عبدالله المدني
&
&
لمجزرة البشعة التي ارتكبت مؤخرا في أحد جوامع مدينة كويتا بإقليم بلوشستان الباكستانية بحق مصلين من الأقلية الشيعية وقتل خلالها 47 فردا،لم تكن سوي حلقة في مسلسل الصراع الطائفي المتصاعد في باكستان والذي بدأ يطل بوجهه القبيح منذ الثمانينات زمن حكم الجنرال ضياء الحق. إذ من المعروف أنه في الحقبة السابقة لهذا التاريخ كانت الصراعات داخل المجتمع الباكستاني ذات طبيعة اثنوقومية ما بين الأعراق المشكلة للبلاد (البنجابية والسندية والبشتونية والبلوشية إضافة الي المهاجرين القوميين ممن تعود جذورهم الي مناطق مسلمة داخل الهند)،ولم تكن الصراعات الطائفية بادية للعيان أو ذات أشكال دموية.
لقد كان رهان القادة المؤسسين للدولة الباكستانية أن مجرد تأسيس كيان مستقل علي العقيدة الدينية الجامعة، وما يفترضه الإسلام من إخاء وتعاون ووحدة بين معتنقيه بغض النظر عن قومياتهم،كفيل بصمود كيانهم واستمراريته دون صداع. إلا أنه سرعان ما اتضح لخلفائهم أن ذلك الرهان كان مجرد وهم،وذلك حينما تغلبت المشاعر القومية علي الدينية في صفوف الاثنية البنغالية وراح البنغاليون المسلمون من سكان الجناح الشرقي لباكستان يطالبون بوطنهم القومي المستقل. ولما نجح هؤلاء في تحقيق تطلعاتهم وتخلصوا من تهميش وهيمنة أخوتهم في الدين الواحد،اعتقد ساسة باكستان وجنرالاتها أن انفصال باكستان الشرقية في عام 1971 سوف يضع حدا لصراعات البلاد العرقية وبما يساعد علي خلق الهوية الوطنية الواحدة، تماما مثلما عزز الحدث قدرات باكستان الأمنية بجعل جيشها يركز مهامه علي جبهة واحدة بدلا من جبهتين،بحسب الراحل ذوالفقار علي بوتو وذلك في معرض التخفيف علي شعبه من هول الانفصال و الهزيمة في حرب البنغال.
هنا أيضا لم يكن اعتقاد قادة باكستان مبنيا علي الواقع بقدر ما كان مبنيا علي الأمنيات. إذ سرعان ما برزت التوجهات الاثنوقومية في صفوف مواطني بلوشستان والسند،ناهيك عن قبائل البشتون في الشمال الغربي للبلاد ممن راودتهم أحلام إقامة دولة بشتونستان المستقلة بالتعاون مع اخوتهم في العرق داخل أفغانستان منذ عام 1947. ففي عام 1973 قام البلوش بحمل السلاح والتمرد علي الدولة بهدف إقامة وطنهم القومي،ولم ينته هذا التمرد إلا بتدخل ومساعدة شاه إيران الذي خاف من انتقال العدوي الي بلوشستان الإيرانية. بعد ذلك تحول إقليم السند الي مسرح للصراع الدامي ما بين الاثنية السندية ومن يعرفون بالمهاجرين القوميين. وكان شكوي أبناء السند الدائم هو من استيلاء المهاجرين علي أراضيهم وهيمنتهم علي مدنهم الكبري مثل كراتشي وحيدرآباد وتحويلها الي مناطق ذات ثقافة أوردية ،ثم من تعامل البنجابيين معهم بدونية والعمل علي مسح هويتهم الخاصة. لذا لم يكن غريبا أن تظهر أحزاب وحركات قومية سندية تعادي المهاجرين والبنجابيين علنا وتقوم بأعمال انتقامية ضدهم بقصد تهجيرهم. كما لم يكن غريبا أن تظهر في المقابل رؤي شوفينية اكثر حدة في صفوف البنجابيين و شكاوي بالتمييز العرقي في صفوف المهاجرين. أما السلطة فلئن اضطرت متأخرة الي الاعتراف بوجود احتقان عرقي في المجتمع الباكستاني فإنها أرجعته الي عوامل سياسية واقتصادية متجنبة الاعتراف بتمايزات في الهوية وبالتالي وجود طموحات قومية. ومن جانب آخر تصدت السلطة باسم الحفاظ علي أمن البلاد والوحدة الوطنية للصراع الاثنوقومي بالقمع مثلما حدث في بلوشستان علي يد ذوالفقار علي بوتو وفي السند علي يد خليفته ضياء الحق،بدلا من أن تعالج الأمر بالحوار. فلو أن الأنظمة الباكستانية المتعاقبة استجابت لبعض مطالب الاثنيات السندية والبلوشية والبشتونية لجهة الحد من هيمنة البنجابيين ( يشكلون ما نسبته 60 بالمئة من إجمالي عدد السكان البالغ 145 مليون نسمة) علي مقدرات البلاد والجيش أو وفرت أمامها قنوات الوصول الي مراكز النفوذ وصنع القرار ومؤسسة الجيش بعدالة أو منحت أقاليمها جرعات متساوية من خطط التنمية الاقتصادية،لكانت خففت من حدة غلوائها. وبما أنها لم تفعل شيئا من هذا ضمن رؤية واضحة وارادة صارمة،فان الصراع العرقي تنامي وأصبحت كل جماعة وحزب وحركة تتمرس اكثر فأكثر خلف توجهات عرقية وجهوية ضيقة. ومما زاد من حجم المشاكل اختلاط الظاهرة بقضايا أخري مثل الأمية الفقر والحرمان والمخدرات. ثم جاءت القضية الأفغانية بتداعياتها الخطيرة لترسخ التقسيمات والاحتقانات العرقية أكثر فأكثر. فانتشار الأسلحة وظهور ثقافة الكلاشينكوف ساهم في تسييس الصراعات الاثنوقومية وتشكيل كل اثنية لميليشياتها الخاصة وبالتالي انتقال الصراع من الأعمال الفردية والمماحكات البلاغية الي الأفعال العنيفة المنظمة. وكانت الساحة الأبرز علي الدوام لمثل هذه الأعمال هي مدينة كراتشي،عاصمة باكستان التاريخية وميناؤها الأهم ومركزها الصناعي الأكبر،بفضل كثافة سكانها ( نحو 10 ملايين نسمة،أكثر من ثلثهم يسكنون أحياء فقيرة مهمشة ويفتقرون الي أبسط مقومات الحياة الآدمية).
