز فوراً على كتلة ضخمة ومتصلبة من الممارسات المتمركزة، فالنقد هنا أبعد ما يكون عن كل هذا، فلا يصار أبداً الاجهاز على ظاهرة من خلال إبداء الرغبة في ذلك، فـ( التفكير الرغبوي) انفصالي بطبيعته عن موضوعاته، لأنه يكيّف نظرياً مسار الوقائع للرغبة دون الأخذ بالاعتبار الهوّة التي تفصل الرغبة عن موضوعها، إنما يريد النقد أن يمارس فعله عبر الدخول إلى صلب ظاهرة ثقافية كبيرة، والتفكير فيها ولكن ليس التفكير بها. إذن هو نوع من العمل المنهجي- النقدي الذي يتصل بموضوعه وينفصل عنه في الوقت ذاته، إنه يتصل بفكرة& التمركز على مستوى اشتغال مفاهيمها وفروضها وقضاياها واشكالياتها؛ بهدف استكناه طبيعتها الداخلية، لكنه انفصال واضح عنها، لأنه يهدف إلى ضبط مصادراتها، واقصاءاتها، وإبراز تناقضاتها الضمنيّة، فالنقد هنا، لا يقبل لنفسه، بوصفه ممارسة واعية، ان يتهرّب من الاقتراب الحقيقي إلى الظاهرة التي يدرسها، إنما هو مدفوع للوقوف تفصيلاً على التشكّلات الداخليّة لتلك الظاهرة، والارتباطات الخفيّة بين المفاهيم المكونّة لظاهرة التمركز، وهو لا يصدر عن مرجعيّات تجريدية ثابتة ترتبط بهذه الثقافة أو تلك- ناهيك عن المرجعيات الدينية والعرقيّة- إنه في الواقع ممارسة معرفية،&تتوغل في تلافيف الظاهرة، وتضىء الأنوار في عتمتها الداخلية، لتكشف ماهيتها. والهدف من ذلك توسيع مديات الوعي فيما يخص الظواهر الثقافية القائمة في عالمنا ، واعطاء أهمية للبعد التاريخي للثقافات الانسانية دون أسرها في نظاق النزعات التاريخية-الأيدلوجية.
إنّ النقد هنا، ممارسة حرة واعية بشرط حريتها، وهو التفكير في موضوع التمركز، من أجل ابطال نزعة التمركز وتكسير مقوماتها الداخلية شيئاً فشيئاً. وهو يريد إعادة ترتيب العلاقات بين (الذات)و(الآخر) على أسس تحاورية وتواصلية، بهدف إيجاد معرفة& مفيدة، ولن يكون ذلك ممكنا إلاّ إذا تم التفكير فيها نقدياً، والاشتغال بها بعيداً عن سيطرة مفاهيم الولاء والاذعان والتبعيّة، وبعيداً عن احساس الطهرانية الذاتية وتقديس الأنا، وأخيراً فإنّ من الأهداف الأساسية لهذا النقد، تغيير مسار التلقّي، الذي نقصد به الطريق الذي تأخذه الأفكار الأخرى للدخول في وعي الذات، إذا تتشكّل ضمن تلك الذات، وهي حاملة معها دلالاتها، دون أن تخضع لمراجعة، بحيث تحتفظ بمحمولاتها وسياقاتها الأصلية، وهو ما يُحدث انقساماً شديداً في الذات الثقافية، لأنها لم تُكيّف تلك العناصر، بسبب غياب الاطار النقدي والمُنظّْم والمكيّف القادر على اعادة انتاج تلك العناصر، بحيث تصبح مكونات في هذه الذات، وما يحصل أنّتلك العناصر، ستمارس افعالها كأنها ضمن نسقها الثقافي الأصلي، وهو ما يقود إلى تعريض مكونات الذات إلى انهيارات داخلية، لأنّ تلك العناصر نضِّدت جنباً إلى جنب، ولم تُركَّب محمولاتها وفقاً للشروط التاريخية للذات الثقافية. وظيفة النقد إذن يُسهم في تغيير مسار التلقّي، ويقترح كيفيات لاندراج عناصر الثقافات الأخرى في الذات الثقافية التي أصبحت حقل صدمات لا نهائية بين المفاهيم والمقولات والرؤى والتصورات .
يشغلك أمر التمركز ونقده، وهو إحدى الثوابت في عملك خلال السنوات العشر الأخيرة، ماذا تقصد به؟ وما الأهداف التي تتوخّاها من تكريس هذا الجهد له ؟
التمركز كما أراه نسق ثقافي مُحمَّل بمجموعة من المعاني الثقافية(الدينيّة، الفكرية، العرقيّة) تكّونت تحت شروط تاريخيّة، إلا أنّ ذلك النسق سرعان ما تعالى على بُعده التاريخي، فاختزل أصوله ومقوماته إلى مجموعة من المفاهيم المجردة التي تتجاوز ذلك البُعد إلى نوع من اللاهوت غير التاريخي، وعلى هذا التمركز تكثُّف مجموعة من الرؤى في مجال شعوري محدد، يؤدي إلى تشكيل كتلة متجانسة من التصورات المتصلّبة، التي تنتج الذات المفكرة ومعطياتها الثقافية، على أنها الأفضل، استناداً إلى معنى محدّد للهوية، قوامه الثبات، والديمومة، والتطابق، بحيث تكون الذات هي المرجعية الفاعلة والوحيدة في أي فعل، سواء باستكشاف ذاتها أو بمعرفة الآخر، ولا يقتصر الأمر في التمركز على إنتاج ذات مطلقة النقاء، وخالية من الشوائب، إنما - وهذا هو الوجه الآخر لكلّ تمركز- لابد أن يتأدّى عن ذلك تركيب صورة مشوهة للآخر.& وبين الذات الصافية والآخر الملتبس بالتتشوّه الثقافي(الديني، والفكري، والعرقي) ينتج التمركز أيديولوجيا اقصائية استبعادية ضد الآخر، وايديولوجيا طهرانية مقدسة خاصة بالذات، فينقسم الوعي معرفياً على ذاته، لكنه أيديولوجيا يمارس فعله المزدوج بوصفه كتلة موحدة لها منظور واحد.
