&
تطل علينا بين الحين والآخر‏,‏ هجمة علي حرية الصحافة‏,‏ تهدف إلي فرض قيود جديدة علي هذه الحرية‏,‏ التي إن اتسعت بشكل ظاهر‏,‏ وبصورة تراكمية في العالم الغربي عموما‏,‏ فهي عاجزة كسيحة بصفة عامة في العالم الثالث‏.‏
علي البعد تابعنا مشروع القانون المقدم إلي مجلس الشعب المصري‏,‏ بتعديل بعض مواد قانون الصحافة وقانون نقابة الصحفيين‏,‏ ليس بهدف تطويرهما إلي الأفضل‏,‏ أي إلي اطلاق حرية الصحافة بالمعني الدقيق‏,‏ ووفق المعايير المتعارف عليها دوليا‏,‏ ولكن بهدف فرض قيود جديدة وبنود مستحدثة علي هامش حرية الصحافة المتاحة حاليا بهذه الحجة أو تلك الذريعة‏,‏ وكأن الأمر تنقصه مثل هذه القيود‏.‏
ولقد احسنت نقابة الصحفيين‏,‏ حين بادرت فنبهت وحذرت من خطورة عرض ومناقشة تعديلات جديدة تمس حرية الصحافة‏,‏ حتي في البرلمان صاحب سلطة التشريع‏,‏ دون الأخذ في الاعتبار برأي الصحفيين ونقابتهم الشرعية أولا‏,‏ ودون مراعاة ضرورات التطور الديموقراطي في بلادنا ثانيا‏,‏ ثم دون الاطلاع علي الموجة الديموقراطية الهائلة التي تلف العالم كله من حولنا ثالثا‏,‏
علي البعد أيضا لا نعرف بالضبط الدوافع الحقيقية‏,‏ التي تحرك جهات معينة بين الحين والآخر‏,‏ للانقضاض علي الهامش المتاح لحرية الرأي والتعبير‏,‏ سواء بشكل مباشر‏,‏ أو بوسائل التفافية فيها من المراوغة الشيء الكثير‏,‏ في وقت لايسمح بهذا أو ذاك‏,‏ بل في زمن يتطلب ليس فقط اطلاق حرية الصحافة تماما‏,‏ بل اطلاق حركة التطور الديموقراطي الكامل والسليم الذي تستحقه مجتمعاتنا بعد طول الصبر وملل الأنتظار‏!‏
ولعل اولئك الذين احترفوا شن الهجمات الموسمية علي حرية الصحافة لا يدركون خطورة الآثار السلبية السيئة التي تتركها هجماتهم هذه‏,‏ سواء حين تلجأ دول عربية أخري إلي تقليدها‏,‏ وسواء حين يضعنا العالم في موقع الاتهام بانتهاك أبسط حقوق الانسان وحرياته‏.‏
ولقد تابعنا خلال الفترة الأخيرة‏,‏ كيف مالت حكومات عربية معينة نحو تقليد هذا الاتجاه‏,‏ فنقلت عنه تحديدا النصوص الخاصة بتشديد العقوبات وتغليظها في قضايا الرأي والنشر‏,‏ وصولا لفرض عقوبة سجن الصحفيين والكتاب وأصحاب الرأي‏,‏ فضلا عن زيادة الغرامات المالية إلي الحدود التعجيزية‏,‏ وانظر علي سبيل المثال‏,‏ لا الحصر‏,‏ ما جري بعد مصر‏,‏ في دول تنتمي إلي ما نسميه تجاوزا دول الهامش الديموقراطي‏,‏ حين تشددت الأردن في قانون المطبوعات وعقوباته‏,‏ وحين أقر البرلمان الجزائري‏,‏ مشروع قانون الصحافة الجديد المقدم من الحكومة‏,‏ وهو يحمل من نصوص التشدد ما يناقص الديموقراطية‏,‏ ثم حين اقدمت حكومة التناوب الديموقراطي في المغرب علي تعديل قانون الصحافة‏,‏ حاملا نفس نصوص وروح التشدد اياه‏,‏ رغم السيرة الحسنة للمغرب في مجال التطور الديموقراطي‏.‏
‏****‏
والمعني أنه إذا كانت دول الهامش الديموقراطي في العالم العربي‏,‏ تفعل ذلك تناقضا مع الحريات الديموقراطية الاساسية‏,‏ التي صارت عنوانا علي الحياة في عالم اليوم‏,‏ فماذا تصنع إذن دول الهامش غير الديموقراطي‏.‏
