سامي البحيري
&

&
عندما كنا أطفالا كانت من العادات المألوفة فى الأحياء الشعبية بالقاهرة أن يستعير الجيران من بعض كل شئ، أبتداء من ملعتقين سكر، أو شوية زيت، وأنتهاء بطقم كراسى السفرة "علشان عندنا ضيوف وما فيش كراسى كفاية عندنا"!! ... وكانت من العبارات المشهورة التى كنت أحفظها وأنا طفل، بعد أن أ طرق باب الجيران، أن أقول بالحرف الواحد: "والنبى ياخالتى أم حسن، أمى بتسلم عليكى وبتقولك بأمارة ما أستلفتى منها الجمعة اللى فاتت حلة المحشى عاوزين كوباية سمنة بلدى، لغاية ما نجيب سمن من البلد". وتقوم الست أم حسن مشكورة بأعطائى علبة السمن وتوصينى بها خيرا لكى لا تنكب على ملابسى (المزيتة أصلا)!!
وعندما كانت أمى تقوم بعمل بعض الكعك والذى تتطلب زبدة أو" سمن" بلدى لزوم الخلطة، كانت أحيانا تفضل أن تخلط الدقيق بالزيت بدلا من أن تستعير السمن أو الزبد من أم حسن أو أم أسماعيل، وتقول :"أهو أحسن نعمله المرة دى بالزيت، علشان يبقى زيتنا فى دقيقنا". وأستعمل تعبير" زيتنا فى دقيقنا" كثيرا، وخاصة عند زواج الأقارب، ويقولون أهو أحسن الولد يتجوز بنت خالته، ويبقى :"زيتنا فى دقيقنا".

.......
وأعتقد أن هذا أحد الأسباب التى جعلت معظم العرب (بأستثناء معظم اللبنانيين) يسكتون وربما يرحبون بالأحتلال السورى للبنان على أساس أنه:"زيتنا فى دقيقنا".
والأحتلال السورى فى لبنان بدأت أحداثه منذ أحداث "أيلول الأسود" فى الأردن فى سبتمبر عام 1970، والتى أنعقدت القمة العربية فى القاهرة لبحث مذبحة أيلول الأسود، حيث قام الجيش الأردنى بمحاولة القضاء على الوجود العسكرى للمنظمات الفلسطينية المسلحة فى الأردن والتى تعاظم وجودها هناك حتى صارت تشكل جيشا آخر داخل الأردن، وفى أثناء مؤتمر القمة (وكان آخر مؤتمر يحضره عبد الناصر)، قرر العرب نقل المنظمات الفلسطينية المسلحة الى جنوب لبنان، وأعطوهم ما سمى فى هذا الوقت" بأرض فتح" ، بالطبع رفضت مصر (قلب العروبة النابض) أستضافة تلك المنظمات المسلحة على الأراضى المصرية، لأن الجيش المصرى لم يقبل أن يكون هناك جيش آخر على الأراضى المصرية، ورفض أشاوس البعث السورى التواجد الفلسطينى المسلح على الأراضى السورية لنفس السبب، وبالطبع الأردن رفض أبقاء هذا الوجود المسلح على أراضيه، وقالها صريحة للعرب أما أن تزيلوا هذا الوجود المسلح أو سوف يقضى عليه الجيش الأردنى، وما الحائط المائل للعرب سوى البلد اللطيف الآمن "لبنان"، والذى لم يكن له ناقة ولا جمل فى الصراع العربى الأسرائيلى، فلم تحتل أى أجزاء من أرضه بعد هزيمة 1967، ولم يدخل تلك الحرب أصلا ضد أسرائيل، ولكنه بأعتباره أضعف جيران أسرائيل، فقد قرر العرب، بقيادة زعيمهم" الذى علمهم السحر" أن يقتطعوا قطعة من أرض الجنوب اللبنانى لكى تكون مقرا للمنظمات الفلسطينية المسلحة، وأعطى أثرياء العرب (حفنة دولارات) الى لبنان مقابل تلك الضيافة الأجبارية، ولم أجد أفضل تعليق على أعطاء جنوب لبنان الى "فتح" أفضل من رأى (عبد الناصر) فى تعليقه على وعد بلفور بأعطاء وطن قومى لليهود فى فلسطين، أنه قال :" أعطى من لا يملك وعدا لمن لا يستحق".
