د. ياسين الانصاري
&
&
&

لقد نصّت كافة المواثيق والاعراف الدولية خاصة الفقرة الاولى والثانية من لائحة حقوق الانسان الصادرة من الامم المتحدة بتاريخ 6 تموز 1994 بأن الانسان وُلد حراً وله كامل الكرامة والحقوق والحرية من أن يفكر بما تمليه عليه إرادته الذاتية والاعتقاد بما يشاء من المبادئ والايدولوجيات التي تصب في مجملها في خدمة ورقي أخيه الانسان وفق معايير وأطر تحددها الأعراف والتقاليد للبيئة والوسط الذي ينتمي اليهما ويعيش فيهما ذلكم الانسان دون النظر الى عرقه ولونه وجنسه ولغته ودينه ورأيه السياسي وخلفيته القومية والاجتماعية وكذلك ملكيته ومولده وحالته الاجتماعية. من هنا نجد بان الكثير من الامم الراقية اكتسبت رقيها وديموميتها في التقدم والازدهار من سياساتها القويمة في مجال حقوق الانسان وحرية الفكر وإبداء الرأي واحترام الرأي الاخر والتأكيد على سياسة التعايش بحب وسلام بين كافة أبناء شعوبها بدلاً من التعصّب القومي والطائفي، والتركيز على سياسة العدالة والمساواة بين جميع أبنائها بأعراقهم ودياناتهم وطوائفهم المختلفة.
ونظراً لعودة العراق الى حظيرة المجتمع الدولي بعد زوال النظام البائد لابد أن نعيد للانسان العراقي حريته الكاملة في التفكير والتعبير عن رأيه ولابد من توعيته للحصول على كامل حقوقه الانسانية وذلك بالتوجه نحو إعادة بناء الأساس الفكري في عملية إصلاح نظام التربية والتعليم والنهوض به ليعكس واقعاً عراقياً جديداً تسوده الحرية ويتبنى الأفكار والآراء السليمة التي تتناسب بل وتنسجم مع المبادئ الانسانية التي تقرّها كافة الاعراف الدولية، هذا الواقع الجديد سيكون من شأنه تمكين طلبتنا من فهم مبادئ الحرية والديمقراطية وحقوق الانسان فهماً موضوعياً مع الحفاظ في ذات الوقت على الهويّة الحضارية والثقافية الغنية والمتعددة الاعراق لبلدهم العراق. ولايخفى على احد من أن الرموز الفكرية والسياسية العراقية الوطنية التي عانت الكثير من الاضطهاد والظلم خلال الحقبة الماضية مارست ولاتزال تمارس دورها المعهود في توعية الأمة نحو العمل على رفض كل ما يتعارض مع حرية الفكر والديمقراطية وحقوق الانسان، لقد كانت هذه الرموز الفكرية والسياسية دائما في موقع الصدارة في التصدي لكل الايديولوجيات التي كانت سائدة خلال العقود الماضية والتي لاتخدم الانسان وحريته وتفكيره وابداعه بل وحاولت جاهدة على اجهاض كل ما في ضمير الامة من عنفوان ونهوض نحو مفهوم حرية الفكر وابداء الرأي، هذه الرموز الفكرية والسياسية الوطنية التي تعتبر رصيداً فكرياً وفعالاً في الامة لابد من أن تلعب دوراً رئيسياً في إعادة بناء الاساس الفكري بناءاً سليماً وإعادته إلى مساره الصحيح وذلك بتعبئة كافة جهودها وطاقاتها في هذا المجال لمحو كل الأفكار المشبوهة والهدامة والمرعبة والغريبة على امتنا التي حاول النظام البائد غرسها في عقول الطلبة كسياسة الحزب الواحد والفكر الواحد وسياسة الويل لكل من يدعوا الى معارضته، وهذا ما حصل فعلا في كافة المدارس والجامعات في العراق خلال العقود الماضية حينما كان النظام يعتقل الأخيار من الطلبة لايمانهم بحرية الفكر وإبداء الرأي ولرفضهم الانصياع والانقياد إلى أوامره الحزبية بل وكان يغيّبهم في معتقلاته الرهيبة ليكونوا عبرة للطلبة الاخرين الذين يحذون حذوهم في النضال والتصدي.
