مخبرو& أجاثا& كريستي

&& بعد أن بحثت غادة السمان عن تماثيله في أنقاض الحجر و الصواريخ وسط بيروت، لم تعثر على شيء.
لم يعد هناك من تماثيل إلا هو. منعم فرات، خالي، الذي لم تبكه أمي في "ونينها" لأنه لم يمت. كان فرات في كل حجر على هيئة رأس، أو بوابة، أو جناح لطائر عملاق، أو بحر أو فرات كنهر عذب، أو حتى مسطبة لاستراحة ركد سنين طوال أطبقت على جلدة شيخ عند عتبة داره.
&& لأنه فرات، وهو خالي الذي أراه كل مساء يلم الحجر بنفسه عند عتبات الدور وفي التلال وفي إطلالات الآثار إذ يظل يردد بأن لكل حجر في هذه الأرض روحاً وله حكاية تنتظرنا. يظل ينحت حتى يمل من خدوشه الحجر نفسه، وكل يوم أراه بصحبة رأس وتعويذة و يد طليقة باستقبال حنان جسد ودهشة سائح وهو ينازعه على حمل التمثال معه، وإن تمادى سينفض محفظته عند قدمي فرات يرجوه أن يرافقه، فيهز فرات رأسه، وهو الذي لا يعرف الرفض. يبتسم ويهز الرأس، ولا يحفل لا بكلمات المستر ولا نقوده المرمية عند قدميه ويستمر بنحت الرؤوس.
& في أيامه الأخيرة قبل أن يخطف روحه رأس حجري من تلك التي يخدش ويسوي و ينقش، كنت أراه محنيّاً يلم الأحجار. أسارع لمساعدته فيأمرني بمراقبته. يقول إنه سعيد بالتقاطها، لأنها أحجار منذورة له. وهو حين يأمرني أن ألتقط الحجر محدباً مثله ليعينني على معرفة أحجاري أنا، بينما أشط وأضجر وأعيط: ليس لي أحجار، أنا لست مثلك يا خالي. ينفض عن يده كومة الحجر ويردد: أنت مخطئ كلنا لنا أحجارنا.
& أنا أخشى الحجر لأنني لست مثله. ففي كل مرة أغادر حجرته عند أعلى تل قرب أوروك، أكون قد دسست حجراً من أحجاره في عليقتي أو في سترتي وأبيعه اليوم التالي لأحد الرعاة أو هذا ما بدا لي وهم يمدون لي اليد من خلف شوك الحدود، فالحدود لا تنفرز إلا بشجيرات خرنوب وعاقول وخيط سراب لا يخدع. بل أبعد من ذلك كان يريدني أن أعمل حارساً في موقع أثري. لذا قدمني يوماً لأحد الذين يرطنون بالـ "جا" فحسبته منا، ولكنه أصهباً يتلعثم بالقاف وتحسبه يقوقئ.
& من هناك في أعلى نقطة من الموقع كنت أراه لا يغادر عتبة حجرته في أوروك ويشير لي أغلب الأوقات ويده تعمل. كنت أحاججه في ليالي الشاي والصمت والعبارات المنطوقة لغرض النطق وحسب، لأنها بلا معنى، فالكلام معه يصاحب رغبة هز الرأس ولهم التبغ ومواصلة التأمل إلى أبعد حيز نتمكن منه. أقول له: ما فائدة نحوتك إذا كان يحملها السواح معهم وتبقى بدونها ولا تحفل بالأموال التي يرمونها عند قدميك. يسهم طويلاً وبين لهمة تبغ وأخرى يقول: دعهم يحملون ما يريدون لأنهم يفتقرون لها، بينما الأحجار أحجارنا ونحن الذين نصنع.
&يمرر يدي على التراب ويأمرني أن أتبعه. ينحني على ركبتيه ويطأطئ رأسه ويشم التراب. يقول حاول أن تتعلم من الكلب حاسة شمه، انحني أكثر، أسفلنا عالم آخر لم يعرف بعد... هل تصدق يا أبن أختي أنني في كل ليلة أنزلُ وحيداً حتى نهاية سرداب التل وأكتشف رهبان معابد أوروك في أنتظاري. يبتهجون ويقربونني منهم. كل ليلة نمضيها بتلمس الأيادي. نتحسس الخدوش والكدمات والعروق النافرة وقساوة الجلد ومنبت العظام. نجلس في دائرة عريضة وكل لحظة ينضم لنا آخرون. لا أعرف من أين يأتون، ولكنهم كثر، كنا أكثر من دائرة فنروح نرتل وأيدينا متشابكة. لم أسرد هذا لأحد وأقوله لك حتى لا يظن بي الآخرون الجنون، واخشى أن أحملك معي لرؤيتهم لأنهم لن يظهروا إذا رأوك، كم أتمنى أن تدرك قيمة الحجر وتتعلم التخديش والنحت عني.
