عبد الناصر فيصل نهار
&
&

أمت السلطنة العثمانية في ذمة التاريخ، ولكنها ما قضت نحبها إلا بعد أن لعبت أدواراً مهمة في العالم خلال ستة قرون ونيف، أربعة منها احتل فيها العثمانيون مركزاً في تاريخ العرب لا تحتل مثله أية دولة أخرى، فاعتكف العرب في محراب عبادة الماضي تهرباً من مواجهة التحدي الذي قابلته الأمم الأخرى بقوة وعزم، فيما حمّل العرب كافة هزائمهم ومصائبهم لتلك المأساة العثمانية التي حاربت كل جديد وجمدت كل فكر، لكنهم استعانوا أحياناً بنظرية المؤامرة ووجود تحالفات عالمية مخفية تتحرك ضدهم.
والسؤال الذي يطرح نفسه ويجهل إجابته كثيرون هو: من هم هؤلاء العثمانيون، وكيف أنشأوا إمبراطورية كبرى احتلت معظم البلاد العربية؟!، ولماذا انقطع التشابه بين الإمبراطورية العثمانية والدول الغربية الأوروبية التي كانت تحفل يومياً بالمخترعات والمكتشفات، فيما كان الإفراط في التعصب التركي للدين مصدراً لبقاء الدولة على جمودها وعزوفها عن التجدد، وكان الجهل يصور للشعب أن التشبه بالأوروبيين كفر من عمل الشياطين، وأن ما عندهم من إرث الأجداد هو خير من كل جديد لدى الأوروبيين، ومن وجدت عنده الجرأة على تحقيق جديد تعرض للعزل أو القتل.
وهل يشفع كل ذلك للعرب بقائهم على حالهم منذ عدة قرون؟، بل إنهم قد أصبحوا في الأسوأ وفي غياهب الزمان، حتى رأف بهم الغرب فأطلق عليهم لقب دول العالم الثالث، فماذا فعل العثمانيون وكيف تمكنوا من السير بنا نحو الظلمات، وهل حقاً لن نستطيع النهوض من جديد أبداً؟!..
الخلافة العثمانية/الإسلامية، من /1299 1808م/
نشأت سلطنة آل عثمان في ذلك العصر الذي جاء في أعقاب الحروب الصليبية، العصر المشبع بروح التعصب الديني والجهاد في سبيل الدين، ولذلك فإن السلطان عثمان وأولاده، الذين تنشقوا هواء ذلك الزمن وانساقوا بروح& العصر إلى فكرة الجهاد، ولّوا وجوههم شطر الممالك الأوروبية، وقد استهلوا فتوحاتهم بالتعرض إلى جيرانهم في آسيا الصغرى أصحاب بورصة وأزمير وأزنيق وطرابزون التابعين للإمبراطورية البيزنطية، وخيروهم بين الإسلام والجزية.
وكان النجاح حليفهم وأداروا أنظارهم إلى ماوراء الدردنيل، ولما أتيح لهم الاستيلاء تباعاً على بلغاريا وصربيا والإمبراطورية البيزنطية، راودتهم نفسهم التقدم إلى روما مقام المرجع الأعلى للثكنة ، وكانت النمسا، وهي الدولة القوية، تحول بينهم وبين قاعدة البابوية، ولذلك انصبوا عليها وانتزعوا منها المجر، وجاسوا أراضيها حتى بلغت جيوشهم أسوار فينا عاصمتها ثلاث مرات.
ولقد كان الحافز لهم في بداية السلطنة على الاتجاه شطر أوربا هو العامل الديني، وظل هذا الاتجاه على حالة بفعل قوة الاستمرار وتشابك المصالح بعد أن أصاب هذا العامل الديني ما أصابه من الفتور الكثير نتيجة لقيام سلطنتهم على أنقاض الإمبراطورية البيزنطية.