لكن الأخطر من كل هذا هو ظهور الصراع الطائفي في شكله العنيف علي سطح الأحداث ما بين سنة باكستان وشيعتها وتداخله مع الصراع الأثني. فحتي ذلك التاريخ كانت علاقة الفريقين تتسم بالحذر والشكوك الناجمة عن الاختلافات المذهبية التاريخية المعروفة فحسب مثلما هو حالهما في أقطار إسلامية أخري. لكن ظهور القضية الأفغانية بما نجم عنه من اختلال التوازن الطويل ما بين البشتون السنة و شيعة الهزارة (الحضارة)،وانتصار الثورة الإيرانية التي جعلت الأقلية الشيعية الباكستانية ( حوالي 20 بالمائة من عدد سكان باكستان شاملة طائفة الاسماعيليين) تنتشي باستلام مرجعيتها الفقهية لأول مرة لمقادير السلطة في بلد كبير وهام مثل إيران ،دفعت بالأمور الي منعطف خطير. وربما لو لم يكن ضياء الحق بنظامه الديكتاتوري وقوانينه المتسرعة وقتها في السلطة لما توفرت الأرضية الصالحة لاصطدام الشيعة بأخوتهم السنة أو العكس من خلال حركات دينية ميليشاوية.
حيث يذكر التاريخ الحديث أن أولي المصادمات الكبيرة حدثت كنتيجة لقوانين الاسلمة التي فرضها ضياء الحق بهدف منح نظامه شرعية كان يفتقدها. هذه القوانين،ولا سيما ما يتعلق منها بتطبيق أحكام الشريعة الخاصة بجباية الدولة للزكاة و قضايا الأحوال الشخصية رفضت من قبل الشيعة بدعوي تجاهلها لخصوصيات أحكام المذهب الشيعي. وشهدت شوارع كراتشي وإقليما البنجاب وبلوشستان مظاهرات شيعية واصدامات مع قوات الأمن. وزاد الطين بلة تحرك جماعات سنية للاقتصاص من الشيعة علي رفضهم لقوانين الاسلمة،بل هب بعض علماء باكستان السنة لمطالبة ضياء الحق بإعلان باكستان دولة إسلامية سنية والنص علي ذلك في الدستور في محاولة تحد بليدة لصب المزيد من الزيت علي النار. وكان النتيجة أن برزت أحزاب وتنظيمات ذات توجهات واجندة مغرقة في الطائفية من الجانبين وتقودها فئات متشددة بعيدة عن العلوم الشرعية الصحيحة و حكمة علماء الدين. من هذه الأحزاب حزب " طريق نفاذ الفكر الجعفري" الذي تأسس في عام 1987 وراح يناضل من أجل تطبيق الشريعة علي كل طائفة وفقا لمذهبها وضرورة تشاور السلطة مع رموزه في حالات وضع قوانين موحدة للطائفتين. وقد ردت جماعات سنية متشددة من تلك المتأثرة بأفكار العنف والجهاد باغتيال كبير علماء شيعة باكستان الأثني عشرية العلامة عارف حسين الحسيني في بيشاور في صيف عام 1988،مما تسبب في هيجان أبناء الطائفة الشيعية وخروجهم الي الشوارع هاتفين " السن بالسن والدم بالدم والبادي أظلم" ومتهمين ضياء الحق بالتواطؤ في عملية الاغتيال.
كانت هذه هي الشرارة التي أطلقت العنان لصراع طائفي مرير سوف يتخذ أبعادا أكثر دموية ومأساوية. فمنذ تلك الحادثة ظهرت علي مسرح الأحداث جماعات سنية وشيعية متطرفة يقتص كل منها من الآخر بوسائل عنيفة ووحشية في أي مكان وزمان،حتي وان كان المكان دار عبادة والزمان صلاة الفجر أو العشاء أو الجمعة.
والحال أن حادثة كويتا الأخيرة لئن أثبتت أن السلطة ما زالت بعيدة عن إيجاد حل جذري لجرائم العنف الطائفي، فإنها وجهت ضربة الي جهود الجنرال برويز مشرف لتحسين صورة باكستان وخططه من اجل ترسيخ دولة القانون والمساواة قبل خلعه للزي العسكري نهائيا كما وعد.
كان الله في عونه وعون باكستان.
e-mail:[email protected]
باحث وخبير في الشئون الآسيوية