& أراوغ وأقول له: لست مثلك، دعني بعملي حارساً هذا أجدى لي.
& الذين يحدثونني عنه كثر. ليست من بينهم أمي لأنها تحفل بونينها وتنوح، ولأن خالي لم يمت ـ تقول هي ـ ، فألجأ لآخرين يعدونني ويهزون رؤوسهم، الوحيد الذي تكلم ولم ينته، هو ذلك الذي يحمل الحجر مني من بين شجيرات الخرنوب والعاقول. يعرفه تماماً، بينما فرات لا يكلمني عنه سوى بهزة رأس: آه ذلك الرجل !
يسمونه ذلك الرجل لأنه ليس له أسم وأنا أراه يرعى الغنم قرب الحدود التي لا تنفرز. لا نتكلم. أسلمه الأحجار ويدس النقود في عليقتي. لم أره يطفر الحد الفاصل سوى لإسترجاع شاة شاردة مثلاً أو تطول غيبتي عليه. في حديثه أكثر من رجل وأكثر من حجر، ولكن أسم فرات لا يسقط عن لسانه. يسألني كل مرة إن كان ما يزال بصحة جيدة، وعندما أجيبه، يدير لي ظهره وهو يدمدم: مثلما تركته، يا لهذا الفرات. قلت له هل تعرفه كل هذه المعرفة، لم أسمع خالي يجيء بسيرتك. "أعرفه" يقول، أنت تمزح ولا شك، آه فرات... منذ وعيت الدنيا وهو بهذه الهيئة.
& في ليلة غاب فرات وبقيت وحيداً. أعلم أنه نزل سرداب التل كعادته. جاء الرجل، الذي يسمونه هكذا، وقلت: آه أنت. ثم جلس قربي ولم يسأل شيئاً. اعتدت عليه كل ليلة. كان يعلم أيضاً بنزول فرات إلى السرداب لذا يجيء. يقول أنت لا تعرفني وكذلك لا تعرف فرات وأرجو أن لا يعرف بمجيئي، أخشى أن يمتنع عن النزول بعد ذلك. ثم يصمت. تلك الليلة لم يصمت. قال هذه المرة أريد تمثال مشخوش.
& أحياناً لا أفرق بين سؤال وطلب لذا أهز الرأس مثل خالي، ولأنني لم أسمع بمشخوش أبداً. ظننت الرجل يقصد رأساً من تماثيل فرات، ولكن مشخوش برأس شيطان وعينين إنسانيتين كما يصفه "آه ذاك الرجل". ثم يضيف أنهم سيدفعون كثيراً، ولكن عليك أن تغافل فرات وتنزل السرداب. قلت كل شيء إلا هذا. فخشخشت يده وسمعت أنزلاق ورقة على أخرى وهو يدسها في عليقتي، ثم يقول: نم بعمق، غداً أمامك عمل كثير!
& كل يوم هو غد بالنسبة لي طالما أن يومي متوقف على حراسة التل، الأحجار، أو ما يسميها خالي روح الطين. ولكنني عندما أفكر بأن الذي يأتي يكون قد أتى سابقاً وبصيغة أخرى، أهز الرأس مثله، وأحرك الحاجب ولكنني لم ألتهم تبغاً بعد. أفكر بهيئة الذي خلف هيئة الذي يمد الوريقات لي ويقول أريده غداً، تمثال مشخوش، ولا أعرفه ، ولكنني أخمنه حتى وأنا لا أريد أن أخدع خالي ولا أن أنزل ولا أريد أن أعرف هيئة المخبر خلف هيئة الذي يمد لي اليد بأوراق تخشخش. يقول: سترى، سيكافئك المخبر كثيراً .
&& سبق وأن حدثني خالي عن مخبرين، وأسماء، وقيثارات وأجنحة، وما بينها عن امرأة ناصعة البياض مثل شبح عزرائيل ـ يقول ـ لجأت له أكثر من مرة برفقة مخبرين لها..لم يكن لهم ملامح، لا تراهم غير قبعات، أطراف قبعات، ثنيات أطراف قبعات بابتسامة واهية وتعلق طويل بكلمة من المسز، يسمونها المسز، وهي بيضاء مثل طيف عزرائيل الذي لم نره بعد، يسمونها مسز، وهي اقتربت من أذني وهمست بنفخة كحول وكلمات باردة، أرجو أن تدعوني أجاثا... أجاثا كريستي، وابتسمت طيات القبعات.