غير أن واحداً من هؤلاء السلاطين رأى أن يتحول في الفتح عن أوروبا إلى آسيا، وهو السلطان ( باوز سليم 1512-1520م) ومع ذلك فإن تحوله هذا لم يكن يخلو من حافز ذي طابع مذهبي يمت بصلة إلى الدين. ذلك أن التعصب الديني الذي اتسمت به تلك العصور، رافقه تعصب طائفي أفضى إلى مذابح بين السنة والشيعة في آسيا، كما أفضى مثل ذلك بأوروبا بين الروم واللاتين، ثم بين البروتستانت والكاثوليك.
وتحت تأثير هذا التعصب الطائفي زحفت دولة الفاطميين في مصر إلى فتح بغداد في أواخر عهد العباسيين، ولولا السلجوقيون والسنيون الذين كانوا قد أصبحوا قيمين على العباسيين لدخلت دار الخلافة في حوزة الفاطميين قبل أن يتعرض لها هولاكو، ولو حالف النجاح الفاطميين لتحرر العرب من النهر التركي في ذلك الحين.
صادف أن عاصر السلطان سليم عاهل آخر في فارس هو الشاه إسماعيل مؤسس الدولة الصفوية، وكان يحمل لواء الشيعة، فلما اضطهد هذا الرجل أهل السنة، جاراه السلطان سليم باضطهاده الشيعة، فكان ذلك مما أدى إلى وقوع الحرب بين الدولتين، ومما حمل السلطان على أن يتحول عن أوروبا إلى آسيا، ويسوق الأجناد إلى فارس ويحتل عاصمتها تبريز، ولما قضى منها عرج على بلاد الشام فمصر، وكانت القاهرة قد أصبحت بعد سقوط بغداد مقاماً للخلافة، كما أصبحت عاصمة للثقافة العربية، فلما قضى السلطان سليم على المماليك بمصر وانتزع الخلافة لنفسه (1517)م كان ذلك بمثابة القضاء المبرم على العرب.
على أن السلطان سليم قضى نحبه بعد سنوات ثلاث من دخوله القاهرة فاتحاً، ولذلك لم يتح لنا أن نعلم فيما لو مد القدر بعمره أكان يمضي في التوسع بآسيا أم أنه كان ينوي استئناف مهمة آبائه في أوروبا. وأما خلفه السلطان سليمان القانوني فسرعان ما تحول عن الشرق، بعد حربه لفارس للمرة الثانية، وانصرف بكليته إلى أوروبا، منساقاً إليها بدافع المصالح التي انبعثت عن وجود السلطنة إلى جانبها، ولمواجهة الخطر الصليبي الذي كان جيران السلطنة يحاولون إثارته في أرجاء أوربا.
هذا وكانت الحروب الصليبية قد أنهكت قوى الدول الغربية، كما أن الفشل الذي أحاق بها في ختام تلك الحروب انتزع من أهلها القوة المعنوية، لذلك فإن الدول الغربية لم تنشط إلى نجدة الإمبراطورية البيزنطية رغم توسلاتها المتكررة، ولم تحفل أيضاً بنداءات الدول الأرثوذكسية من بعدها، وكان أبرز ما يثبط همم الدول الغربية عن نجدة الدول الأرثوذكسية تلك البغضاء التي تفاقمت بين الكاثوليك وبين الروم أثناء الحملات الصليبية، والتي بلغت حداً كان يحمل الكاثوليكية، على الشماتة بالروم، هذا& فضلاً عما كانت عليه تلك الدول الكاثوليكية عقب هذه الحروب الدينية من التضعضع سواء أكان ذلك من الناحية المادية أو المعنوية.
ولكن ما إن استفحل الخطر العثماني، وأحاق بالمجر حتى قدرت الدول الغربية سوء المصير فتنادت باسم الدين، وتألبت من أجل دفع الخطر التركي وعلى رأسها بابوات روما.
على أن كثرة هذه الدول لم تكن مجدية لها في أكثر الحروب، ولكن ما إن بدأ الانحدار العثماني يستهل بعد موت السلطان سليمان القانوني ( 1520-1566) وظهر في أيام مراد الثالث ( 1574-1596) ويكتمل في حكم أحمد الأول (1603-1617) ويتفاقم في عهد محمد الرابع ( 1648-1687)، حتى شرع الاتحاد الأوروبي ضد السلطنة يتلاشى على التوالي بقدر الاستغناء عنه، وانتهى الأمر بأن اضطلعت كل من النمسا وروسيا بأعباء مهمة إجلاء التركي عن أوروبا، ثم ألقيت هذه المهمة على عاتق روسيا فحسب، التي كانت تطمع بالاستيلاء على القسطنطينية.