إنّ النقد هو الذي يكشف هذه التناقضات الكامنة في صُلب الثقافة المتمركزة حول ذاتها، وهو الذي يدفع بها إلى أن تُفصح عن مضمراتها، لأنه يتتبّع بدقة الممارسات الملتوية للمفاهيم التي تكونها، ولا تقف مهمة النقد عند إظهار أخطار التمركز، إنما يهيئ الأمر لهوية ثقافية جديدة قائمة على مسار متحوّل ومتعدّد ومتشعّبالموارد من المنظورات والمكونات الثقافية المنتجة أو المعاد إنتاجها في ضوء الشروط الثقافية والتاريخية للذات، وبما أنّ هوية التمركز تظهر مجرّدة عن بعدها التاريخي بوصفها هوية قارة وكونيّة في آن واحد، وهي تلفّق أصولاً عرقية ودينيّة وفكرية توافق مضمونها وحاجاتها، فإنّ هوية الاختلاف تتجنب انتاج أيديولوجيا لها صلة بهذه الركائز، فاتصالها بها تاريخي طبيعي وليس له بعد أيديولوجي متصل بمعنى الهوية، وأخيراً فيما تقوم الهوية المتمركزة بطمس واستبعاد كل العناصر التي تتعارض مع مفهوم الهوية، كما أنتجتها تلك الثقافة، بحيث تجعل الهوية أسيرة شبكة من المفاهيم التي تحميها من المتغيرات& التاريخية، فانّ هوية الاختلاف تجعل من تلك العناصر مكونات فاعلة فيها، وهي تُمثل جانباً من جدلها الذاتي مع نفسها ومع غيرها
إنّ النقد هو الذي يكشف هذه التناقضات الكامنة في صُلب الثقافة المتمركزة حول ذاتها، وهو الذي يدفع بها إلى أن تُفصح عن مضمراتها، لأنه يتتبّع بدقة الممارسات الملتوية للمفاهيم التي تكونها، ولا تقف مهمة النقد عند إظهار أخطار التمركز، إنما يهيئ الأمر لهوية ثقافية جديدة قائمة على مسار متحوّل ومتعدّد ومتشعّبالموارد من المنظورات والمكونات الثقافية المنتجة أو المعاد إنتاجها في ضوء الشروط الثقافية والتاريخية للذات، وبما أنّ هوية التمركز تظهر مجرّدة عن بعدها التاريخي بوصفها هوية قارة وكونيّة في آن واحد، وهي تلفّق أصولاً عرقية ودينيّة وفكرية توافق مضمونها وحاجاتها، فإنّ هوية الاختلاف تتجنب انتاج أيديولوجيا لها صلة بهذه الركائز، فاتصالها بها تاريخي طبيعي وليس له بعد أيديولوجي متصل بمعنى الهوية، وأخيراً فيما تقوم الهوية المتمركزة بطمس واستبعاد كل العناصر التي تتعارض مع مفهوم الهوية، كما أنتجتها تلك الثقافة، بحيث تجعل الهوية أسيرة شبكة من المفاهيم التي تحميها من المتغيرات& التاريخية، فانّ هوية الاختلاف تجعل من تلك العناصر مكونات فاعلة فيها، وهي تُمثل جانباً من جدلها الذاتي مع نفسها ومع غيرها
أتتوفّر لديك مستندات ثقافية،تجعل من هذا التصور لفكرة التمركز أمر قابلا للبحث والنقد؟
هذا ما أسعى إلى توضيحه من خلال تتبّع المسار الملتوي لظواهر التمركز في جوانبها الفكرية والدينية والاجتماعية.وأجدني مدفوعا للتأكيد على أن هذا الموضوع يستبطن الظواهر الأخرى، ويستتر فيها،ويختبيء في ثناياها،ولكنه يتحكّم في توجيهها ، ويقررنتائجها، ويحتاج إلى عملية نقدية بالغة المهارة لتعويمها، بحيث تكون موضوعا للبحث. يمكن توضيح الأمر من خلال موضوع التمركز الغربي.
لقد تبلورت معالم المركزية الغربيّة في العصر الحديث. وهي من نتاج فلسفة التاريخ التي بدأت تفرض تصوراً خاصاً لتاريخ أوربا والغرب عموماً منذ القرن الثامن عشر، ثم وفي خطوة ثانية، بدأت تعيد إنتاج الماضي بكل مكوناته الثقافية والدينّية والعرقيّة ليوافق ذلك التصور بما يجعل الغرب هو الأسمى في ثقافته ،وانتمائه الديني والعرقي، وذلك قبل الانتقال& أخيراً إلى تركيب صورة مشوهة للآخر. وهنا تمّ اصطناع خرافة الأصل النقي، والمعجزة الإغريقية، والمسؤولية الدينيّة الكونية للمسيحيّة ببُعدها الكنسي وليس الأخلاقي. وفلسفة التاريخ هذه، التي جعلت الحتميّة الغربية هي سرّ الكون، أدت إلى ظهور منهج الوحدة والاستمرارية الذي يقول بوحدة الفكر الغربي وتماسكه وخصوصيته واطّراده، ويقول في الوقت نفسه بفرادته وكونيته بوصفه نموذجاً صالحاً لكل زمان ومكان، وقد أسهمت جهود فيكو وهردر وكوندرسيّه في المرحلة الأولى، وجهود كانتْ وهيغل وماركس وكونت في المرحلة اللاحقة في انضاج هذا التصوّر وبلورته، ثم تهيئة الأسباب لقبوله، ثم تعميمه ليكون احدى المسلّمات في الفكر الغربي الحديث. ولم يكن هذا التصوّر وبلورته، ثم تهيئة الأسباب لقبوله،& وتعميمه ليكون إحدى المسلّمات في الفكر الغربي الحديث. قد تمّ بمعزل عن الحركة الاجتماعية التي بدأت تتضح معالمها منذ القرن الخامس عشر، والتي مثلها الحراك الاجتماعي المتصل بتغيير الترتيب الطبقي والسيادة السياسية ونشوء الدولة الحديثة وتطلعات الطبقة المثقفة وأصحاب رؤوس الأموال، وحركات التبشير الديني، وكل ما يتصل بالبحث عن دور جديد لأوربا في العالم، سواء بالكشف الجغرافي والاستيطان أو بالاحتلال أو بفرض الرؤية والنموذج الغربي على الآخرين.
كان الغرب قد أصبح بحاجة ماسة لفكرة جديدة تجعل منه الأسمى والأقوى في العالم، وهذا يقتضي إنتاج ماضٍ يوافق تلك الفكرة، وانتداب نفسه لأداء رسالة حضارية& على مستوى العالم واتباع كل الوسائل المتاحة لتحقيق ذلك،& والاختلاق فيما يخص الماضي، والعنف والإكراه فيما يخص نشر تلك الرسالة. وهكذا تشكّلت هياكل التمركز الغربي.