&& حارت المسز، التي تسمى أجاثا، كيف تقترب من فرات. كل صباح قبل أن يخدش بأصابعه الحجر، تكون قد جلست أمامه. تجلس على الأرض وتراقبه. بينما هو يتأمل الحجر لا غير، يفكر ويلتهم تبغه، كانت هي قد غيرت أكثر من ثوب وطقطقت أكثر من إصبع و شمت أكثر من عطر. كانت تبحث عنه عند التل وقرب البيت و تضيع في إطلالات أوروك بحثاً عن خياله، وتصرخ مثل ذئبة في ليل غيبته في السرداب. صباح آخر، خرج خالي وأول ما لمح رفرفة القبعات، مخبرو أجاثا كريستي بلا إبتسامة بينما جثت هي على الأرض بعينين غائمتين فقدتا نوم ليال عديدة. ماءت، خربشت، عوت وأنت، بينما حبل طويل يطوق رقبتها تمده ليد خالي وتنظر إليه بصمت و رغبة خشية أن يغافلها النعاس ولا ترى يده تمتد.
& لم تغف، و لم يغف مخبروها. حملوها بمساعدة زوجها الآثاري بنظارتيه البلاستيكيتين. حملوها إلى أقرب قطار وأودعوها بحبل رقبتها لأنها رفضت أن تنزعه وشحنوها مع حقائب وصناديق حتى لندن. قبل أن تصحو أوروك على تناسل حكاية المسز وخالي، عاد صاحب النظارتين البلاستيكيتين برفقة مخبرين و مجارف وسلاسل ولم يخرجوا حتى حطموا رؤوس وأجنحة وتعاويذ فرات الذي لم يأت بحركة ولم ينظر لهم. طوقوا أوروك من أعلى التل حتى بوابات بيوت الطين بسياج من أسلاك، وابتدأت عرباتهم تحمل كل ما تراه أمامها. حملوا أجنحة ورؤوساً و بوابات و زقورات وملوكاً وآلهة، ولم يلتفت لهم. كما لم يتحرك وهو يراهم يحملون قيثارة عشتار ويتركون لنا بدلا عنها نسخة جبس تتقشر بلا بريق ولا دمعة.
لم أكن معه ولكنني أسمعه كل لحظة يقول: دعهم يحملون ما يريدون، ألسنا نحن الصنعة.
& بينما يده لم تتعب من تخديش و نحت . يراقب عربات وشاحنات وبغال وحمير ورحالة يلتقطون ويسرقون ويتقاتلون فيما بينهم على جناح أو رأس أو إله. تكسرت تماثيله في كل مكان. بحضور مخبرين و بدونهم. كان ينحت و ينحت بلا كلل الليل والنهار، وتناثرت تماثيله عبر أبلام وقطارات وطائرات وسفن، مهربة ومعبأة بصناديق أو أكياس خيش. لا في بيروت عندما لم تعثر غادة السمان على تمثال واحد في أنقاض الصواريخ، لا في سراييفو، لا في لندن، لا في باريس، لا في الربع الخالي، لا في زيوريخ، لا في فلسطين، لا في الخليج ولا في أرورك نفسها، لا في هور ولا في جبل. تناثرت أحجاره، بينما أراقبه يعمل ويحييني أنا الذي أحرس التل غير بعيد عنه.
&تحيته لا تشبه تحياتهم. هم الذين يأتون ملثمين. لثامهم لا يشبه قبعات مخبري أجاثا كريستي ولكنني لا أرى منهم غير إبتسامات لا تنطق سوى بشيء واحد. ما يريدون. "ما نريده ، شيء بسيط وأنت الوحيد القادر عليه". ودون أن أتكلم، أراه يقترب الذي أظنه منا ويقوقئ بالقاف، أقول ولكنك أنت. يربت على كتفي ويقول: هو أنا.
&&&& في الليل تقترب عربتهم. أنزل السرداب ولا أرى شيئاً. وصفوا لي مشخوش. بحثت الليل بطوله ولم أعثر عليه. أخبرتهم وقالوا لي أحمل ما تراه. قبل الفجر ملأوا عربتهم بكل ما طالته يداي. ألواح ومسلات، رؤوس و رؤوس بعيون وبدونها، بهيئة شياطين أو ملوك أو آلهة. تركوني وحيداً منهكاً أعلى التل، هواء ثقيل يحيطني، فراغ ثقيل وروح فارغة، بينما عليقتي الوحيدة الممتلئة بالدنانير.