هذا من ناحية‏,‏ أما من الناحية الأخري‏,‏ فقد أصدرت لجنة حماية الصحفيين الدولية من مقرها هنا في نيويورك‏,‏ قبل أيام النص الكامل لتقريرها السنوي عن أوضاع حرية الصحافة في العالم‏,‏ وهو يضم عدة آلاف من الصفحات المكدسة بمعلومات موثقة وتحليلات مفصلة‏,‏ قام علي اعدادها خبراء وباحثون وصحفيون متخصصون‏,‏ اكتسب التقرير السنوي بفضل دقتهم‏,‏ مصداقية عالمية‏,‏ ورغم أي انتقادات أو اتهامات بالتحيز توجه للتقرير المعنون هجمات ضد الصحافة في عام‏2001‏ إلا أنه وضع الدول العربية جميعا في تصنيف متأخر‏,‏ وبالتالي فقد أدانها بانتهاك حرية الصحافة طبقا لمعلومات وبيانات ومتابعة دقيقة في معظمها‏,‏ وبذلك فقد انضم هذا التقرير إلي تقارير دولية مماثلة‏,‏ مثل التقرير السنوي لمنظمة صحفيون بلا حدود ومقرها باريس‏,‏ ومثيله الصادر عن منظمة المادة‏19‏ ومقرها لندن‏,‏ في توصيف الحالة المتردية لحرية الصحافة في بلادنا العربية‏,‏ وتظن أن هذا وضع لم يعد ممكنا القبول به في عصر الحرية والانفتاح الديموقراطي الشامل عبر العالم كله‏.‏
ويلغت النظر بداية‏,‏ أن التقرير السنوي للجنة حماية الصحفيين‏,‏ لم يستثن الولايات المتحدة الأمريكية من نقده‏,‏ بسبب اقدامها خصوصا في السنة الأخيرة علي التضييق غير المعهود علي حرية الصحافة وتدفق المعلومات بسبب ما يسمي الحرب علي الإرهاب‏.‏ إذ يقول‏:‏ إن الهجمات الانتحارية علي نيويورك وواشنطن في‏11‏ سبتمبر عام‏2001,‏ قد تسببت في وقوع أزمة حادة في حرية الصحافة‏,‏ ليس فقط علي المستوي الأمريكي‏,‏ بل أيضا علي المستوي العالمي‏.‏
ومن المرات النادرة‏,‏ ان تعاني دول ديموقراطية عتيدة مثل أمريكا ودول اوروبا الغربية ذاتها ـ منبع الديموقراطية وراعيتها ـ اتجاها حاسما وواضحا لتقييد الحريات العامة‏,‏ بما فيها حرية الصحافة‏,‏ في ظل تتابعات آثار أحداث سبتمبر المشهورة‏,‏ وصولا إلي تعمد الحد من الحريات المدنية للمواطنين في دول ديموقراطية راسخة‏,‏ بحجة مكافحة الإرهاب ومقاومة منظمات العنف‏,‏ باطلاق حرية أجهزة الأمن والمخابرات في القاء القبض والاعتقال والتوسع في الاشتباه وتقييد الحركة‏,‏ بل وموافقة البرلمانات الديموقراطية علي تشريعات جديدة‏,‏ تضع ضوابط مشددة علي حرية وسائل الإعلام في نشر المعلومات وممارسة حرية التعبير‏.‏
وبهذا التوجه الذي مارسته الحكومات الديموقراطية العريقة‏,‏ فإنها قد فتحت الباب علي مصراعيه أمام الحكومات الأخري غير الديمقراطية لكي تزايد عليها في التشدد مع حرية الصحافة وتدفق ونشر المعلومات‏,‏ بحجة مكافحة الإرهاب والعنف أيضا‏,‏ حتي وإن كانت متهمة بتشجيع العنف والفساد والإرهاب‏.‏
فإن ذلك يمثل وجها من وحه التأثير السلبي لأحداث سبتمبر والحرب الأمريكية ضد الإرهاب‏,‏ علي حرية الصحافة‏,‏ فإن الوجه الثاني يتمثل في أن العام‏2001,‏ كما يقول التقرير الدولي للجنة حماية الصحفيين‏,‏ قد شهد مقتل‏37‏ صحفيا في دول العالم المختلفة‏,‏ بزيادة‏13‏ صحفيا عن العام السابق له‏2000‏ الذي قتل‏24‏ صحفيا‏,‏ وترجع هذه الزيادة إلي الحرب الأمريكية في أفغانستان التي قتل فيها ثمانية صحفيين‏,‏ بينما ارتفع عدد الصحفيين المسجونين من‏81‏ صحفيا عام‏2000‏ إلي‏118‏ صحفيا في عام‏2001.‏
أما الوجه الثالث الذي عكسه هذا التقرير الدولي المهم‏,‏ فهو انه قد اختار وأعلن ـ كما يفعل كل عام ـ قائمة أكبر عشرة أعداء لحرية الصحافة في العالم‏,‏ وبدون تشهير بأحد فإن العشرة المختارين هم رؤساء كل من الصين وليبيريا وزيمبابوي و روسيا وتونس وماليزيا وكوبا وأكرانيا والمرشد الأعلي لإيران وقائد الدفاع المدني في كولومبيا‏..‏ وقد ضمت قائمة التقرير ذاته في العام الماضي ثلاثة من الحكام العرب‏!!‏
‏****‏
بقي الوجه الأهم‏,‏ الذي عرض له هذا التقرير السنوي‏,‏ وهو الخاص بما جري ويجري من إسرائيل في الأراضي الفلسطينية المحتلة‏.‏