أعاد منهج الوحدة والاستمرارية صياغة الوقائع طبقاً لمقتضيات رؤية فلسفة التاريخ، وقدّم معطيات جديدة خاصة بتاريخ الغرب، مستبعداً كلّ ما يمكن اعتباره يشكّل نقطة ضعف ووهن في ذلك التاريخ، ورسّخ رؤية بديلة؛ تقول إنّ ذلك التاريخ محكوم بصيرورة تشدّهُ إلى تطوّر مستديم، وان التمعّن في رحلته منذ الحقبة الإغريقيّة إلى الآن يكشف عن المركز الذي يؤلّف& قوام وحدته، ويكشف عن الغاية التي يتمثل علّة تطوره، وانتج رؤية مزدوجة لموضوعاته.& ففيما يخص الفكر الغربي، فشروط التطوّر وأسباب التماسك حاضرة، أما غيره فما زال يفتقر إلى ذلك.& مازال تاريخ العالم غير الغربي يعيش انكسارات متواصلة، مازال بعيداً عن الاطّراد الذي يدرجه في سلم التطّور.& ومن أبرز ما حققه هذا المنـهج في ثقافة الغرب : إنه أصّل مقومات الغرب الفكرية، والدينيّة والعرقيّة، وثبتتها انطلاقاً من لحظة& تاريخيّة معينة. ولمّا كان المقوّم الفكري من الأسس التي رآها ذلك المنهج غاية في الأهمية، فقد اهتم به، وراح ينظّم الممارسات العقلية الأولى، ليجعل منها مركزاً ومنطلقاً لذلك الفكر، وما إن عثر على قضية المبدأ في التأملات الإغريقية، إلا وعدت هذه القضيّة،& ممثلة بشخص طاليس الأيوني اللحظة الأولى والحقيقة الولادة الفلسفة، ورتّبت الممارسات اللاحقة جميعها، انتهاء بالفلسفة الغربية الحديثة، على أنها نسغ حي يغذّي بعضه بعضاً، ومن الطبيعي أنه سيهمل- مادام يبحث عن التماسك والاطّراد- تكلّ المعطيات التي لا توافق معاييره، وهكذا رُسخت فكرة خطيرة، وهي أن كل فلسفة لا تشغل بالمفاهيم التي أنتجتها الفلسفة الإغريقية، ومن ثمّ الغربية، لا بد أن تُستبعد من ميدان الفلسفة الحقّة، لأنها غير مؤهلة لأن تكسب مشروعيتها الفكرية، وبذلك فرضت ولادة قيصرية للفلسفة، باعتبار أنّ أباها طاليس، وانّ موطنها الجزر الأيونية، ثم الأرض اليونانية، وتمّ بسب هذا قطع الأواصر التي تربط تلك التأملات الأولى بالموروث الفكري الذي كان يمور به الشرق قبل ذلك بمدة طويلة، واعتبرت المعجزة الإغريقية أروع أحداث التاريخ. وأقام منهج الوحدةوالاستمرارية بعملية (تغريب)ضخمة للمسيحيّة بما يجعلها، وحسب إرادة الكنسية، ديانة كونيّة شاملة بحيث أصبحت(أوربا) تعرّف& بكونها مسيحيّة، وأنها حاملة لواء الدين إلى العالم الوثني خارجها، ذلك العالم الذي اعتبر خاملاً، وبحاجة إلى قيم دينيّة لتطهيره من فساده الوثني.& ومعروف أنّ رسالة الرجل الأبيض، في أهم وجوهها، كانت تتم تحت ستار التبشير،أما فيما يخص التفوّق العرقي، فقد تمّ استثمار نظرية (الكيوف الأرسطية) وتوسيعها من جانب، ثم اختزالها من جوانب أخرى، بما يجعلها تدعم الفكرة القائلة بتفوق& العرق الغربي، وجرت دراسات هائلة، وظهرت نظريات كثيرة، تبرهن على أهلية ذلك العرق وتفوقه على الأعراق الأخرى. وبهذه الطريقة تم إنتاج غرب متميز بتفوقه الثقافي والديني والعرقي، وكانت فلسفة التاريخ الأوربية قد بلورت هذه الصورة الرغوية ودعت إليها،& وادرجت معظم جهود الفلسفة الغربية الحديثة لتعزير تلك الفكرة. وكانت فلسفة هيغل ذروة توجّت حقبة طويلة من السعي لتحقيق هذا الأمر، فتلك الفلسفة إنما هي منظومة شاملة تقوم على أساس التمركز، وبقدر تعلّق الأمر بجانب فلسفة الروح فيها، فانّ الغرب هو المرفأ الأخير لأفضل تجليات الروح- العقل في مجالات الفن والدين والفلسفة. ولكن الأمر الذي يكتشف أهمية قصوى هنا، هو أن تمركز الفكر الغربي حول نفسه، عبر رحلة شاقة من الفرضيات والمحاولات والمستندات الفلسفية والتاريخية والدينية والعرقية، كان قد أدى إلى تركيب صورة مشوهة للآخر، فالعالم خارج نطاق أوربا، نظر إليه بوصفه سديماً غامضاً، وبدائياً، وملتبساً، وخاضعاً لعلاقات اجتماعية تحتاج إلى تهشيم قبل أن يتم نشر الفضيلة والأخلاق والعقل فيه، ويقدّم& خطاب (هيغل)-باعتباره أنموذجاً - صورة بشعة للآخر يصعب تصور أبعادها إلا بقراءة ذلك الخطاب مباشرة. فالأفريقيون والآسيويون أشد التصاقاً، بالنسبة له، بالدونيّة التي تميزهم في كل شيء عن الغربييّن، أما سكان(العالم الجديد-أمريكا)، فقد اعتبر هشاشة التكوين الطبيعي لبلادهم& كافية للترفّع عن الحديث عنهم، وعلى هذا النحو، جرى تثبيت نظرة دونيّة للآخر، استمدت مضمونها من أيديولوجيا التفاوت التي رتبت جملة فروض لخفض الآخر، وإعلاء الذات. وسرعان ما أصبحت فكرة التفاوت فلسفة لها بُعد اجتماعي وسلوكي، أدّت إلى انقسام عميق في الفكر الإنساني، فثمة عرق مُنح التفوق والرفعة والسمو، واحتكر الحقيقة بكل أبعادها، وثمة عرق أُختزل إلى الحضيض والدونيّة، واستبعد طويلاً إلى أن حولته أيديولوجيا التفاوت إلى مجموعة بشرية شبه عاجزة وفاقدة للمشاركة، لأن تلك الأيديولوجيا، كرّست لمدة طويلة فكراً تربوياً واجتماعياً وسياسياً، اختزل هذا العرق إلى مرتبة دونية تجعله يعيش دائماً تحت إحساس بمديونية أخلاقية وثقافية ودينيّة للآخر، أفضي ذلك إلى المزيد من اليأس والخذلان وإفراغ الأنساق الثقافية من مضامينها، والإجهاز عليها، وغزوها بمضامين أنتجتها ظروف تاريخية مختلفة.
يكشف المنظور النقدي للخطاب الثقافي الغربي، باستثناءات متناثرة في تضاعيفه، إنه يمارس فعالية مزدوجة؛ فهو من جانب يُضيف على الذات سمواًّ ورفعة، دون ٍأن ينتبه إلى الاشتباكات الحاصلة في المرجعيات التاريخيّة والاجتماعيّة، وهو من جانب آخر يبخس الآخر حالته الطبيعية، ويدرجه ضمن وضعيات دونية من خلال تركيزه على بعض الظواهر، ومعارضتها بما يجعلها ممارسات بدائية ومتخلّفة.& ذلك أن كل شيء بالنسبة للآخر يُعرض من خلال منظور تحكمه رؤية مشتقة من المركزية الغربية.& ولقد لعب الخطاب الثقافي دوراً كبيراً في تثبيت صور ذهنيّة للآخر، والحرص على اشاعتها، بل والامتناع عن ادراج المتغيرات التي تتدخل على نحو طبيعي لتغير الصور النمطيّة التي ينتجها ذلك الخطاب،بما يوافق آليته ومنظوراته.
