يقف العربي مدهوشا أمام ما يراه يوميا وما يسمعه من كلمات كبيرة المعاني، إيجابية وسلبية، ولكنها وقائع يومية تبثها وسائل الاعلام الأميركية المنشأ أو الهوي وبمختلف اللغات، بما فيها العربية، وتغلب عليها طبعا المفردات الأولي من جملتي العنوان، حتي بذل الرئيس الأميركي ومؤسساته البحثية وأركان إدارته جل وقتهم لترويجها، هدفا لفعاليتهم ومسعي منهم للفوز بفترة جديدة في البقاء بالبيت الأبيض في انتخابات نوفمبر القادم. ولكن السؤال: كيف يتم جمعها في قدر واحد وطبخها وإنضاج وجبة منها لإقناع الناس الذين يتضورون ألما من آثار المفردات الثانية منها ومعها في آن واحد؟.
في مؤسسة أمريكية عن الديمقراطية ألقي الرئيس الأميركي الحالي خطبة عصماء عن ضرورة الديمقراطية للعالم العربي والإسلامي، ومدح الإسلام وبعض الحكومات العربية التي تطبق برأيه الحل الديمقراطي ولا تعرف بلدانها سجونا للأحرار من سكانها ولا تحجب الصحف الحرة عن آلاف قرائها. ويقينا لا يختلف المرء مع الأهداف المعلنة منها ولا يتردد بالتصفيق لها والهتاف بأعلي صوته إطراء لها ولقائلها، فهي جمل انشائية نظريا، ولكن كيف يقتنع المكتوي بنار الاحتلال وإرهاب الدولة والاضطهاد اليومي بها، ومتي يجد لها مصداقية حين يتذكر انه سمع مثلها من حكايات أجداده، ويسمع اليوم تكرارها وتغليفها بأوراق ملونة معاصرة في إعادة إنتاجها، ومشاريع تسويقها، ويقارن فيراها حصيلة متواصلة لأحفاد لنكولن ومكارثي وبلفور وتشرشل؟.
ومن جهته زار كولن باول العديد من البلدان العربية مؤخرا، وخص منها لأهداف المنافسة، تلك التي زارها الرئيس الفرنسي جاك شيراك، ولا أريد هنا التنبيه من التسميات التي خطط لها ضمن المشروع العدواني الاستعماري الذي استهدف سلخها من انتمائها الطبيعي للوطن العربي، وإعلان اسمها فقط بلدان شمال أفريقيا، لا يجمعها غير البعد الجغرافي في شمال القارة الأفريقية وحسب، وهذا ما جري التركيز عليه في مخططات تمزيق العالم العربي ومحو اسمه من الخارطة السياسية، وتشويه حتي الاسم ووضع مسميات مغايرة لا تعتبر الإطار القومي والهوية الحضارية الإنسانية لمجموع سكانه والروابط التي تجمع بينهم ككتلة بشرية موحدة وفاعلة ولها دور مشترك في البناء والحضارة والثقافات العالمية. ولا أريد التعقيب علي الكلمات التي قالها المسئول الأميركي في هذه البلدان وإنما أريد الإشارة إلي مطالبته بتعزيز الديمقراطية فيها أولا وتفعيل مشروع شراكته الذي خصص له 29 مليون دولار وافتتحه في سفارة بلاده بتونس. لأصل إلي ما يتفرج العربي المسكين المبتلي بالفقر والأمية وقمع سلطاته وأحزابه واضطهاد مرؤوسيه وأولي القربي من الأثرياء باتجاهات حياته اليومية علي مصطلحات قادة العالم الجديد، ورسل الإمبراطورية المنتصرة بصواريخ التوماهوك وطائرات الشبح وأم القنابل وأسلحة اليورانيوم المنضب والقنابل العنقودية والاسيجة الإلكترونية والحواجز الكونكريتية وتشريع الاحتلال بمراسيم رسمية علنية صادرة من الأمم المتحدة التي قامت علي أساس مناهضة الاحتلال والاستعمار وتحرير الشعوب من آثارها وإقامة السلم والأمن في العالم. فكيف يحس بمعني لمثل هذه الخطب والمفاهيم المعكوسة لمدلولاتها؟ وهل يصدق عينيه أم أذنيه؟..