وبداية نود لفت نظر القاريء إلي أن التقرير الذي نشير إليه هنا‏,‏ قد أعدت مادته الأساسية عن حالات انتهاك حرية الصحافة في عام‏2001,‏ وبالتالي فهو لم يتناول حدثا بالغ الخطورة ـ ونعني الحرب الشاملة التي شنتها إسرائيل ضد الشعب الفلسطيني وسلطته الوطنية منذ نهايات مارس‏2002,‏ وهي الحرب التي قتلت فيها القوات الاسرائيلية الغازية ستة صحفيين بينهم صحفي ايطالي‏,‏ وأصابت أكثر من مائة وخمسين صحفيا بجروح بالغة‏,‏ ناهيكم عن الاعتقالات العشوائية‏,‏ واغلاق مقار الصحف ومكاتب المراسلين وتحطيم اجهزتهم الفنية وتلغيم وتدمير مقار الإذاعة والتلفزيون الفلسطيني‏.‏
ورغم ذلك يقول التقرير الدولي‏,‏ إن إسرائيل تمثل أخطر مناطق العالم علي الصحافة والصحفيين‏,‏ حيث أبدت السلطات الإسرائيلية عداء شرسا ضد الصحفيين عموما والفلسطينين منهم خصوصا‏,‏ سواء بغرض الرقابة العسكرية المباشرة علي المواد الصحفية‏,‏ أو بعرقلة أداء الصحفيين لمهامهم المهنية وسحب بطاقاتهم وإغلاق مكاتبهم ومصادرة بعض رسائلهم‏,‏ وصولا لاطلاق الرصاص الحي وبتعمد ظاهر عليهم اثناء تغطية الصدامات خلال الانتفاضة الفلسطينية‏.‏
يضيف التقرير أيضا‏,‏ إن الجيش الإسرائيلي لم يكتف بذلك‏,‏ بل أطلق العنان للمستوطنين الإسرائيليين‏,‏ في شن هجماتهم المسلحة ضد الصحفيين والمراسلين الأجانب‏,‏ مما أدي إلي اصابة الكثيرين منهم باصابات خطيرة‏,‏ دون أن تقدم الحكومة الإسرائيلية علي التحقيق في هذه الهجمات ومحاكمة القائمين بها‏,‏ بل تعمدت حماية وتبرئة الجنود والمستوطنين من تهم تعمد اطلاق النار علي الصحفيين بقصد تعريض حياتهم للخطر‏!‏
من ناحيتنا نستطيع ان نكمل للقاريء الصورة التي وردت في تقرير لجنة حماية الصحفيين الصادر عن مقرها في نيويورك‏,‏ بقراءة سريعة في تقرير دولي آخر له الأهمية والمصداقية نفسها‏,‏ وهو الصادر قبل أيام عدة وتحديدا في آخر أبريل من عام‏2002,‏ عن المعهد الدولي للصحافة ـ ومقره فينا عاصمة النمسا ـ ويتناول بايجاز سريع بعض ما جري من انتهاكات لحرية الصحافة والرأي والتعبير علي أيدي قوات الاحتلال الإسرائيلية في الأشهور الأخيرة‏,‏ أي أنه لم يتناول بالكامل صورة ما جري خلال الحرب الشاملة ضد الفلسطينيين منذ مارس الماضي‏,‏ وإن كان قد تناول بعض ما جري خلال شهور الانتفاضة الثانية‏.‏
إذ يقول إن إسرائيل مسئولة عن‏81‏ في المائة من جملة انتهاكات حرية الصحافة في الأراضي الفلسطينية‏,‏ وهي مسئولة عن قتل ستة صحفيين واصابة‏59‏ آخرين خلال انتفاضة الاقصي‏,‏ دون أن يفتح الجيش الإسرائيلي أي تحقيق جدي في هذه الاعتداءات‏,‏ بل إنه وعد جنوده بحمايتهم وتغطية جرائمهم‏..‏ هكذا ببساطة‏!‏
‏**‏ و في النهاية نقول‏..‏ إنه إذا كان السفاح شارون قد قال أخيرا‏,‏ إن كسب إسرائيل لمعركتها الراهنة ضد العرب والفلسطينيين يعتمد بنسبة‏90‏ في المائة علي الإعلام والصحافة‏,‏ فإننا نقول‏,‏ بالمقابل إن كسب معركتنا الإعلامية الطويلة ضد إسرائيل‏,‏ يعتمد بنسبة مائة في المائة علي حرية الصحافة والإعلام في بلادنا‏.‏
فحين تنعم الصحافة بالحرية‏,‏ تتوافر لها المصداقية والاحترام‏,‏ أما ما دون ذلك‏,‏ فمصيره إلي زوايا النسيان والتجاهل‏,‏ ولذلك نقول لمحترفي شن الهجمات علي هامش حرية الصحافة في بلادنا‏..‏ ارفعوا ايديكم الثقيلة عن الرئة الوحيدة التي يتنفس الشعب من خلالها‏.‏(الأهرام المصرية)