من الواضح أن ذلك الخطاب قد غُذّي بمجموعة من التصورات القبليّة التي انتجتها بنية ثقافية معينة لها شرطها التاريخي، بحيث ظهرت الموضوعات الخاصة بالآخر في كل المجالات: الدينيّة والثقافية والتاريخية والعرقيّة..الخ، وهي أكثر صلة برغبات الخطاب من الصلة بحالتها الحقيقيّة ضمن مرجعياتها الأصلية، وهذا الأمر يستدعي ممارسة نقدية لتفكيك النسيج الداخلي لذلك الخطاب وكشف بؤر التمركز فيه، بما يُسهم في أبطال تلك النزعة، وامتصاص الغلواء المكينة فيه.
لكنّك تتخطّى تنوع الغرب الثقافي،هل التمركز حقيقة قائمة الآن؟
لايمكن اهمال تنوع الثقافات ، ولكنني أتحدث عن الأنساق المهيمنة فيها،تلك التي تتحكّم في صوغ التصورات الكبرى، لقد تطورت نزعة التمركز حول الذات، فطرحت مفهوماً متصلاً بها، وهو مفهوم (العولمة). وبهذا امتد الطموح ليشمل العالم بأجمعه، ويدرجه ضمن رؤية غربيّة مستمدة من أيديولوجيا التمركز مع مراعاة شرط التراتب والتفاضل والتمايز بين ما هو غربي وما ليس كذلك.
كثيراً ما يصار التأكيد على أنّ الغاية الأساسية لنزعة العولمة هي: تركيب عالم متجانس تحلُّ فيه وحدة القيم والتصورات والغايات والرؤى والأهداف محل التشتت والناقض، ولكن هذه النزعة تختزل العالم إلى مفهوم، بدل أن تتعامل معه على أنه تشكيل متنوع من القوى والارادات والانتماءات والثقافات والتطلّعات، والحقيقة فانّ وحدة لا تقرُّ بالتنوع ستؤدي إلى تفجير نزعات التعصب المغلقة والمطالبة بالخصوصيات الضيقة. فالعولمة بتعميمها النموذج الغربي على مستوى العالم، واستبعادها التشكيلات الثقافية الأصيلة، إنما توقد شرارة التفرّد الأعمى. انّ هيمنة نموذج ثقافي، لا يؤدي إلى حلّ المشكلات الخاصة بالهوية والانتماء، إنما على العكس يؤدي إلى ظهور أيديولوجيات تضخ مفاهيم جديدة حول نقاء الأصل وصفاء الهوية، إلى ذلك فانّ عملية محاكاة النموذج& الغربي ستقود إلى سلسلة لا نهائية من التقليد المفتعل الذي تصطرع فيه التصورات، وهو يصطدم بالنماذج الموروثة التي ستبعث على أنها نُظم رمزية تمثل رأسمال قابل للاستثمار الايديولوجي عرقياً وثقافياً ودينياً.
لا يمكن إجراء رصد ختامي لما أفضت إليه العولمة، سواء أكانت ممارسات متنوعة ظهرت منذ أن استقام أمر التمركز الغربي أم منذ ظهرت حديثاً على أنها نزعة فكرية نظرية، ولكن الأمر الذي يمكن رصده والبرهنة عليه هو أنّ العولمة قد خلقت امكانيات واسعة لسيادة الولاء للآخر، وهيمنة الفكر الامتثالي، واختزال الذات إلى عنصر هامشي، واستبعاد المكونات القابلة للتطور والنمو، وكل ذلك أدى إلى انهيارات متعاقبة في الانساق الثقافية غير الغربية. وبقدر تعلق الأمر بالثقافة العربية الحديثة، فانّ حصر النتائج أمر لا يمكن تحقيقه، فالمؤثرات الغربيةوموجهاتها ومحمولاتها ومرجعياتها تغذّي باستمرار، ومنذ مدة طويلة، كثيراً من الممارسات الثقافية في بعض المجالات مثل: المناهج والمفاهيم والرؤي، وذلك يكشف الكيفية التي تغلغلت فيها المرجعيات والمؤثرات الغربية في صلب الثقافة العربية الحديثة، والآثار التي ترتبت على ذلك. فنقد ثقافة(المطابقة) هو السبيل إلى ظهور ثقافة(الاختلاف).
لقد تبلورت معالم المركزية الغربيّة في العصر الحديث. وهي من نتاج فلسفة التاريخ التي بدأت تفرض تصوراً خاصاً لتاريخ أوربا والغرب عموماً منذ القرن الثامن عشر، ثم وفي خطوة ثانية، بدأت تعيد إنتاج الماضي بكل مكوناته الثقافية والدينّية والعرقيّة ليوافق ذلك التصور بما يجعل الغرب هو الأسمى في ثقافته ،وانتمائه الديني والعرقي، وذلك قبل الانتقال& أخيراً إلى تركيب صورة مشوهة للآخر. وهنا تمّ اصطناع خرافة الأصل النقي، والمعجزة الإغريقية، والمسؤولية الدينيّة الكونية للمسيحيّة ببُعدها الكنسي وليس الأخلاقي. وفلسفة التاريخ هذه، التي جعلت الحتميّة الغربية هي سرّ الكون، أدت إلى ظهور منهج الوحدة والاستمرارية الذي يقول بوحدة الفكر الغربي وتماسكه وخصوصيته واطّراده، ويقول في الوقت نفسه بفرادته وكونيته بوصفه نموذجاً صالحاً لكل زمان ومكان، وقد أسهمت جهود فيكو وهردر وكوندرسيّه في المرحلة الأولى، وجهود كانتْ وهيغل وماركس وكونت في المرحلة اللاحقة في انضاج هذا التصوّر وبلورته، ثم تهيئة الأسباب لقبوله، ثم تعميمه ليكون احدى المسلّمات في الفكر الغربي الحديث. ولم يكن هذا التصوّر وبلورته، ثم تهيئة الأسباب لقبوله،& وتعميمه ليكون إحدى المسلّمات في الفكر الغربي الحديث. قد تمّ بمعزل عن الحركة الاجتماعية التي بدأت تتضح معالمها منذ القرن الخامس عشر، والتي مثلها الحراك الاجتماعي المتصل بتغيير الترتيب الطبقي والسيادة السياسية ونشوء الدولة الحديثة وتطلعات الطبقة المثقفة وأصحاب رؤوس الأموال، وحركات التبشير الديني، وكل ما يتصل بالبحث عن دور جديد لأوربا في العالم، سواء بالكشف الجغرافي والاستيطان أو بالاحتلال أو بفرض الرؤية والنموذج الغربي على الآخرين.
كان الغرب قد أصبح بحاجة ماسة لفكرة جديدة تجعل منه الأسمى والأقوى في العالم، وهذا يقتضي إنتاج ماضٍ يوافق تلك الفكرة، وانتداب نفسه لأداء رسالة حضارية& على مستوى العالم واتباع كل الوسائل المتاحة لتحقيق ذلك،& والاختلاق فيما يخص الماضي، والعنف والإكراه فيما يخص نشر تلك الرسالة. وهكذا تشكّلت هياكل التمركز الغربي.