واقع وصور الحال في بلدين رئيسيين في العالم العربي يردان بوضوح صارخ علي كل أطنان الأقوال التي دبجتها آلة الحرب الإمبريالية الجديدة وقالها باسمها رموزها المتنفذون اسما، كالرئيس بوش الابن أو وزيره باول وحتي رامسفيلد. هذان البلدان هما فلسطين والعراق، وكلاهما تحت الاحتلال العسكري الأميركي المباشر بالعراق وبالنيابة بفلسطين. وماذا يحصل فيهما اليوم يفضح كل تلك الدعاوي ويفندها ويكذبها كل ساعة وليس كل يوم، فكيف يحترم الإنسان تلك الكلمات الرنانة بعد؟. وعن أية ديمقراطية يتحدث بوش ويردد خلفه باول أو بيل أو رايس أو غيرهم، ويدبج كتبتهم المقالات عنها في وسائل الاعلام؟.
احتلت فلسطين من اكثر من نصف قرن ومازالت تحت تسمية قوة عنصرية استيطانية اجبر الحكام العرب علي الموافقة علي التقاسم المرحلي والاعتراف بوجودها كيانا اغتصابيا مفروضا بضغط موازين القوة المسلحة والأيديولوجية للصهيونية العالمية المتنفذة في الإدارة الأميركية والأوروبية الغربية طيلة العقود المنصرمة بشكل أو بآخر، وبوسيلة أو أخري، وبهذا القدر أو بغيره، علي جزء من ارض فلسطين، من اجل السلام والأمن في المنطقة والتنمية والتقدم لشعوبها، ولم ينفعهم ذلك شيئا بل زادت عمليات العقاب الجماعي والعنصري ضد شعب فلسطين لإبادة السكان الأصليين كما فعل أسلاف الإدارة الأميركية الحالية بسكان أمريكا الأصليين من الهنود الحمر ومارسوا ضدهم ابشع الوسائل التي يتبجح شارون بها الآن دون وجل أو خشية من تطورات وسائل الاعلام والقانون الدولي والرأي العام العالمي الذي قدر في استفتاء الاتحاد الأوروبي مكمن خطره علي السلام العالمي. واحتلت الولايات المتحدة وحلفاؤها الأوربيون العراق هذا العام، بنفس الطريقة اللصوصية والأكاذيب والممارسات الاستعمارية، تجاوزا علي القوانين والأعراف والشرعية الدولية والأمم المتحدة ودساتير بلدانهم، وفرضت الاعتراف الرسمي بأعمالها العدوانية وممارساتها المناقضة لكل ادعاء بالديمقراطية والحريات والحماية الإنسانية وغيرها من مفردات الخداع الشامل التي تضعها وسائل الاعلام والمسئولون الغربيون أداة لاستمرارية حكمهم وهيمنتهم علي العالم وإساءة للإنسانية والقانون الدولي.
الواقع المرير الذي يعيشه الشعبان العربيان، الفلسطيني والعراقي، اليوم تحت محنة الاحتلال العسكري والعقاب الجماعي يكشف زيف استخدام بوش وأركان إدارته لمفاهيم كلمات ومصطلحات تريدها الشعوب، ومنها العربية بالذات، وتناضل في سبيلها بل وقدمت تضحيات جسيمة من اجلها، ومازالت تتوق لها سليمة صحية لا تشوبها وسائل الخداع والكذب الشائعة، ولا حل لها بدونها، ولا يمكن أن تجد مستقبلا لها دون أن تعيش بحرية خالية من الاحتلال العسكري والاقتصادي ونهب الثروات واستغلال الطاقات البشرية والطبيعية، وتسعي هي الأخري لتكون واحات خصبة للديمقراطية الحقيقية والسلام والأمن والطمأنينة، وهذه لا تنجز في ظل وجود القواعد العسكرية وانتشار القوات المسلحة الاجنبية وقصف الطائرات وهدم البيوت وحرق المزارع والبساتين وجرف الأراضي المزروعة وملء السجون بالمناضلين من اجل حقوقهم المشروعة التي كفلها لهم القانون والشرع الإنساني. كيف تكون حرية وديمقراطية ودبابة صهيونية أو أمريكية وجنود صهاينة أو أمريكيون مدججون بالسلاح يغلقون دروبها ويعسكرون فوق أبواب المدارس والمعاهد والمصانع والبرلمان ومنشآت النفط والكهرباء والاتصالات والبنوك ووسائل الاعلام؟ وكيف يثق أنها جاءت لتحمي لا لتبقي وتستعمر، وأنها قدمت لتؤسس وتسهم لا لتنهب وتغتصب وتهيمن؟.
لا حرية كاملة ولا ديمقراطية حقيقية، خلال التجربة التاريخية، بنتها قوات غزو واحتلال في أي بلد من العالم المعاصر!. إنها شعارات براقة للدعاية الانتخابية وحسب، وكل هذا الكلام النظري هو شعار رديف للممارسة العملية له، ديمقراطية: احتلال عسكري، وحرية: عقاب جماعي، وإلا فلماذا يجري ما يجري؟!!.
[email protected]
كاتب صحفي- لندن
التعليقات