وهكذا فقد قدر على سلطنة آل عثمان أن تقضي حياتها في حروب دينية الطابع، بدأت هجومية، ثم صارت دفاعية، رغم أن أكثر سلاطينها بعد فتح القسطنطينية كانوا قد خسروا تلك المواقف.
وهكذا كان شأنها في سياستها الداخلية: فإن السلطنة كانت تحرص على أن تستند في أحكامها على الشريعة الإسلامية مجاراة لروح العصر، ولا حاجة للأسباب هنا في صدد تعصب الشعب التركي للإسلام في ذلك الحين ولاسيما في الجانب الآسيوي من السلطنة، وما الشجاعة التي اشتهر بها الجندي التركي إلا نتيجة لهذا التعصب استناداً إلى أنه كان يؤمن إيماناً صادقاً بأن الذين يقتلون في سبيل الله أحياء عند ربهم يرزقون.
تركيا الإصلاحية (1808-1876م):
بينما كانت الإمبراطورية العثمانية منهمكة في دفع غارات النمسا وروسيا المتتابعة، كان التمدن الحديث في أوروبا يزداد نشاطاً يوماً بعد يوم، ويزود دولها باختراعاته ومكتشفاته حتى انقطع التشابه بين الإمبراطورية العثمانية والدول الغربية الأوروبية.
وكان الإفراط الذميم في تعصب الشعب التركي للدين تعصباً لا يرتضيه الإسلام، كان هذا مصدراً آخر لبقاء الدولة على جمودها ولعزوفها عن الإصلاح والتجدد، وبالإضافة إلى ذلك كان الجهل يصور للشعب أن التشبه بالأوروبيين كفر من عمل الشياطين، وأن ما عندهم من إرث الأجداد هو خير من كل جديد لدى الأوروبيين.
وخلال ذلك تفاقم نفوذ الانكشارية، فاستعان بهم المحافظون على مكافحة كل تجدد وإصلاح، كما أن هؤلاء الأجناد أخذوا يثيرون الشعب وأعداء التجدد باسم الدين في سبيل تأمين غاياتهم ومطامعهم لذلك فإن المصلحين من السلاطين ورجال الحكم كانوا يرون أنفسهم عاجزين عن التعرض لأي إصلاح، وإذا وجدت عند أحد منهم الجرأة على تحقيق شيء منه تعرض للعزل والقتل، وهذا ما أصاب كلاً من مصطفى باشا الثالث ( 1757-1774) وسليم الثالث ( 1789-1807).
على أن هذه الحقبة من الزمن لم تخل، مع ذلك، من إصلاحات في بعض النواحي التي لم يكن بد منها ، فأنشئت أولى دور للطباعة على الطريقة الأوروبية وأقيمت المدارس للفنون الحربية وبعض المحاجر الصحية، وفي أيام سليم الثالث بوشر بتنظيم الجيش على النسق الحديث. غير أن إقدام السلطان سليم الثالث على هذا أفضى إلى& خلعه استنادا إلى فتوى صدرت عن المفتي بأن كل سلطان يدخل أنظمة الإفرنج وعوائدهم ويجبر الرعية على اتباعها لا يكون صالحاً للملك، كما أفضى من ثم إلى قتله بتهمة الكفر وتولى ذلك الانكشارية، ولكن ما أن أتيح للسلطان محمود الثاني (1808-1839) الفتك بطغمة الانكشارية حتى تذللت العقبات أمامه فانبرى إلى تحقيق بعض الإصلاحات، فأنشأ المعهد الطبي على النمط العصري، وبنى دار الصناعة العثمانية، وأوفد بعثة من الطلبة إلى مدارس أوروبا للتخصص ، هذا فضلاً عن ارتدائه ورجال دولته الزي الأوروبي وإصدار جريدة رسمية باللغتين التركية والفرنسية، وإنشائه الأوبرا في استنبول وضربه الأوسمة.
