عبدالله الحكيم



أثار كاتب سعودي طيفا جديدا من تراجم المدن في الأول من ديسمبر عندما قدم من خلال مقال صحافي مدينة جدة على أنها بريق دعاية يختفي وراءه وجه بشع وأطنان من النفايات، ناهيك عن كون أهلها بحاجة لمشروع توعوي جبار يحملهم على التخلص من أوساخ تطال حياتهم بالاشمئزاز.
والأكثر من هذا وذاك ان الكاتب على الموسى سوف يكون سخيا مع أهالي هذه المدينة، فلو قدر له ان يكون مسؤولا عن الأمانة، والأمانة لله من قبل ومن بعد، فهو سوف يصرف نصف ميزانية قسم النظافة وصحة البيئة من أجل تطهير المدينة وأهلها أيضا من الأوساخ.
أنه يبرئ أمانة هذه المدينة من أي اتهامات تطالها، فهو كاتب فيما لو صدق ظنه، فربما يقلص من عمال النظافة لأن منظرهم يسيئ الى أناقته الطازجه، وبذلك سوف يتفرغ لتطهير أكثر من مليوني مواطن يعيشون وسط القاذورات.
لقد مرض الكاتب السعودي عندما جاء الى هذه المدينة، وكذلك مرضت زوجته ومرض الاطفال أيضا، ولذلك طاله استياء بالغ من قذارة هذه المدينة التي تأتي من نواح النظافة، بحسب خبراته وتجاربه في تتبع قيافة المدن، في أسفل القائمة.
أنه يتحدث عن النفايات ومياه كريهة تخرج من الصنابير وقضايا الصرف الصحي، هذا عدا انعدام السلوك الصحي لدى الأهالي اذ لا يوجد لدى أهالي هذه المدينة، على عكس اهالي بيروت وبرشلونة مثلا، احساس بانهم ضحايا لتدني مستوى النظافة، وهكذا فهو يطالب الجهات المختصة بفرض رسوم على العمال وأصحاب المتاجر والعمائر ربما لتدجين خزانة الأمانة بما يكفي لتحرير قيافة هذه المدينة من الأوساخ وربما أيضا الانطباعات العالقة بذاكرته، وبذلك عندما يأتي اليها زائرون على درجة كبيرة من القيافة، فقد يجدون أنفسهم برعاية موقف وقائي، وبذلك لا يطالهم مرض يكشف الوجه الحقيقي للمدينة القذرة.
وشخصيا لو لم تكن هذه المدينة مسقط رأسي وأعيش بها لفترة تكفي لتدوين مذكرات حالمة عنها وأمرض كثيرا عندما أغادرها لأكثر من شهر، لأعتقدت أن الموسى كاتب يتطلع لتحرى الموضوعية في كتاباته عن قيافة مدن وقذارة مدن اخرى. ولكنني على أية حال ربما أعذر الموسى قليلا في تحامله على أهالي المدينة اذا كان يريد تبيان مدى فوقية وعيه الصحي دون مليوني نسمة يعيشون في هذه المدينة، أو ربما أراد أن يوحي الينا جميعا بشفافية النظافة الشخصية التي يتمتع بها، وباستثناء ذلك فهو في كتابته عن مدينة جدة يمارس اسقاطا بذيئا يسيئ الى مشاعر الناس واحساسهم الفعلي بأهمية النظافة سلوكا وايمانا ووقاية، فعن أي شيئ كان يتحدث على وجه التحديد اذن؟؟
أنه لشيئ عجيب جدا أن يكيل الانسان عشرات الاتهامات القذرة لمدينة ما، لكونه مرض أثناء زيارته لها، أفلا يمرض يوميا ملايين الزائرين لأماكن خارج مدنهم، وأفلا يموت مئات الالوف يوميا نتيجة أمراض مختلفة، ولكن بعكس الاحتمال نفسه الذي لا علاقة له بالنظافة من قريب أو بعيد أفلا يمرض كثير من سكان هذه المدينة وغيرها، وألا يمرض كثير من الموظفين والكتبة والمواطنين العاديين في هذه المدينة وهم يغادرونها لدوافع سياحية مثلا& لتلبية استدعاءات وظيفية خارج حدوها المكانية؟؟
اذا لم يكن هذا صحيحا فكيف نفسر اذن انحسار الشواغر الوظيفية في هذه المدينة، وكيف نفسر صعوبة اجراء الوظيفة العامة لمن يريد الانتقال اليها من مدينة أخرى، وكيف نفسر من جانب آخر ارتفاع تكاليف المعيشة والاسكان فيها، وكيف نفسر انتعاش المقاهي وكثرة المؤسسات الصغيرة التي تمارس أعمال تجارية تنصب في حقل الخدمات، وكيف نفسر من جانب آخر بأن التدفق السكاني الى جدة في صفوف المواطنين طلبا للاعاشة أو العمل أو الاستقرار أو التجارة يتجاوز مما هو معروف في كثير من المدن الأخرى.
هنا يفترض علينا التعامل بمنتهى الموضوعية مع ما جاء في مقال الموسى حول قذارة هذه المدينة وانعدام الوعي الصحي لدى أهلها، فاذا أخذنا خواطره الصحافية على محمل الجد، فمعنى ذلك أن أهالي جدة لا ينعدم لديهم الاحساس الفعلي بأهمية النظافة، وأنما ايضا جميع المواطنين المذكورة دوافعهم بالمجئ اليها كذلك، وعلى هذا الأساس فمهمة الكاتب الموسى بوصفه امينا افتراضيا لهذه المدينة قريبا كما يتمنى هو، لا كما نريد له نحن، لا تنحصر في تطهير الاحساس الجمعي توعويا بممارسة النظافة للأهالي، وانما يفترض عليه فتح برنامج آخر لتعليم قادمين جدد، بدعوى الاستقرار وظيفيا أو معيشيا الى هذه المدنية بألا يكونوا قذرين مثل عموم الأهالي.
من الواضح ان الكاتب الموسى بسرده معلومات عشوائية في الصحافة السعودية، ناهيك عن احالاته المفعمة بنكهة الاستشراق السياحي لا يمارس تشهير الغيلة بهذه المدينة التي يحبها سعوديون وغير سعوديين أيضا، وانما أيضا يمارس قذفا جماعيا لأهالي هذه المدينة بدعوى انتهازية ظاهرها - كما هو مكتوب بتوقيعه- قلق على المستقبل الصحي للأهالي، وباطنها، كما استشعر ذلك بوصفي من بين أولئك الناس، ايماءات لرغبة شرهه بالجلوس على كرسي الأمانة مقابل نيله العشوائي مبديئا من احساس الآخرين بأهمية النظافة وذلك بتجريدهم من هذا الاحساس تماما، ناهيك عن اعلان ذاته كدهقان جباية يزعم لذاكرته حيازة& افكار مثالية تنفي القذارة عن هذه المدينة القابعة واهلها في ذاكرة للرؤى القذرة.
لقد أراد الموسى أن يقول لنا انه غير متعود على رؤية الأوساخ في مدن ألتقت به وألتقاها فأرتمى بين احضانها،فمن الواضح أنه، وبحسب سردياته عن مدن نظيفة جدا وأخرى قذرة جدا، لا يخرج الا في أوقات تنعدم فيها نفايات العالم، وأما مدينة جدة، فمن وجهة نظره أنها مدينة تعيسة وكم كان حظها عاثرا لأنه تجول فيها على حد زعمه نهارا فأقتنص القاذورات تنتشر في كل مكان واستاء من عمال النظافة لأنه رآهم يقومون بأعمالهم، فكم هو رائع الانسان اذ يرى اشياء لا نراها، وكم هو غير لائق بالانسان ان يغيب احساسه بجماليات هذه المدينة المعروفة بشفافية التسامق الاتيكيتي في تناولات الموتيف الاجتماعي للياقة المدن وبرقي أهلها درجة التسامح مع الآخر والتعايش بلطف مع حرارة الجو ورطوبة المناخ، فلا تلتقط ذاكرته سوى نفايات اهالي متعبين في الأحياء الشعبية.
ان على الموسى لا يكتفي بادانته هذه المدينة الراقية على غير علم، وانما يمارس حيال أهلها تبكيتا يتجاوز الحرص الى الوصاية، ناهيك عن كونه يستأنف ما بين سطر وآخر اسقاطا دونيا مملا يتكشف انتهازية للاساءة الى مدينة تتكامل فيها طراوة الحياة بكثافة الحركة، وخفة الظل بعراقة الأناقة.
لقد كان قدر هذه المدينة أن تبقى أنيقة عبر تاريخها الطويل، وهي كذلك الآن وسوف تبقى كذلك مكان مترع باجتماعيات الألفة وتفاصيل التألق مقرونا بوميض الغرابة، ولذلك فهي مدينة يتنافس في السباق اليها شرائح مختلفة الأعراق ومتوافقة في عناصر التقارب.
أنها مدينة تثير في صفوف زائريها كل شيئ، واحيانا لا شيئ، فهي مدينة الغرائز والثراء والألم، وما بين هذا وذاك فهي& تستلب من الآخرين أكثر مما تعدهم به ارادتهم اذا ارادوا الخروج. لقد جاء اليها كثير من رعايا الداخل ومواطني الخارج فاستعذبوا الحياة فيها وبقوا لسنين عددا.
انها مدينة المراكز التجارية والحياة على مدار الساعة واقتناص الفرص، وكا هي كذلك فهي بالنسبة لآخرين مدينة الكفاف والفاقة وفيها مخابئ كثيرة لطرافة البحر المهاجر.