قبل أن أعرف ما أفعل بهذه الخفة والفراغ، أسمع أمي تصيح ولا تئن، تقول لأنه لم يمت، وهو خالي، فرات، ولكنه لم يعد إلى حجرته، ولم يعثروا له على أثر.
& أبحث عنه في أمكنته. نزلت السرداب في النهار وفي الليل بحثاً عن خيط أثر له. صحت بأصحابه أن يظهروا ولم يجبني أحد. مسدت الأحجار وخرجت حتى أطراف الهور لعله غادر ليجمع أحجاره. لا أثر. كل شيء على حاله إلا فرات، فراغه كبير، ورؤيته لم يعد لها من وجود.
& أجلس أعلى التل ولا أراه يحييني. أنزل حتى حجرته، وللمرة الأولى أدخلها. لم يكن من شيء غير الحجر. حجر لصق حجر. حجر ناطق بابتسامات وملاحم وقصائد طويلة عن الألم والجوع والفيضانات والحروب، ولا شيء آخر " يا صاحبي وخلي، كلانا واحد ولن نكون أثنين. اثنان في واحد، ولكن من منا يلمس أثرنا بلا الآخر. اثنان لا نكون. واحد أكثر من مستحيل. هل لأننا أقرب من واحد".
& تركت عملي أخيراً، وحاول صاحب القوقأة أن يمدني بالدنانير. هززت الرأس وابتسمت وجلست عند بوابة حجرة فرات ألتهم التبغ. اقتربوا كلهم. صاحب القوقأة و الراعي وأكثر من وجه مخبر وجلسوا أمامي. قلت لهم أنتم لا تدركون قيمة الحجر. حاولوا لمرة واحدة أن تدركوا لغز أنف الكلب يشم رائحة جذر الطين اقتربوا مني وشموا. طأطأت رأسي حتى أندس في طيات الطين، فحملوا طياتهم التي تناسلت وغادروني، أحدهم يقول بكل ثقة: هذه لعنة السرداب، ألم أقل لكم ذلك!
& لم يعد فرات بعد ذلك. أقنع نفسي أنه لم يمت، لذا أجلس كل اليوم أخدش الحجر برؤوس وأجنحة، شياطين أو آلهة، لعله يهتدي للطَرقات، لعله يحن أخيراً لخدوش اليد وندب الجروح وعروق التورم من ضرب حجر بحجر ونتوء بآخر.
& جاءوا كلهم ولم يأت فرات، فقالوا: نريد مشخوش، نعلم أنه بحوزتك. لم أتكلم ولم ألتفت لهم. جاءوا ببنادق وشاحنات و جرافات. فقال صاحب القوقأة: الحرب قريبة وإذا لم تتعاون معنا سنهدم التل على رأسك. رحت ألتهم التبغ، بينما حملني المخبرون بعيداً وراحوا يفتشون ويهدمون ويطحنون الأحجار ومضت الجرافات التي تجرف برفقة عيون بعيدة كانت تراقب وهي أكثر قدرة على الجرف. فتلاقت أكثر من عين، أكثر من صوت، أكثر من صرخة، وقالوا: نريده. أستمع لهم من بعيد. عليقتي تحمل بدل الدنانير رأساً من تلك التي سلمت. رأس صنعه لي فرات. أراقبهم كأن الحرب ليست سوى في تل أوروك.
مضيت بعيداً. كنت في كل مرة أسمع صراخهم يتعالى.كنت هناك أسمع صراخهم. لغط بلا كلمات، فزع و موت وهرب. وكذلك أستمع للضربات وهي تنهال على الصخر. أسمع صرخته كذلك، ضابط من جيش أميركي أو بريطاني، لا يهم فكلاهما رطن بانكليزية لا تخطئها أذناي، رطانة من تعلقت بحبل وجثت على الأرض تطلب ود فرات. أحدهم ذكر بأنه رطن بجملة تقول: لا تضربوا، هذه مزوبوتاميا.. لكنني سمعت الضربات فحسب، الضربات التي لم تتوقف ولم تخفت بعد في رأسي، وأنا لا أعرف ماذا أفعل مع الرأس، رأسي، الذي نحته لي فرات، وهو خالي، بينما قدماي تحملاني أبعد من أحجاره، إلى أبعد نقطة من التل. أبعد نقطة في صحراء.
&
مهداة ... إلى منعم فرات طبعاً.
&