ربما يكون التقرير الصادر عن البرنامج الانمائي للأمم المتحدة حول التنمية الانسانية العربية للعام 2003 والذي تم فيه إختيارالمعرفة كموضوع للتقرير يعرض فيه لجانب مهم من جوانب التنمية العربية ــ يعول عليه كثيرا بعد تشخيص الحالة ــ في تجاوز الفجوة العربية الهائلة في المعرفة والتي كشف عنها التقرير.
ربما يكون قد وضعنا في مواجهة مع النفس وهذا صحيح وعلينا أن نعترف أنه مع الحقائق المفزعة التي يسردها التقرير عن حالتنا المتردية في مجال المعرفة ينبغي أن نضع في الاعتبار أن تجديد الخطاب السياسي للأمة بمفهومه الواسع لا بد وأن نتجاوز فيه إجترار الماضي والارتكان على إنجازات أمة صنعت حضارة في وقت كانت فيه أوروبا والغرب المتقدم المتطور والمتفوق في كل المجالات غارقا في سباته ــ هذه حقيقة نعم أسهمنا في بناء الحضارة الانسانية وكان دورنا كبيرا ومؤثرا فيما وصلت إليه الحضارة الغربية المادية لكننا توقفنا.. تخلفنا.. وتشبسنا بالماضي وظللنا ندور حول فكرة دورنا الريادي والطليعي وتجمدنا وسبقنا الآخرون ومع ذلك علينا أن ننتبه إلى عدم الوقوع في خطأ التغريب وإنقطاع الصلات عن ماضينا العريق لا بد أن نعيد قراءة الجوانب المضيئة في تاريخ الحضارة العربية وأن نبرزها وأن نقدمها للنشء وللشباب لتكون دافعا ومشجعا للتواصل بين الاجيال وفي هذا الاتجاه فإن المشروع الثقافي والمعرفي الكبير الذي تنفذه مصر الآن على سبيل المثال من خلال إصدارات مكتبة الاسرة الذي يساهم في إعادة نشر كنوز المعرفة وبأسعار زهيدة في متناول الجميع قد أحدث حركة هامة في الحياة الفكرية والثقافية العربية بجانب عودة مكتبة الاسكندرية للاطلاع بدورها كمركز إشعاع ثقافي وحضاري يقدم أيضا الدعم للمشروع العربي في مجال المعرفة.
الا أن التقرير يكشف في الوقت نفسه عن مأزق النظام العربي وعدم قدرته على الخروج من حالة اليأس والاحباط والتراجع التي أصابت الامة كنتيجة طبيعية لانحسار المعرفة وتراجعها فالأمة لا تنتج خبزها ولاسلاحها وبالتالي فإرادتها مقيدة ثم أن لامكان لها ولاتأثير في صنع القرار الدولي خاصة بعد أحداث 11 سبتمبر والهجمة الشرسة التي حاصرت العالم العربي والاسلامي ووصمته بالارهاب.
والامثلة كثيرة.. منها أننا نلهث من خمسين عام وراء حلول سياسية لقضايانا المصيرية.. تراجع خلالها سقف المطالب العربية في القضية الفلسطينية إلى حد المطالبة بالعودة إلى المواقع التي كانت عليها القوات الاسرائيلية عشية الانتفاضة قبل أكثر من ثلاث سنوات.. مقدسات الامة أسيرة.. يحاصر العراق لسنوات ثم يتم إحتلاله.. نستورد ونستهلك أكثر مما ننتج.. نجتمع ولا نتفق وإذا حدث واتفقنا لاننفذ.. حتى في الفن والرياضة لم نصنع بطلا.. وقس على ذلك أشياء كثيرة.
لم نبتعد كثيرا فالمناخ الذي يتحدث عنه تقرير التنمية الانسانية العربية وافرازه هذا الوضع يعتبر المعرفة أحد النواقص الثلاثة في البنية المجتمعية العربية بجانب الحرية ودور المرأة تعوق التنمية الانسانية العربية يعتبرها حجر الزاوية في التنمية الانسانية ولبناء المجتمعات المزدهرة في القرن الحادي والعشرين.