وكان من المفروض أن توالي السلطنة منذ ذلك القيام بالإصلاحات الضرورية لولا أنها فوجئت بأحداث سياسية صرفتها عن شؤونها الداخلية، فقد شنت روسيا الحرب على السلطان محمود وخرج عليه محمد علي باشا والي مصر، بتشجيع من فرنسا، وظل يتقدم منتصراً شطر اسطنبول.
وقبل أن يصل نبأ انتصار محمد علي في نصيبين إلى مسامع السلطان محمود توفي هذا العاهل تاركاً مهمة إنقاذ السلطنة إلى ولده السلطان عبد المجيد (1839-1861).
والواقع أن الفضل في إنقاذ السلطنة إنما كان يعود إلى اختلاف وجهات نظر الدول في القضية العثمانية، ولما أتيح الفوز لنظرية إنكلترا ومن كان في رأيها حكم على المنتصر محمد علي بأن يعود إلى مصر من حيث أتى. على أن هذا الإنقاذ كانت له عواقب سيئة من بعد على السلطنة، ذلك إنها صارت مدينة للمنقذين، ومضطرة بالتالي للتقيد بتوجيهاتهم التي لم تكن خالصة لوجه الإنسانية.
إنهم طالبوا بإعلان ما كان يسعى (بالتنظيمات) ومدارها المساواة التامة في الحقوق بين المسلمين وغيرهم. وهذا شيء معقول، لكنه كان يبدو صعباً نظراً لأن كثرة الشعب لم تكن متأهبة لقبوله.
ومع ذلك فلم يتردد عبد المجيد بإعلان هذه التنظيمات، ولم يبال بما تلا ذلك بسببها من الفتن، بل وجه مصطفى رشيد باشا إلى ألبانيا لإخماد ثورة الأرناؤوط، كما وجه شيخ الإسلام أحمد عارف أفندي إلى بعض الولايات لإقناع الناس بأن هذه التنظيمات لا تتعارض مع الأحكام الشرعية، وبعد انتهاء الحرب مع روسيا المعروفة بحرب القرم أصدر السلطان فرماناً آخر بيّن فيه الإصلاحات المقتضى إدخالها إلى السلطنة.
ولكن كل ذلك لم يدفع المؤامرات الخفية التي كانت تحيكها الدول متفقة ومتفردة في صعيد إثارة بعض المقاطعات العثمانية عليهم تحت ستار تأييد المبدأ القومي، فكانت ثورة أكريد وفتنة لبنان ونازلة جدة، فضلاً عن غيرها في مقدونيا مما شغل السلطنة عن متابعة الإصلاح، وإفراغ خزينتها.
على أن استواء عبد العزيز على العرش (1861-1876)م أنعش الآمال فانصرف فؤاد باشا الصدر الأعظم إلى إصلاح الشؤون المالية والجمركية لأن السلطنة كانت مشرفة على الإفلاس بسبب الديون الكثيرة التي كانت اقترضتها من قبل، ولكن الإفلاس كان أمراً محسوماً، ولاسيما لما اشتهر به هذا السلطان من التبذير.
أما الشعب فكان ولا يزال على حاله في صدد معارضة كل تجدد إلى حد أنه لما شاء الصدر الأعظم فؤاد باشا منح شركة أجنبية الامتياز لمد أول خط حديدي في تركيا، قابل الرأي العام هذه المبادرة بالنقمة خوفاً من امتداد النفوذ الأجنبي بصحبة هذه الشركات.
تركيا المخضرمة (الحميدية) (1876-1909)م:
استوى عبد الحميد على العرش إبان ما كانت الأزمات تحيق بالسلطنة من كل جانب: خزنة مفلسة، جند أعزل، وعناصر تدغدغ أنفسها، أحلام القومية الجميلة، وشعب تواق للحكم البرلماني، وإلى جانب ذلك مؤامرات دولية في سبيل تحقيق الأماني القومية لبعض العناصر العثمانية، هذا بالإضافة إلى مؤامرات سياسية للاتفاق على اقتسام إرث الرجل المريض.
