محمد السيف
&
قرأتُ له مبكراً، وعرفته مؤخراً، يوم أن جمعنا العمل تحت مظلة إعلامية واحدة! وما كنتُ أظنُ أنّ له هذا الحشد الهائل من الأصدقاء والمحبين! لهدوئه ورومانسيته وانشغاله بزهوره وأعماله وفنونه، إلا أن الصفحات والزوايا التي حُبّرت على إثر رحيله، من قِبل عدد من المثقفين السعوديين والعرب والأجانب، برهنت على أنه بالفعل "شيخ قبيلة الأصدقاء" كما يقول سمير عطاالله، وكلُ ما كتب وقيل، شهادة ليست بحق الراحل العزيز صالح العزاز، فحسب، بل هي شهادة بحق الإعلام السعودي، الذي كان الراحل أحد أبرز فاعليه، خلال العقدين الماضيين، خبراً وتحريراً وتصويراً وإبداعاً .
لقد كان الراحل صالح العزاز مواطناً صالحاً، أحب وطنه الكبير، فرسمه في قلبه، حُباً ونخيلاً وأنجماً ويماماً، علا كلّ مرتفعاته الشوامخ وهبط في بطن أوديته، ونام على رماله الناعمة، وجاس خلال دياره، فصوّر الوطن في قلبه، ثم دفعَ به من خلال عدسات عينيه، وقدمه لنا في أسفارٍ نفيسة، نباهي بها ونقدمها لزوارنا، كأجمل هدية تختصر الوطن الباهي! .
إن رحلة العزاز من المهد إلى اللحد، مسرحية درامية، تابعنا فصولها، وشدّنا الفصل الأخير منها، فظللنا من خلف الستار نترقب نهاية الفصل الأخير، مؤملين أن يطلّ علينا مسلماً مُحيّياً، ملوحاً بيديه لمشاهديه ومتابعي مسرحيته، كما يفعل الأبطال، إلا أن الموت كان إليه أقرب، فأخذ الله أمانته، وردّ وديعته، والحمد لله على قضائه، ووري الثرى في مقابر النسيم، وزخات من المطر تتوالى على ثرى قبره، في يومٍ من أيام نجد الخزامى، التي كان يعشقها الراحل، فيهرب بعدساته وخياله من مدائن الأسمنت إلى خيام الرمل والبر، لإيمانه رحمه الله بأن جمال البادية الفطري، غير مجلوبٍ بتطرية .
إن ممّا يُميز الراحل صالح العزاز، وهو مُميز حقاً، أنه كان على خلقٍ كبير، وكان في كل لقاء أو محادثة يستحوذ عليك باهتمامه، ويُشعرك بأنك صديقه الأوحد، فيسألك عن التالد والطارف! القريب والبعيد، لذلك لم يكن غريباً أن هبّ أصدقاؤه الكثر، يوم صراعه مع مرضه، يسألون ويهاتفون ويتابعون تفاصيل علاجه، بل إنّ منهم من عبر القارات إلى مدينة هيوستن لزيارة الفقيد الراحل، كما فعل صديقاه المخلصان عثمان العمير وعبدالرحمن الراشد، وغيرهما، وكنتُ قد أزمعتُ والصديق عبدالله المسعود، السفرَ إليه، في أول أيام مرضه، لولا أن أحداث الحادي عشر من سبتمبر قد حالت دون ذلك! فزرناه في التخصصي بالرياض، بعد عودته، إلا أن أخاه عزازاً رغب إلينا عدم الدخول عليه، تلبيةً لنصائح الأطباء، ففعلنا .
في نيسان الماضي، كنا في مراكش الحمراء، نتجول في حدائقها الغناء، وقصورها الزاهية، وقبور أوليائها الصالحين، فذكرنا صالحاً، وهو يُذكر مع لفحات النسيم، وروعات الجمال، وعبق الخزامى، وغصن الياسمين، فقررنا أن نكتب إليه رسالة، فتوقفنا فجأة، وأملى الكاتب المغربي الكبير حسن العلوي فحوى الرسالة، وحبّرها عبدالله المسعود، وأمضيناها، وبعثنا بها إليه، مؤملين صحبته وعدسته، داعين له بالشفاء العاجل ! .
في آخر مكالمة هاتفية لي معه، أخبرني أن صحته إلى الأحسن، وأنه برفقة عصاه، يتجول في حدائق مشفاه، فرجوته أن يعود إلى المملكة، لمدة شهرٍ فقط، ثم يعود لإكمال برنامجه العلاجي، فقال: كم أتمنى العودة ؟ وكم أنا مشتاقٌ إلى مآذن مكة، وصحاري الشيح ورياض القيصوم والعرفج، ومنازل جرير والأعشى، وإلى الرمال التي تغلغلت في مسامات أجسادنا ؟& ثم سألني عن الأديب عبدالكريم الجهيمان، صحته وحاله وأنسه وماله؟!! وقال لي: أن في عنقه ديناً تجاه هذا الأديب الرائد، وأردف يقول أنه في معرضه الذي أقامه في الرياض، وجّه الدعوة إلى عددٍ من رجالات الفكر والأدب، ونسي الجهيمان وآخرين!! إلا أنه فوجئ بالأديب الرائد يتجول في معرضه، وعندما قدم له عذره واعتذاره، أجابه الجهيمان بكل تواضع بأنّ مثله لايُدعى، وأنه سمع عن المعرض، فحضر تشجيعاً وتقديراً لصالح ولأعماله !! يقول صالح: كم هو رائع هذا الشيخ الجميل !! .
بعد أن خرجنا من منزل الفقيد، مقدمين واجب العزاء، لوالده وذويه، سألني الأديب الجهيمان قائلاً: هل صالح يكتب الشعر ؟
قلتُ له : بل صالح يرسم الشعر، أيها الأديب الكبير !
رحم الله صالحاً العزاز، وغفر له، وجعل ما عاناه من آلام تكفيراً له وتطهيراً .