&ما علينا، ويبدو أن القادة الفلسطينيين لم تكن لديهم بوصلة لمعرفة الأتجاهات الأصلية، فبدلا من أن يتوجهوا جنوبا لشن حربا ضروسا على أسرائيل من الجنوب اللبنانى لتحرير فلسطين من النهر الى البحر، وجهوا أسلحتهم شمالا فى أتجاه (بيروت) الجميلة ( واحدة من أجمل مدن البحر المتوسط)، وأقنعوا غلابة المسلمين اللبنانين بأنهم هم جيشهم مقابل الجيش اللبنانى والميليشيات المسيحية المسلحة المسيطر عليها المارونيون المسيحيون، وأقنعوا العرب أن تحرير فلسطين لا بد وأن يمر ببيروت !! وبدأت واحدة من أسوأ الحروب الأهلية الطائفية وأنقلبت الى حرب بين المسلمين والمسيحين، خسر فيها الطرفان كل شئ وأنتهت بألأجتياح الأسرائيلى لبيروت وخروج "ياسر عرفات " رافعا علامة النصر الى حائط مائل آخر هو "تونس". وسبق دخول الجيش الأسرائيلى الى بيروت& دخول الجيش السورى الى لبنان بدون دعوة، والظاهر أن الجيش السورى أعتبر أن البيت بيتنا، وزيتنا فى دقيقنا، وأنهم أصحاب بيت ولا يحتاجون الى دعوة !!
ومضى على الوجود السورى فى لبنان حوالى عشرين عاما و لايبدو فى ألأفق أن هناك أى أمل فى خروج هذا الضيف الثقيل من الأراضى اللبنانية، وفى أعتقادى أن سوريا تتخذ من لبنان رهينة حتى تستعيد الجولان، وعلى رأى المثل المصرى :"ما قدرش على الحمار.. أتشطر على البردعة".
....
وقبل الوجود السورى فى لبنان، أرسلت مصر قوات جرارة الى اليمن "السعيد" فى هذا الوقت، لتأييد أنقلاب (السلال) العسكرى، وكان الهدف المعلن وقتها هو تحرير اليمن من (الرجعية) و (التخلف) !! ودفعها الى الأمام !! وتحريرها من حكم أمام اليمن، وكان الأمام البدر أمام اليمن وقتها (راجل زى السكرة... لا يهش ولا ينش )، ومثله كان أبوه الأمام أحمد، وكان الجيش المصرى يعتبر نفسه جيش تحرير، ليس فقط لتحرير اليمن، لكن لتحرير عدن، وظفار وعمان والجزيرة العربية كلها من التخلف والرجعية. وبدأت حرب أهلية بين مؤيدى ضباط أنقلاب السلال ووراءهم مصر، وبين مؤيدى الأمام ووراءهم السعودية، وفى تلك الحرب التى لم يكن لمصر ناقة فيها ولا جمل ولا حتى (حمار حصاوى)، خسرت مصر آلاف من شبابها وأعتبرتهم مصر شهداء وابطالا وأعتبرتهم السعودية قتلى وقتلة.&&&&&&&&
....
وكانت أيضا حرب من نوع (زيتنا فى دقيقنا)، لم تجد من يعترض عليها لأن من يعترض كان يعتبر بمثابة الخائن للعروبة والتقدمية.
....
واليوم بينما نشهد الهجوم العربى الضارى على الوجود الأمريكى فى العراق والذى لم يتجاوز الثمانية أشهر، لم نسمع ولوعلى أستحياء كلمة عتاب للضيف السورى الثقيل أنه قد آن الأوان لكى( يشد عصاه ويرحل)، وأن عشرين سنة كافية جدا على هذه الضيافة .
وكان بأمكان العرب لو حقيقة يخافون على مصلحة الشعب العراقى أن يدخلوا بجيوشهم لتحريره من الطاغية صدام، على طريقة( زيتنا فى دقيقنا)، ومثلما ضحى الشعب المصرى بخيرة شبابه لتحرير اليمن من حكم( الأمام الظالم )!!، كان بأمكان الشعب المصرى والسورى والسعودى والكويتى والأردنى والبحرينى والقطرى و...و... بأن يضحوا فى سبيل نجدة الشعب العراقى من أكبر طاغية، والذى كان إمام اليمن السابق مقارنة به يعتبر قديسا.
فلماذا هذا الرفض والشجب البطولى من معظم العرب ساسة ونخبة وعامة وغوغاء للوجود الأمريكى فى العراق، رغم أن الجميع يعرف تماما أن الأمريكان سوف يخرجون بعد أن يتسلم الشعب العراقى مقاليد الأمور، وبعد أن يستتب الأمن، ولكن يبدو أن (السمن والزبد والزيت) الأمريكى رغم جودته العالية من الصعب أن يختلط بـ"الدقيق العربى".
&