وماذا عليه أن يفعل و إعلان& الدستور لم يجعل أوروبا تقنع به وتعدل عن الاستمرار في التدخل بشؤون الدولة الخاصة، كما أنه لم يمنع روسيا الطامحة عن إشهار الحرب عليه، وعن مفاوضة سائر الدول لاقتسام أمصاره؟. وبعد فأين القوة التي يستعين بها على قمع الثورات العنصرية، وعلى مجابهة التهديدات الدولية؟.
إذن فليس أمامه إلا أن يستعين بالسياسة، ففي الشؤون الخارجية اصطفى ألمانيا الدولة الناشئة التي أصبحت تطمح منذ انتصارها على فرنسا، في أن تقاسم الدول المستعمرة مستعمراتها، وذلك تحت ضغط الحاجة الماسة من جراء التقدم الصناعي الألماني.
اصطفى ألمانيا التي كانت تتحبب إليه، ولا تشترك في الإنذارات التي كانت تنهال عليه من سائر الدول، وقد استفاد السلطان من محالفة ألمانيا لأنها كانت في كثير من الأحيان دعا في وجه سهام المطامع المصوبة إلى صدر السلطنة ودافعاً عنه شر المؤامرات.
وفي الشؤون الداخلية اختار العرب عصبية له فقرب بعض رؤوسهم وأسند إليهم بعض الوظائف في& الجيش ومناصب الدول والمعاهد العلمية والفنية، وألف فرقة منهم لحراسته وأنشأ في العاصمة مدرسة العشائر ووصل بلادهم، وذلك مابين سوريا والحجاز، بالخط الحديدي الحجازي، فضلاً عن أنه أجرى المرتبات إلى زعمائهم وكانت تصل إليهم وهم في بيوتهم حيث كانوا.
وقد انتفع& السلطان مؤقتاً من ممارسة هذه السياسة الداخلية، ولا سيما لأنه خدر أعصاب العرب، وصرفهم عن مشاركة غيرهم من العناصر في الثورات القومية، وذلك بما بثه في روعهم من أنهم جزء من دولة إسلامية هي لهم مثلما هي للترك سواسية، وإلى ذلك وذاك فقد عني بلف العالم الإسلامي حول الخلافة، وكانت رسله وعطاياه وصحفه تتفقد المسلمين في الصين والهند وفي الشمال الأفريقي، فتوثق بينهم وبينه حتى شعر مسلمو العالم، بعد أن كادوا ينسون، بأن لهم خليفة عليهم حق الطاعة له.
ولكن هذه السياسة: سواء أكانت داخلية أو خارجية، وإن استمهلت أجل السلطنة نحو جيل، ولكنها قضت عليها في الخاتمة، ولاسيما لأنها سياسة لم تكن متفقة مع روح العصر، ولا مركزة على قواعد الإصلاح التي تصون الدول من الدمار.
ذلك لأن اعتماد السلطان على ألمانيا ومنحه إياها خط بغداد أثار عليه ثائرة بريطانيا العظمى وروسيا وفرنسا، فشرعت هذه الدول تترقب الفرص لإسقاطه، كما أن إيثار العرب على الترك بتقريبهم إليه، جعل هؤلاء يصغون إلى وساوس الأجانب، وحمل بعض شبابهم على الاشتراك مع الأرمن وغيرهم من أجل إسقاطه، وكانت تجمعهم المطالبة بالدستور على ما بين الفريقين، الترك والأرمن، من اختلاف في الأهداف، وقد نجحت جمعية (الاتحاد والترقي) بإزاحة السلطان عن العرش ومن ورائها إنكلترا وفرنسا.