انها مدينة يدلف اليها الكثير ويخرج منها القليل قياسا بما يرد اليها، وهي تملك دون أدنى شك في الوعي الجماعي حضورا يجبرك على حبها وان كانت في النهاية لا تحب غير نفسها، فهي مدينة الأماسي والسباق على الكراسي وهي مدينة لا تعدم الرغائب ولا الأسئلة.
لقد كنا ننتظر من الموسى أن يتحدث عن شيئ ذي صلة بتسويق الأماكن والمدن العائمة، فاذا به لا يخرج لنا من هذه المدينة غير نفاياتها، وكأنها انما قامت على أنقاض الزبالة، ونحن ايضا كأنه، بوصفنا من بين أهال لهذه المدينة، قد سقطت رؤوسنا اثناء الولادة بين ركام النفايات ونشأنا لاحقا بين أحراش الزبالات، وفيما يبدو لاننا نفكر على نحو آخر فافكارنا ربما تزدهر بنكهة النفايات، وهذا غير صحيح وغير ممكن وغير معقول ولا أساس له من الصحة، فكيف بنا اذا أردنا تقييم ما لا يقل عن مليونين مواطن معضمهم يستحم كل يوم وليلة ولا يلقي بنفاياته على نحو عشوائي كيفما أتفق احتراما لحقوق الناس وعملا منه بالوازع الأخلاقي تجاه الشارع العام.
أنه لشيئ غريب فعلا أن يتجاوز الانسان رؤية نفايات وذباب تسكن أناقة المدن الى رؤية قذى في عيون مليوني نسمة، ومع ذلك فلا يحس أن في عينه ربما تسكن الخشبة.

كاتب صحافي سعودي
[email protected]
&