أعاد منهج الوحدة والاستمرارية صياغة الوقائع طبقاً لمقتضيات رؤية فلسفة التاريخ، وقدّم معطيات جديدة خاصة بتاريخ الغرب، مستبعداً كلّ ما يمكن اعتباره يشكّل نقطة ضعف ووهن في ذلك التاريخ، ورسّخ رؤية بديلة؛ تقول إنّ ذلك التاريخ محكوم بصيرورة تشدّهُ إلى تطوّر مستديم، وان التمعّن في رحلته منذ الحقبة الإغريقيّة إلى الآن يكشف عن المركز الذي يؤلّف& قوام وحدته، ويكشف عن الغاية التي يتمثل علّة تطوره، وانتج رؤية مزدوجة لموضوعاته.& ففيما يخص الفكر الغربي، فشروط التطوّر وأسباب التماسك حاضرة، أما غيره فما زال يفتقر إلى ذلك.& مازال تاريخ العالم غير الغربي يعيش انكسارات متواصلة، مازال بعيداً عن الاطّراد الذي يدرجه في سلم التطّور.& ومن أبرز ما حققه هذا المنـهج في ثقافة الغرب : إنه أصّل مقومات الغرب الفكرية، والدينيّة والعرقيّة، وثبتتها انطلاقاً من لحظة& تاريخيّة معينة. ولمّا كان المقوّم الفكري من الأسس التي رآها ذلك المنهج غاية في الأهمية، فقد اهتم به، وراح ينظّم الممارسات العقلية الأولى، ليجعل منها مركزاً ومنطلقاً لذلك الفكر، وما إن عثر على قضية المبدأ في التأملات الإغريقية، إلا وعدت هذه القضيّة،& ممثلة بشخص طاليس الأيوني اللحظة الأولى والحقيقة الولادة الفلسفة، ورتّبت الممارسات اللاحقة جميعها، انتهاء بالفلسفة الغربية الحديثة، على أنها نسغ حي يغذّي بعضه بعضاً، ومن الطبيعي أنه سيهمل- مادام يبحث عن التماسك والاطّراد- تكلّ المعطيات التي لا توافق معاييره، وهكذا رُسخت فكرة خطيرة، وهي أن كل فلسفة لا تشغل بالمفاهيم التي أنتجتها الفلسفة الإغريقية، ومن ثمّ الغربية، لا بد أن تُستبعد من ميدان الفلسفة الحقّة، لأنها غير مؤهلة لأن تكسب مشروعيتها الفكرية، وبذلك فرضت ولادة قيصرية للفلسفة، باعتبار أنّ أباها طاليس، وانّ موطنها الجزر الأيونية، ثم الأرض اليونانية، وتمّ بسب هذا قطع الأواصر التي تربط تلك التأملات الأولى بالموروث الفكري الذي كان يمور به الشرق قبل ذلك بمدة طويلة، واعتبرت المعجزة الإغريقية أروع أحداث التاريخ. وأقام منهج الوحدةوالاستمرارية بعملية (تغريب)ضخمة للمسيحيّة بما يجعلها، وحسب إرادة الكنسية، ديانة كونيّة شاملة بحيث أصبحت(أوربا) تعرّف& بكونها مسيحيّة، وأنها حاملة لواء الدين إلى العالم الوثني خارجها، ذلك العالم الذي اعتبر خاملاً، وبحاجة إلى قيم دينيّة لتطهيره من فساده الوثني.& ومعروف أنّ رسالة الرجل الأبيض، في أهم وجوهها، كانت تتم تحت ستار التبشير،أما فيما يخص التفوّق العرقي، فقد تمّ استثمار نظرية (الكيوف الأرسطية) وتوسيعها من جانب، ثم اختزالها من جوانب أخرى، بما يجعلها تدعم الفكرة القائلة بتفوق& العرق الغربي، وجرت دراسات هائلة، وظهرت نظريات كثيرة، تبرهن على أهلية ذلك العرق وتفوقه على الأعراق الأخرى. وبهذه الطريقة تم إنتاج غرب متميز بتفوقه الثقافي والديني والعرقي، وكانت فلسفة التاريخ الأوربية قد بلورت هذه الصورة الرغوية ودعت إليها،& وادرجت معظم جهود الفلسفة الغربية الحديثة لتعزير تلك الفكرة. وكانت فلسفة هيغل ذروة توجّت حقبة طويلة من السعي لتحقيق هذا الأمر، فتلك الفلسفة إنما هي منظومة شاملة تقوم على أساس التمركز، وبقدر تعلّق الأمر بجانب فلسفة الروح فيها، فانّ الغرب هو المرفأ الأخير لأفضل تجليات الروح- العقل في مجالات الفن والدين والفلسفة. ولكن الأمر الذي يكتشف أهمية قصوى هنا، هو أن تمركز الفكر الغربي حول نفسه، عبر رحلة شاقة من الفرضيات والمحاولات والمستندات الفلسفية والتاريخية والدينية والعرقية، كان قد أدى إلى تركيب صورة مشوهة للآخر، فالعالم خارج نطاق أوربا، نظر إليه بوصفه سديماً غامضاً، وبدائياً، وملتبساً، وخاضعاً لعلاقات اجتماعية تحتاج إلى تهشيم قبل أن يتم نشر الفضيلة والأخلاق والعقل فيه، ويقدّم& خطاب (هيغل)-باعتباره أنموذجاً - صورة بشعة للآخر يصعب تصور أبعادها إلا بقراءة ذلك الخطاب مباشرة. فالأفريقيون والآسيويون أشد التصاقاً، بالنسبة له، بالدونيّة التي تميزهم في كل شيء عن الغربييّن، أما سكان(العالم الجديد-أمريكا)، فقد اعتبر هشاشة التكوين الطبيعي لبلادهم& كافية للترفّع عن الحديث عنهم، وعلى هذا النحو، جرى تثبيت نظرة دونيّة للآخر، استمدت مضمونها من أيديولوجيا التفاوت التي رتبت جملة فروض لخفض الآخر، وإعلاء الذات. وسرعان ما أصبحت فكرة التفاوت فلسفة لها بُعد اجتماعي وسلوكي، أدّت إلى انقسام عميق في الفكر الإنساني، فثمة عرق مُنح التفوق والرفعة والسمو، واحتكر الحقيقة بكل أبعادها، وثمة عرق أُختزل إلى الحضيض والدونيّة، واستبعد طويلاً إلى أن حولته أيديولوجيا التفاوت إلى مجموعة بشرية شبه عاجزة وفاقدة للمشاركة، لأن تلك الأيديولوجيا، كرّست لمدة طويلة فكراً تربوياً واجتماعياً وسياسياً، اختزل هذا العرق إلى مرتبة دونية تجعله يعيش دائماً تحت إحساس بمديونية أخلاقية وثقافية ودينيّة للآخر، أفضي ذلك إلى المزيد من اليأس والخذلان وإفراغ الأنساق الثقافية من مضامينها، والإجهاز عليها، وغزوها بمضامين أنتجتها ظروف تاريخية مختلفة.