أمامي تقرير مخيف عن الامية في العالم العربي ــ يعزز من تأكيد تقرير البرنامج الانمائي للأمم المتحدة على تحدي المعرفة الذي يواجهه العالم العربي ــ أصدره المجلس العربي للطفولة والتنمية تحت عنوان واقع الطفل العربي وقال فيه ان نحو نصف سكان العالم العربي فوق سن 15 عاما أميون وأن حوالي 10 في المائة من الاطفال العرب لا يلتحقون بمدارس.
وقدر التقرير نسبة الامية العربية بستين مليونا من اجمالي عدد السكان فوق سن الخامسة عشرة بنسبة 484% وبنسب تتفاوت بصورة كبيرة من بلد عربي الى اخر فتزيد على 50% في بعض الدول وتنخفض الى حوالي 10% مع إرتفاع نسبة الامية بين الاناث بشكل ملحوظ عنها (أحد العناصر السلبية على التنمية الانسانية العربية) بين الذكور في جميع الدول العربية وكذلك إنخفاض الاهتمام بمؤسسات رياض الاطفال اذ لم يزد معدل الالتحاق بها على 154%.
مشيرا إلى دور الاوضاع الاقتصادية في كل دولة المؤثر من حيث مستوى التعليم والرعاية الصحية والخدمات التي يتلقاها الاطفال.
كيف يمكن أن تستقيم الاوضاع ويتقدم العالم العربي في ظل هذه الارقام.. الهرم مقلوب فالقاعدة العريضة المفترض فيها أنها المخزون الاستراتيجي للموارد البشرية التي تنهض عليها الامة.. لاتعرف القراءة والكتابة.. من أين يتأتي إذن التقدم العلمي.
أرجوك تابع معي هذه الارقام المفزعة التي تعكس الفجوة في عالم المعرفة وتدفق المعلومات والتي ترسم صورة بائسة وكئيبة.
تقدر النسبة المخصصة من الناتج القومي العربي للأبحاث والتنمية 02% مقابل 3% عند اليابان وبالنسبة لإسرائيل 22% لذلك فهي تملك أي اسرائيل مفاعلات نووية ومراكز أبحاث متطورة وتنتج تكنولوجيا متقدمة في مجال الصناعات العسكرية والحاسوب والزراعة وأنظمة الري.. شيء مخجل ويدعو للحسرة! أحد الاسباب كما يقول التقرير لهذا المبلغ المتواضع أنه لا يوجد حافز يشجع على تطوير التكنولوجيا الغربية التي يستوردها العرب ولا تطوير المعلومات المحلية بدليل أن معدل الحاسبات يقف عند حد 18 حاسوبا لكل الف نسمة في حين أن هناك أكثر من 78 حاسوبا لنفس النسبة على مستوى العالم.
16% من سكان العالم العربي يستخدمون الانترنت في مقابل 35 ــ 40% في الدول المتطورة. الهواتف الارضية أقل من معدلها حتى في الدول المتقدمة.
ينتج العالم العربي 11% من الكتب المنتجة عالميا في حين أن العالم العربي يصل تعداده إلى 280 مليون نسمة يمثلون حوالي خمسة في المائة من سكان العالم ويحتلون المرتبة الرابعة بعد سكان الصين والهند والولايات المتحدة.
أما حركة الترجمة فهي أقل من كتاب واحد لكل مليون عربي بالمقارنة بأسبانيا وهي دولة ليست متقدمة علميا مثل ألمانيا فهناك 920 كتابا مترجما لكل مليون أسباني في السنة.
في مجال الصحافة ينخفض عدد الصحف إلى أقل من 35 لكل الف شخص مقارنة مع 285 صحيفة لنفس النسبة في الدول المتقدمة.