ولكي أطلع القارئ الكريم على مصداقية ماتقدم أعلاه كان لي الشرف ذات يوم أن أزور إحدى مدارس البنات في شهر حزيران الماضي في واحدة من محافظات العراق الجديد ودخلت في الصف الثالث المتوسط وبمعيّة مدير التربية والتعليم ومديرة المدرسة ومعاونيها، وإذا بالطالبات وكأنّهن جالسات في إحدى زنزانات سجون بغداد الرهيبة. طلبت منهن الجلوس باسترخاء وبصورة طبيعية بعد أن أخبرتهن بأن عهد الارهاب والرعب قد ولّى، ثم طلبت منهن عرض مشاكلهن التي تواجههن في المدرسة وإبداء رأيهن بكل صراحة حول حل تلك المشاكل ولكن دون جدوى وذلك لتعوّدهن على السماع فقط وعلى عدم إبداء الراي بتاتاً، وبعد تشجيعهن على التحدث بكامل الحرية قامت إحداهن لتلقي على مسامعنا وبكل جرأة إحدى المشاكل التي تواجهها وأخواتها الطالبات في المدرسة دون إبداء رأيها في الطريقة المناسبة لحل تلك المشكلة. هذه الحالة التي وقفت عليها شخصيا تبرهن على أنّ طلبتنا يمتلكون القدرة والقابلية لأن يمارسوا حقوقهم وإبداء أفكارهم وآرائهم الشخصية لو تهيّات لهم أجواء الحرية والديمقراطية ولو حققنا لهم ما نصبوا اليه في إعادة بناء الأساس الفكري في نظام التربية والتعليم.
نعم هناك الكثير من التحديات التي تواجه عراق اليوم وخاصة إعادة إعمار وتطوير مرافقه الحيوية، ولكن هناك أولويات في العمل ومنها على وجه الخصوص مسؤولية إعادة بناء الاساس الفكري في عملية إصلاح التربية والتعليم. ولكي نعيد للطالب العراقي ثقته بنفسه ومنحه كافة الحقوق الانسانية في حرية الفكر وابداء الراي وحتى نشعره بانه أهلاً بالمسؤولية وأهلاً لاستلام المراكز القيادية في المستقبل لابد على وزارة التربية والتعليم أن تتحمّل أعباء هذه المهمة وتتحرك سريعاً نحو هذا الهدف الانساني النبيل وذلك بتنفيذ الامور التالية:
1-&توفير مكتبة تضم معظم المراجع والكتب التي تنّور ذهن الطلبة في مختلف المجالات الفكرية والثقافية والسياسية في كافة مدارس ومعاهد وكليات العراق.
2-&تجهيز كافة مدارس ومعاهد وكليات العراق بقسم خاص للحاسوب الآلي والانترنيت ليتمكن الطلبة من التواصل مع كل ما يصدر من جديد في حقول الفكر والثقافة والسياسة في العالم.
3-&محو كافة الفقرات التي تؤدي إلى افساد حرية الفكر والراي من المناهج الدراسية التي فرضها النظام البائد على الطلبة.
4-&دعوة المفكرين والسياسيين العراقيين الوطنيين لزيارة كافة مدارس ومعاهد وكليات العراق لالقاء محاضرات دورية حول مفهوم حرية الفكر وإبداء الرأي وكافة المبادئ الانسانية الأخرى.
5-&دعوة طلبة المدارس والمعاهد والكليات في العراق بزيارة أحدهم الآخر للتعرّف على وتبادل الآراء والأفكار فيما بينهم.
6-&تشجيع الطلبة على الكتابة في كافة الامور التي لها علاقة بالفكر والثقافة والسياسة ورصد جوائز تقديرية للطلبة المتفوقين في هذا المجال.
7-&تشجيع كافة الطلبة في المدارس والمعاهد والكليات في العراق على اصدار مجلات ثقافية لنشر انشطتهم الفكرية والثقافية والسياسية.
8-&إقامة معارض موسمية للكتاب في مدارس ومعاهد وكليات العراق يشرف عليها الطلبة.

وهناك امور اخرى ملحة تدخل ضمن هذا السياق لابد من العمل على تلبية مستلزماتها في المرحلة الراهنة من تاريخ العراق ليستعيد الأساس الفكري في نظام التربية والتعليم عافيته ولكي نجعل من طلبتنا جيلا من المفكرين والمثقفين الذين سيكونوا القدوة في تحمّل اعباء المسؤولية وسيحملوا راية الفكر والرأي الحر في بلد الحرية في وطنهم العراق.