يكشف المنظور النقدي للخطاب الثقافي الغربي، باستثناءات متناثرة في تضاعيفه، إنه يمارس فعالية مزدوجة؛ فهو من جانب يُضيف على الذات سمواًّ ورفعة، دون ٍأن ينتبه إلى الاشتباكات الحاصلة في المرجعيات التاريخيّة والاجتماعيّة، وهو من جانب آخر يبخس الآخر حالته الطبيعية، ويدرجه ضمن وضعيات دونية من خلال تركيزه على بعض الظواهر، ومعارضتها بما يجعلها ممارسات بدائية ومتخلّفة.& ذلك أن كل شيء بالنسبة للآخر يُعرض من خلال منظور تحكمه رؤية مشتقة من المركزية الغربية.& ولقد لعب الخطاب الثقافي دوراً كبيراً في تثبيت صور ذهنيّة للآخر، والحرص على اشاعتها، بل والامتناع عن ادراج المتغيرات التي تتدخل على نحو طبيعي لتغير الصور النمطيّة التي ينتجها ذلك الخطاب،بما يوافق آليته ومنظوراته.
من الواضح أن ذلك الخطاب قد غُذّي بمجموعة من التصورات القبليّة التي انتجتها بنية ثقافية معينة لها شرطها التاريخي، بحيث ظهرت الموضوعات الخاصة بالآخر في كل المجالات: الدينيّة والثقافية والتاريخية والعرقيّة..الخ، وهي أكثر صلة برغبات الخطاب من الصلة بحالتها الحقيقيّة ضمن مرجعياتها الأصلية، وهذا الأمر يستدعي ممارسة نقدية لتفكيك النسيج الداخلي لذلك الخطاب وكشف بؤر التمركز فيه، بما يُسهم في أبطال تلك النزعة، وامتصاص الغلواء المكينة فيه.
لكنّك تتخطّى تنوع الغرب الثقافي،هل التمركز حقيقة قائمة الآن؟
لايمكن اهمال تنوع الثقافات ، ولكنني أتحدث عن الأنساق المهيمنة فيها،تلك التي تتحكّم في صوغ التصورات الكبرى، لقد تطورت نزعة التمركز حول الذات، فطرحت مفهوماً متصلاً بها، وهو مفهوم (العولمة). وبهذا امتد الطموح ليشمل العالم بأجمعه، ويدرجه ضمن رؤية غربيّة مستمدة من أيديولوجيا التمركز مع مراعاة شرط التراتب والتفاضل والتمايز بين ما هو غربي وما ليس كذلك.
كثيراً ما يصار التأكيد على أنّ الغاية الأساسية لنزعة العولمة هي: تركيب عالم متجانس تحلُّ فيه وحدة القيم والتصورات والغايات والرؤى والأهداف محل التشتت والناقض، ولكن هذه النزعة تختزل العالم إلى مفهوم، بدل أن تتعامل معه على أنه تشكيل متنوع من القوى والارادات والانتماءات والثقافات والتطلّعات، والحقيقة فانّ وحدة لا تقرُّ بالتنوع ستؤدي إلى تفجير نزعات التعصب المغلقة والمطالبة بالخصوصيات الضيقة. فالعولمة بتعميمها النموذج الغربي على مستوى العالم، واستبعادها التشكيلات الثقافية الأصيلة، إنما توقد شرارة التفرّد الأعمى. انّ هيمنة نموذج ثقافي، لا يؤدي إلى حلّ المشكلات الخاصة بالهوية والانتماء، إنما على العكس يؤدي إلى ظهور أيديولوجيات تضخ مفاهيم جديدة حول نقاء الأصل وصفاء الهوية، إلى ذلك فانّ عملية محاكاة النموذج& الغربي ستقود إلى سلسلة لا نهائية من التقليد المفتعل الذي تصطرع فيه التصورات، وهو يصطدم بالنماذج الموروثة التي ستبعث على أنها نُظم رمزية تمثل رأسمال قابل للاستثمار الايديولوجي عرقياً وثقافياً ودينياً.
لا يمكن إجراء رصد ختامي لما أفضت إليه العولمة، سواء أكانت ممارسات متنوعة ظهرت منذ أن استقام أمر التمركز الغربي أم منذ ظهرت حديثاً على أنها نزعة فكرية نظرية، ولكن الأمر الذي يمكن رصده والبرهنة عليه هو أنّ العولمة قد خلقت امكانيات واسعة لسيادة الولاء للآخر، وهيمنة الفكر الامتثالي، واختزال الذات إلى عنصر هامشي، واستبعاد المكونات القابلة للتطور والنمو، وكل ذلك أدى إلى انهيارات متعاقبة في الانساق الثقافية غير الغربية. وبقدر تعلق الأمر بالثقافة العربية الحديثة، فانّ حصر النتائج أمر لا يمكن تحقيقه، فالمؤثرات الغربيةوموجهاتها ومحمولاتها ومرجعياتها تغذّي باستمرار، ومنذ مدة طويلة، كثيراً من الممارسات الثقافية في بعض المجالات مثل: المناهج والمفاهيم والرؤي، وذلك يكشف الكيفية التي تغلغلت فيها المرجعيات والمؤثرات الغربية في صلب الثقافة العربية الحديثة، والآثار التي ترتبت على ذلك. فنقد ثقافة(المطابقة) هو السبيل إلى ظهور ثقافة(الاختلاف).
هذا على الضفة الأخرى،ولكنك واصلت البحث في موضوع ( المركزية الإسلامية)وتقصّيت صورة الآخر في أعين المسلمين خلال القرون الوسطى،واستنطقت صورة شديدة التعقيد للعالم خارج دار الإسلام ،وكانت المدونات الجغرافية والتاريخية هي المتن الذي قمت بتحليله .هي تعتبر ذلك وجه العملة الآخر في عملك النقدي ،مادمت كما تقول تتقصّى ظواهر التمركز عبر التاريخ ؟ما الذي& دفعك على ذلك ؟ وبماذا تعد؟
هذا صحيح، ونقد المركزية الإسلامية متصل بواقعنا الآن أكثر مما هو متصل بالماضي، فأنا شديد الحساسية من الانتماء إلى طرف، ونبذ آخر. فالماضي تجربة تاريخية، وليس من الحكمة الانتماء إلى لحظات انتقائية فيه، ونقده يحرّرنا من الولاء الأعمى لبعض الاتجاهات فيه، وكان مأخذي الأساسي دائما على بعض مفكرينا المعاصرين، مثل الجابري وأدونيس، هو الإذعان لمبدأ المفاضلة، والانحياز لحالة أو طرف، والحق فالماضي تجربة تاريخية ينبغي ألا نضخ فيها رغباتنا، إنما نجعلها موضوعا للتحليل الذي يتخطّى بنا أمر الوقوع في هيمنتها.لكي نرى الشيء بوضوح يلزمنا الانفصال عنه.الانفصال الرمزي الذي يتيح لنا كشف الأشياء بدقة.