الباحثون في المجال العلمي 173 لكل مليون في العالم العربي مقابل 979 لكل مليون في الدول المتقدمة.
الاخطر وبحسب التقرير فإن الاجواء المحبطة علميا بجانب أسباب أخرى أدت إلى فرار الادمغة العربية ــ الثروة الحقيقية للعالم العربي والأمل المعقود عليها في تحقيق تقدم علمي عربي ووفقا لاحصاءات منشورة فقد هاجر 25% من حملة البكالوريوس العرب إلى الغرب بالاضافة إلى 15 الفا من حملة الدكتوراه خلال عامي 1998/2000وحدهما. أرقام مذهلة لكن هذا هو الواقع المرير.
إن المشكلة العربية كما يراها كثير من الخبراء كبعد للفجوة في مجال المعرفة وإن كانت تتضح بصورة أكبر في المجال العلمي هي في إغفال تشييد بنية أساسية قوية للبحث العلمي والتقني وضعف مصادر التمويل للأبحاث العلمية وتركها على عاتق الدولة من دون شراكة المجتمع في دعم الابحاث العلمية أوتبني دعم الباحثين ومساعدة مراكز الابحاث.. يجب أن يكون هناك دور للشركات الكبرى والرساميل العربي في دعم نهضة وصحوة علمية عربية.
والواقع أن التقرير وإن كان قد حفز واستفز الروح العربية برسم صورة باهتة ومؤلمة للواقع العربي في مجال المعرفة إلا أنه تحدث عن ثلاثة أحداث ساهمت في توجيه العالم العربي خلال العام الماضي وهي مازالت مستمرة واستنزفت موارده وأثرت على سياساته في اتجاه بناء وباعتبارها تحديات صعبة في توقيت صعب وهي.
إعادة اسرائيل إحتلال الضفة الغربية وهو مايعني استمرار الصراع العربي الاسرائيلي وما يرتبط به من استمرار سباق التسلح الذي يستنزف الموارد التي كان يمكن توجيهها لعملية التنمية.
احتلال العراق بما يوجده من وضع جديد لايمكن الخروج منه إلا بالتحررمن الاحتلال وبناء العراق الجديد الذي يمثل جميع مواطنيه.
والثالث مخاطر إعادة تشكيل المنطقة العربية من الخارج وهو مايطرح بديلا عربيا يتمثل في مشروع عربي للاصلاح من الداخل يقوم على نقد رصين للذات وفي ذلك ضمانة لانتقادات تحاول أن تنفذ من باب حقوق الانسان والمواطنة في الوقت الذي حدد فيه معالم الطريق نحو بناء مجتمع المعرفة بخمس أركان.
إطلاق حريات الرأي والتعبير والتنظيم ويراها التقرير المفاتيح التي تؤدي إلى انتاج المعرفة وفتح آفاق الابداع والابتكار.
النشر الكامل للتعليم الراقي بما يتضمنه من إصلاح التعليم وتعميم التعليم الاساسي والاهتمام بالطفولة والاهتمام بالجودة والنوعيه في مختلف المراحل التعليمية.
توطين العلم وبناء قدرة ذاتية في البحث والتطوير التقني.
التحول الحثيث نحو نمط إنتاج المعرفة في البنية الاقتصادية والاجتماعية العربية وتعزيز التواجد في الاقتصاد العالمي الجديد.
تأسيس نموذج معرفي عربي عام أصيل منفتح ومستنير يعتمد على جملة من التوجهات أهمها العودة إلى صحيح الدين والنهوض باللغة العربية والانفتاح على الثقافات الانسانية الاخرى.
ومع ما يثيره التقرير من جوانب نقدية ووجهات نظر متباينة فإنه يتبنى أسلوب المكاشفة والمصارحة وهي أولى خطوات الاصلاح.. نأمل ذلك.
خمسة منطلقات لتجاوز فجوة المعرفة التي تعاني منها المنطقة العربية والتي تؤثر بشدة في حاضرها ومستقبلها وكل جوانب حياتها.