تركيا الاتحادية(1908-1914)/:
استأثرت جمعية الاتحاد والترقي السلطنة كل الاستئثار، بعد خلع عبد الحميد الثاني، وفي عهده خلفه محمد الخامس ( 1909-1918) حتى لم يبق للسلطان محمد في الحكم إلا الاسم ، وبلغ من نفوذها عليه أنها ساقته للتوقيع على حكم عسكري يقضي بتنفيذ الإعدام على صهره رغم ما كان يضمر له من المحبة، فكان هذا السلطان حيال الاتحاديين كالخليفة العباسي المنتصر.
وما أن تسلم الاتحاديون زمام السلطنة حتى تحولوا عن سياسة الاتحاد الإسلامي: سياسة عبد الحميد، على صعيد العزم على إقامة دولة مدنية دستورية على أساس مبادئ الثورة الفرنسية ، شعارها الحرية والإخاء والمساواة.
وكان أعضاء هذه الجمعية من الشباب المتعلم المخلص، ولكن الخبرة تنقصهم وحسن الظن يتغلب عليهم، فلم يعتبروا بما سلف ولم يحسبوا حساباً لما هو لا يزال قائماً في صلب سياسة أعدائهم، وهكذا فاتهم الإصلاح فضلا عن أنه لا يرضي الغرب فهو مجلب لمشاكل تثيرها الدول كلما هرعت السلطنة لتحقيق شيء منه. ذلك أن أعدائها، الذين يوجسون خيفة من ارتداد الروح إليها، سرعان ماكانوا يخفّون إلى وضع العصي في الدواليب، كلما خطت خطوة نحو الإصلاح كيما تبقى عجلتها في مكانها.
وإلى هذا فإن العناصر العثمانية التي كانت تناضل من أجل الاستقلال قبل الدستور لم تكن مستعدة للتخلي عن أهدافها القومية لمجرد الحصول على الحكم الثوري، بل استعانت بالحرية، التي يفرضها هذا الحكم، للإعراب عن أمانيها بالطرق الديبلوماسية.
ولذلك لم يمض على إعلان الدستور إلا القليل حتى توالت النكبات على السلطنة في الناحيتين الداخلية والخارجية على السواء: فضمت النمسا إليها الهرسك والبوسنك، وانتزعت اليونان جزية اكريد، والتهمت إيطاليا طرابلس الغرب، واستقلت ألبانيا، واكتسحت دويلات البلقان الجانب الأوروبي من تركيا وانتزعت أكثره.
هذا فضلاً عن نشاط العناصر الأخرى من غير الأتراك في حقل المطالبة بحقوقها كاملة، وكان نشاطاً عاماً لم يقتصر على العناصر المسيحية، بل شمل العرب والأكراد والألبان من المسلمين، وحينئذ ذكر بعض الترك السلطان عبد الحميد بالخير، وشرعوا يدعون للرجوع إلى سياسته الإسلامية، كما أن البعض الآخر شرع يؤيد فكرة الاتحاد الطوراني، وأثناء هذه البلبلة في المبادئ العامة ألف الترك المنشقون عن جمعية الاتحاد والترقي (الحزب الائتلافي في مجلس الأمة)، وانضم إليه نواب عرب وزملائهم من العناصر الأخرى، وتضافروا على انتزاع زمام الحكم من الاتحاديين الذين حملوا علم الدعوة للطورانية بعد تألب العناصر عليهم.
وقد وجد الحزب الائتلافي في المصاعب الخارجية التي توالت على الدولة وسيلة لانتزاع الحكم من الاتحاديين ولتأليف الوزارة برئاسة كامل باشا، أحد رجالات الدولة المرموقين في العهد الحميدي، ولكن الاتحاديين ظلوا يتحينون الفرص حتى أتيح لهم الحكم وتأليف الوزارة برئاسة شوكت باشا الفاروقي.