فقد أرست القرون الوسطى نماذج شبه ثابتة للتصورات المتبادلة بين الشعوب والمجتمعات والثقافات،وكانت تلك التصورات تمثّل معيار قيمة يتدخّل في رفع أو خفض أي مجتمع أو ثقافة،وليس خافيا أن الحكم المسبق على ظاهرة اجتماعية أو ثقافية أو دينية سيؤدي إلى نتيجة تضفي قيمة عالية عليها أو تسلبها قيمتها الحقيقية ،والصور المتشكّلة في أذهان المجتمعات بفعل الخلافات الدينية، والصراعات السياسية،وتباين المنظومات القيمية،والأنساق الثقافية،أدّت خلال تلك الحقبة الطويلة إلى ترسيخ صور ثابتة ومنقوصة،ومادامت تلك الصور توجّه أفكار المؤرّخين والجغرافيين والرحّالة والمفكّرين والفقهاء، وكل مَنْ يصوغ الصور الجماعية الذهنية الخاصة بالآخر،وبخاصة المرويات السردية والعجائبية،فمن المنتظر الحصول على سلسلة متواصلة من الأحكام غير المنصفة بحق الآخر المختلف،والواقع فإن العودة إلى كبريات المدونات الفقهية والتاريخية والجغرافية والأدبية تبين بجلاء أن صورة الآخر مشوّشة،ومركّبة بدرجة كبيرة من التشويه الذي يحيل على أن المخيال الإسلامي المعبّر عن المنظومة العقائدية الإسلامية قد أنتج صورا تبخيسية للآخر،ولم يكن ذلك خاصا به؛فالقرون الوسطى تميزت بأنها تعنى بثبات المعايير وتكرارها،وتنظر إلى الظواهر الطبيعية والبشرية والثقافية نظرة شبه ثابتة، وتستعين بطرائق تحليل تقليدية تفتقر إلى قوة التعليل،الأمر الذي جعل المعرفة الخاصة بتلك الحقبة هشّة،وتنطوي على تناقضات كثيرة،ولم تصمد بوجه النقد،لأنها قائمة على التنميط غير المعلّل، أو الذي يفتقر إلى تعليل يأخذ في الاعتبار العناصر الحقيقية للظاهرة،ولما كانت تلك المعرفة تقوم على ركائز ناقصة،وغير متكاملة، فمن الطبيعي أن المعرفة الناتجة عنها كانت تتّصف عموما بالنقص وعدم الاكتمال
لايمكن تخليص صورة الآخر من الآثار المباشرة التي تتركها عليها الثقافة المتمركزة على نفسها،وقد كانت المركزية الإسلامية، ممثلة بدار الإسلام، ونظامها القيمي المعياري ،هي الموجّه الأكثر فاعلية في صوغ ملامح تلك الصورة،وهي في عمومها صورة رغبوية تتأدّى مكوناتها عن رغبة في تفخيم الأنا الثقافية الأمر الذي يقود إلى خفض قيمة الآخر.
تضافرت المرويات والمدونات التي أشرنا إليها من أجل تمثيل الذات والآخر استناداً إلى آلية مزدوجة الفاعلية أخذت شكلين: ففيما يخص الذات أنتج (التمثيل) ذاتاً نقيّة،وحيويّة، فضخّ مجموعة من المعاني الأخلاقية على كل الأفعال الخاصة بها،وفيما يخص الآخر أنتج (التمثيل) آخر يشوبه التوتر والالتباس والانفعال أحياناً،والخمول والكسل أحياناً أخرى، وذهب فيما يخص الأقوام في المناطق النائية إلى ما هو أكثر من ذلك، حينما وصفهم بالضلال والحيوانية والتوحش والبوهيمية ،وبذلك أقصى واستبعد كل المعاني الأخلاقية المقبولة عنده، فحُمّل الآخر بقيم رتّبت بتدرّج لتكون في تعارض مع القيم الإسلامية.وبذلك اصطنع (التمثيل) تمايزاً مطلقاً بين الذات والآخر ، يفضي إلى متوالية من التعارضات والتراتبيات التي تسهّل إمكانية أن يقوم الطرف الأول في اختراق الثاني،وتخليصه من خموله وضلاله.وهذه الآلية التي وفرت اعتصاماً بالذات وتحصناً وراء أسوارها المنيعة، وإقصاء للآخر وتشويه حالته الإنسانية،هي من نتائج ثقافة التمركز حول الذات داخل دار الإسلام ، والتمركز نمط من التفكير المترفّع الذي ينغلق على الذات، ويحصر نفسه في منهج معين ،ينغلق عليه ولا يقارب الأشياء إلا عبر رؤيته ومقولاته،ومع أن ويوظف كل المعطيات من أجل تأكيد صحة مقولاته
ولا يماري منصّف في أن هذه الظاهرة& الثقافية كانت مهيمنة ،وقد تغلغلت في تضاعيف التصورات العامة،وتحكّمت في توجيه الأفكار،وركدت& مطمورة، ولكنها فاعلة تحت أكداس الخطابات التي حجبت ولمدة طويلة ،كل إمكانية البحث في أمر تعديلها .وهو أمر& يوجب إعادة النظر مجدداً في كثير مما اعتبر من مسلمات الثقافة في هذا العصر ،ليكشف فداحة الأوهام ،وخطورة المصادرات،ويعيد مرة أخرى ،وبكيفية جديدة طرح القضية الملتبسة دائماً،قضية (الأنا)و(الآخر).ليس بوصفها قضية تاريخية،إنما باعتبارها ممارسة فكرية نقدية تقوم بتحرير الذات من أوهام التمركز والتفوّق والأفضلية
كان التصور الشائع عن الذات والآخر يستمد حيويته من المركزية الدينية، أي تلك البؤرة التي تنبثق منها قيم الحق إلى الأبد. وبالنظر إلى أن التصور يذهب إلى اعتبار أن الله هو مصدرها، وأنه& قد حلّ هنا( دار الإسلام) ولم يحل هناك( دار الحرب) فينبغي إذا الوصول إلى نتيجة واحدة: قيم دار الإسلام هي الحقيقية، وهي الشاملة، وهي المطلقة الصواب. وقيم الآخر مثار استغراب،واستهجان؛ فهي وثنية، محقّرة،مدنّسة،يلزم تطهيرها من النجاسة الوثنية. قيم الآخر هي موضوع لحكم القيمة وليس للوصف.
هذا يعني أن النقد ينبغي أن يتجه إلى الظواهر بغض النظر عن علاقتنا بها
هذا صحيح، ونقد المركزية الإسلامية متصل بواقعنا الآن أكثر مما هو متصل بالماضي، فأنا شديد الحساسية من الانتماء إلى طرف، ونبذ آخر. فالماضي تجربة تاريخية، وليس من الحكمة الانتماء إلى لحظات انتقائية فيه، ونقده يحرّرنا من الولاء الأعمى لبعض الاتجاهات فيه، وكان مأخذي الأساسي دائما على بعض مفكرينا المعاصرين، مثل الجابري وأدونيس، هو الإذعان لمبدأ المفاضلة، والانحياز لحالة أو طرف، والحق فالماضي تجربة تاريخية ينبغي ألا نضخ فيها رغباتنا، إنما نجعلها موضوعا للتحليل الذي يتخطّى بنا أمر الوقوع في هيمنتها.لكي نرى الشيء بوضوح يلزمنا الانفصال عنه.الانفصال الرمزي الذي يتيح لنا كشف الأشياء بدقة.
فقد أرست القرون الوسطى نماذج شبه ثابتة للتصورات المتبادلة بين الشعوب والمجتمعات والثقافات،وكانت تلك التصورات تمثّل معيار قيمة يتدخّل في رفع أو خفض أي مجتمع أو ثقافة،وليس خافيا أن الحكم المسبق على ظاهرة اجتماعية أو ثقافية أو دينية سيؤدي إلى نتيجة تضفي قيمة عالية عليها أو تسلبها قيمتها الحقيقية ،والصور المتشكّلة في أذهان المجتمعات بفعل الخلافات الدينية، والصراعات السياسية،وتباين المنظومات القيمية،والأنساق الثقافية،أدّت خلال تلك الحقبة الطويلة إلى ترسيخ صور ثابتة ومنقوصة،ومادامت تلك الصور توجّه أفكار المؤرّخين والجغرافيين والرحّالة والمفكّرين والفقهاء، وكل مَنْ يصوغ الصور الجماعية الذهنية الخاصة بالآخر،وبخاصة المرويات السردية والعجائبية،فمن المنتظر الحصول على سلسلة متواصلة من الأحكام غير المنصفة بحق الآخر المختلف،والواقع فإن العودة إلى كبريات المدونات الفقهية والتاريخية والجغرافية والأدبية تبين بجلاء أن صورة الآخر مشوّشة،ومركّبة بدرجة كبيرة من التشويه الذي يحيل على أن المخيال الإسلامي المعبّر عن المنظومة العقائدية الإسلامية قد أنتج صورا تبخيسية للآخر،ولم يكن ذلك خاصا به؛فالقرون الوسطى تميزت بأنها تعنى بثبات المعايير وتكرارها،وتنظر إلى الظواهر الطبيعية والبشرية والثقافية نظرة شبه ثابتة، وتستعين بطرائق تحليل تقليدية تفتقر إلى قوة التعليل،الأمر الذي جعل المعرفة الخاصة بتلك الحقبة هشّة،وتنطوي على تناقضات كثيرة،ولم تصمد بوجه النقد،لأنها قائمة على التنميط غير المعلّل، أو الذي يفتقر إلى تعليل يأخذ في الاعتبار العناصر الحقيقية للظاهرة،ولما كانت تلك المعرفة تقوم على ركائز ناقصة،وغير متكاملة، فمن الطبيعي أن المعرفة الناتجة عنها كانت تتّصف عموما بالنقص وعدم الاكتمال
لايمكن تخليص صورة الآخر من الآثار المباشرة التي تتركها عليها الثقافة المتمركزة على نفسها،وقد كانت المركزية الإسلامية، ممثلة بدار الإسلام، ونظامها القيمي المعياري ،هي الموجّه الأكثر فاعلية في صوغ ملامح تلك الصورة،وهي في عمومها صورة رغبوية تتأدّى مكوناتها عن رغبة في تفخيم الأنا الثقافية الأمر الذي يقود إلى خفض قيمة الآخر.
تضافرت المرويات والمدونات التي أشرنا إليها من أجل تمثيل الذات والآخر استناداً إلى آلية مزدوجة الفاعلية أخذت شكلين: ففيما يخص الذات أنتج (التمثيل) ذاتاً نقيّة،وحيويّة، فضخّ مجموعة من المعاني الأخلاقية على كل الأفعال الخاصة بها،وفيما يخص الآخر أنتج (التمثيل) آخر يشوبه التوتر والالتباس والانفعال أحياناً،والخمول والكسل أحياناً أخرى، وذهب فيما يخص الأقوام في المناطق النائية إلى ما هو أكثر من ذلك، حينما وصفهم بالضلال والحيوانية والتوحش والبوهيمية ،وبذلك أقصى واستبعد كل المعاني الأخلاقية المقبولة عنده، فحُمّل الآخر بقيم رتّبت بتدرّج لتكون في تعارض مع القيم الإسلامية.وبذلك اصطنع (التمثيل) تمايزاً مطلقاً بين الذات والآخر ، يفضي إلى متوالية من التعارضات والتراتبيات التي تسهّل إمكانية أن يقوم الطرف الأول في اختراق الثاني،وتخليصه من خموله وضلاله.وهذه الآلية التي وفرت اعتصاماً بالذات وتحصناً وراء أسوارها المنيعة، وإقصاء للآخر وتشويه حالته الإنسانية،هي من نتائج ثقافة التمركز حول الذات داخل دار الإسلام ، والتمركز نمط من التفكير المترفّع الذي ينغلق على الذات، ويحصر نفسه في منهج معين ،ينغلق عليه ولا يقارب الأشياء إلا عبر رؤيته ومقولاته،ومع أن ويوظف كل المعطيات من أجل تأكيد صحة مقولاته
ولا يماري منصّف في أن هذه الظاهرة& الثقافية كانت مهيمنة ،وقد تغلغلت في تضاعيف التصورات العامة،وتحكّمت في توجيه الأفكار،وركدت& مطمورة، ولكنها فاعلة تحت أكداس الخطابات التي حجبت ولمدة طويلة ،كل إمكانية البحث في أمر تعديلها .وهو أمر& يوجب إعادة النظر مجدداً في كثير مما اعتبر من مسلمات الثقافة في هذا العصر ،ليكشف فداحة الأوهام ،وخطورة المصادرات،ويعيد مرة أخرى ،وبكيفية جديدة طرح القضية الملتبسة دائماً،قضية (الأنا)و(الآخر).ليس بوصفها قضية تاريخية،إنما باعتبارها ممارسة فكرية نقدية تقوم بتحرير الذات من أوهام التمركز والتفوّق والأفضلية
كان التصور الشائع عن الذات والآخر يستمد حيويته من المركزية الدينية، أي تلك البؤرة التي تنبثق منها قيم الحق إلى الأبد. وبالنظر إلى أن التصور يذهب إلى اعتبار أن الله هو مصدرها، وأنه& قد حلّ هنا( دار الإسلام) ولم يحل هناك( دار الحرب) فينبغي إذا الوصول إلى نتيجة واحدة: قيم دار الإسلام هي الحقيقية، وهي الشاملة، وهي المطلقة الصواب. وقيم الآخر مثار استغراب،واستهجان؛ فهي وثنية، محقّرة،مدنّسة،يلزم تطهيرها من النجاسة الوثنية. قيم الآخر هي موضوع لحكم القيمة وليس للوصف.
هذا يعني أن النقد ينبغي أن يتجه إلى الظواهر بغض النظر عن علاقتنا بها
كما لاحظت فأنا شديد الحرص على استقلال الوظيفة النقدية،وأقصد بذلك عدم امتثالها لقربنا وبعدنا الشخصي والديني والثقافي عن الظواهر التي نقوم بنقدها.وإذا دققـنا في تجليات (المركزيات) في ثقافتنا وحياتنا وسلوكنا،لوجدنها أكثر من أن تحصى.
&
الباحث العراقي عبد الله ابراهيم:
&
التعليقات