وعدا إعلانهم الحكم العرفي، والتشديد على الذين كانوا يسمونهم رجعيين عمدوا إلى تعطيل الصحف، وإبعاد خصومهم من الجيش، والتدخل في الانتخابات وإلى إبعاد المشبوهين بالنسبة إليهم، فضلاً عن التزامهم سياسة تتريك العناصر غير أنهم لم يتمتعوا مع ذلك بالاستقرار بل ثابرت العناصر الأخرى على المطالبة بحقوقها في شتى الوسائل والطرق، وثأر الائتلافيون لكامل باشا، الذي قتله الاتحاديون، بقتلهم شوكت باشا الفاروقي الذي كان رئيساً للوزارة.&&&
ونشبت الحرب العالمية الأولى (1914-1918) في الوقت الذي كانت تركيا تضطرم كالبركان من خلافاتها الداخلية. بينما كان الاتحاديون لا يزالون يسيطرون بالقوة عليها. ويحاولون إخفاء أصوات المعارضين بأساليب لا تختلف كثيراً عن مناهج السلطان عبد الحميد رغم أن الحكم وقتئذ كان يتسم بالطابع الدستوري.
تركيا الطورانية ( الاتحادية ): 1915-1918 :
لما خلع الاتحاديون السلطان عبد الحميد وأعلنوا الدستور شاركتهم جميع العناصر العثمانية في الأفراح وإقامة المهرجانات على أمل أن يكون العهد الجديد عهد إخلاص متبادل وازدهار كامل. وشمل هذا الفرح شباب العالم التركي غير العثمانيين في سائر الأمصار التركية، بل كان حافزاً لبعض هؤلاء الشبان على أن يهرعوا إلى اسطنبول للساهمة مع إخوانهم هناك في بناء الإمبراطورية المنشودة.
وكان في طليعة هؤلاء الشبان المتحمسين رجلان من تركستان هما (اقتشور أوغلي يوسف، وأحمد أغاييف). وقد أصبحا فيما بعد معروفين بأنهما واضعا مشروع الاتحاد الطوراني، وذلك على أساس التفاف الترك، حيث كانوا حول السلطنة العثمانية.
وقد تردد الاتحاديون، في بادئ الأمر بقبول هذا المشروع. غير أنهم ما أن نفضوا أيديهم من العناصر العثمانية غير التركية حتى أقبلوا عليه يؤيدونه وكان يظاهرهم في ذلك شبان من الترك تأثروا بالنشرات التي كانت تنشر داعية إلى الطورانية منوهة بفوائدها.
ولكن نشوب الحرب العالمية الأولى حمل الاتحاديين على التظاهر بأنهم من المخلصين للجامعة الإسلامية دون سواها. فكان جمال باشا قائد الجيش الرابع منذ وصوله إلى بلاد الشام لا يدع مناسبة تمر إلا ويعلن حرص الدولة على هذه الجامعة.
وكان الاتحاديون يتوخون من الجامعة الإسلامية أثناء تلك الحرب إثارة المسلمين في داخل المملكة وخارجها للجهاد وتحت راية الخلافة. ولكنهم إذ كانوا غير مخلصين في ما دعوا إليه، وإذ كان الناس يعلمون حق العلم أنهم لم يتركوا للخلافة معنى فقد باؤوا بالفشل في دعوتهم هذه، ولا سيما في الأوساط العربية.
كان الاتحاديون أثناء الحرب الطاحنة يتلمسون الاستزادة من القوة والتأييد عن أية جهة تأتي فتحولوا بكليتهم إلى الأتراك أبناء جنسهم. وكشفوا القناع عن وجوههم الطورانية، وعكفوا على تحقيقها بكل الوسائل الممكنة.
وقد فتحت وزارة الداخلية ووزارة الأوقاف ومشيخة الإسلام خزائنها لهذا المشروع، وتضافرت الصحف إلى الدعوة إليه، وأقبل زعماؤهم وشبابهم على تأليف الأحزاب والجمعيات لتأييد الطورانية. أذكر منها (المسكن التركي) و(البيت التركي)، وكانوا يعقدون الاجتماعات في تلك الأندية، ويلقون المحاضرات ويوجهون النشرات، ولاسيما إلى الأتراك خارج السلطنة العثمانية، كما كانوا يوفدون الدعاة إلى المصادر التركية يحثونها على& تأييد الدولة وعلى الالتفاف حولها.
وكانت حليفتهم ألمانيا تشجعهم على نشر هذه الدعوة الطورانية وتساعدهم بإيصالها إلى الأوساط التركية عبر السلطنة، ولا سيما إلى روسيا بقصد إثارة تلك الأوساط ضد هذه العدوة المحاربة، وقد ظهرت تباشير هذه الدعوة هناك بالمحاضرات التي نظموها في سنة 1916 حيث أظهر التتر والكرد والشركس وغيرهم كثيراً من الحماس للاتحاد الطوراني.
ثم كانت الثورة البلشفية، فأعطت مجالاً واسعاً لنجاح هذا المشرع، وكان مرد ذلك إلى أن سقوط القيصرية في روسيا ترك المجال مدة من الزمن، للأتراك الذين كانوا يرزحون تحت أثقال حكم بطرسبرج لن يتحرروا وذلك قبل أن يشتد ساعد الشيوعية.
وقد خف إليهم دعاة الاتحاد الطوراني من اسطنبول، وعملوا على تمكين أواصر العلاقات بينهم وبين إخوانهم في تركيا. وعقد مؤتمر قازان، ثم مؤتمر موسكو في سنة 1917 وبلغ الإقبال على المؤتمر الأخير أن شهده ثمانماية مندوب جاؤوا إليه من أطراف البلاد التركية والمغولية.
ثم لما خسرت تركيا الحرب لجأ أنور باشا القائد العام إلى آسيا الوسطى ليتزعم الحركة الطورانية، وأظهر في ذلك نشاطاً مرموقاً. ولكنه لاقى حتفه هناك في حرب خاسرة مع السوفييت، ولحدت معه الفكرة الطورانية.
هذا وكان الاتحاديون قد رأوا في الحرب القائمة، وفيما عقدوا عليها من آمال النصر فرصة تتيح لهم طلاقة اليد من أجل تتريك العناصر، وهم فضلاً عن ظهورهم بالمظهر العنصري إلى حد عزوفهم عن تسمية دولتهم بالإمبراطورية العثمانية، واختاروا بدلاً من ذلك لقب تركيا. فقد تعمدوا إهمال اللغة العربية التي كانت شبه رسمية، وأظهروا تعصبهم للتركية تعصباً لم يقتصر على الأمور الجدية فحسب، بل أبدوا ألواناً من هذا التحيز ومن جملة ذلك إيعازهم إلى أفراد الشرطة للتدخل كيما تكتب اللوحات فوق الدكاكين والمخازن باللغة التركية، بدلاً من اللغة العربية وغيرها. وكانت غايتهم من أجل طغيان اللغة التركية على غيرها في المدارس أشد وأعظم، وبينما اصطفوا بعض المعلمات العربيات وساقوهن إلى اسطنبول لاستكمال علومهن، وبغية صبغهن بالصبغة التركية. فقد أوفدوا إلى بلاد الشام بعثة تعليمية نسائية كانت على رأسها أديبتهم المشهورة (خالدة أديب) واتخذت هذه البعثة بيروت مركزاً لها واحتلت بعض المعاهد الأجنبية التابعة للدول المحاربة.
غير أن بنات وأبناء البلاد لم يقبلوا الإقبال الكافي على مؤسسات هذه البعثة ببيروت رغم ما فيها من المشوقات. ويرجع السبب في ذلك إلى أمور متعددة أهمها ما كان في تلك المؤسسات من حرية، كانت في ذلك الوقت، تعتبر أوسع نطاقاً مما تألفه الأوساط الإسلامية، هذا بالإضافة إلى الكراهية العامة لتركيا التي آثارها جمال باشا في البلاد من جراء تعليقه على الأعواد فريقاً من أهل البلاد والأحرار، ونفيه بعض الأسر.
ولكن ما إن دارت دائرة الحرب على تركيا وحليفتها ألمانيا حتى أمسى مشروعا الاتحاديين الطورانية والتتريك في عالم الإهمال.
بل كان من عواقب الحرب أيضاً زوال الإمبراطورية العثمانية نفسها تلك التي لعبت أعظم الأدوار في تاريخ سبعة قرون هي بالنسبة للعهد الإسلامي& بمقدار نصف مدته.