&رياض كاظم
&
&
&
... ( الكلمة تحل بدل الحقيقة )... الجملة واحدة من اشراقات صدام اللغوية في حقل الكتابة الأدبية ، عندما أصابه السأم والتخمة من كل شئ ، من القتل والتدمير والعمارة والهندسة والطب والفلك ، من عادة ظهوره المتكررة صباح مساء على شاشات التلفزيون ، وإلقاء خطب مملة لا يستمع لها أحد من العراقيين ، اصابه السأم من جمهوره الضجر ومن ضجيج الكاميرات حوله ، فقرر إعتزال تلك المهنة المملة والأعتكاف لمدة سنتين كاملتين ، لم يره خلالها أحد من الناس سوى طباخيه ونسائه وحارسه الشخصي ومستودع أسراره ( عبد حمود ).
ماذا كان يعمل صدام في تلك الفترة الطويلة؟!
العراقيون في الداخل وبحس النكتة اللاذع الذي يمتلكونه ، كانوا يطلقون النكات والحكايات الغريبة عن سبب اختفائه ، لكن أحداً منهم لم يصب قلب الحقيقة ويعرف سبب اختفاء نجمههم التلفزيوني العجيب
وسط غابات النخيل والأشجار والغزلان وعلى مقربة من ( تكريت ) يقع قصر ( الهلة ) ، وهو واحد من القصور المحببة لقلب صدام... لا لكونه فخماً وواسعاً ، فكل قصوره واسعة وباذخة ومدهشة ، لكن ما يجذبه إليه ، هو حنينه إلى الماضي البعيد ، حنينه إلى حكاية قديمة وصبية تعمل في حقل حنطة.. كانت الوحيدة التي تنصت له وتصدق ما يقوله لها عن رغبته ب ( امتلاك الجهات الأربع )!... لم يبح لها يوماً بحبه لها أو رغبته بتقبيلها مثلا... جمال الصبية وإمتلاء ردفيها ليس هدفه في الوقت الحاضر ، كان يريد من يصغي له ويصدقه.
هل صدقته زبيبة؟!
في ذلك الحقل شيد صدام حسين قصره المفضل.
( الهلة ) واسع ، وهو الأشد تعقيداً من كل ما شيده لنفسه من قصور ، والغازه يصعب فك رموزها وطلاسمها حتى على حارسه الشخصي الذي يطيعه طاعة عمياء عبد حمود التكريتي ، ذلك المخلوق الخشن عديم الكلام والمشاعر والذي يرافقه كظله في تيههما الليلي ، جولتهما التي تبدأ بعد أن يضع صدام قلمه وأوراقه جانباً ، شغله الشاغل الذي أخذ منه كل وقته ، مهنته الجديدة ككاتب قصص ، وذكرياته عن حبه الأول لفتاة حقل الحنطة ( زبيبة )!
يمران بين صفوف الحرس المتخشبين في جولة غريبة وصامتة ، يفتشان كل زاوية من زوايا القصر ويتأكدان من إغلاق الأبواب الخارجية وعدد الحراس ، وعندما يصيبهما التعب يفتحان باب أية غرفة تصادفهما ويدخلان... غرف القصر متشابهة حتى في أبسط التفاصيل ، كوجود ( غرامافون ) يصدح طيلة الوقت بأغنية المطرب ( سيناترا ) ( سترينجر إن ذ نايت ) ، وبعض أشرطة الفيديو التي يفضلها صدام ويرغب بمشاهدتها كل ليلة وبنفس الوقت... يهرول عبد حمود إلى زاوية الغرفة نصف المظلمة ويتكور على نفسه حتى لا يشاهد أو يطلع على رغبات سيده الغريبة ولا يسمع الأغنية ذاتها التي تكرر نفسها حالما تنتهي ، بإيقاع رتيب وممل.
يمدد صدام جسده على كرسيه ويتناول قبعة رعاة الغنم الموضوعة بعناية على مسند الكرسي ويضعها على رأسه ، كواحدة من مستلزمات متعه التي لا يستغني عنها ويتطلع إلى المشهد الأخير الذي يظهر ( العراب - دون كورلياني ) وهو يلعب في الحديقة مع حفيده قبل أن يموت ، ثم يعيد المشهد ذاته ويكرره إلى أن يأخذه النعاس فيهمس.
- بــاريــــســولا!
يقفز حارسه من زاويته ويمرق من خلفه كالشبح إلى خارج الغرفة ويقف وسط الممر ويزعق بصوت أجش ومخيف - ( برصولا... برصولا...).
اسمها باريسولا لامبسوس ، شقراء وجميلة من أصول يونانية ، تعرف عليها صدام حينما كانت في الثامنة عشر من عمرها في منزل تاجر أقمشة عراقي يدعى ( هاروت ) كان ذلك في العام 1968.. نظرات صدام الحارقة وقعت على أفخاذها وتسللت إلى ما تحت ملابسها ، فارتعشت باريسولا من نظرات الفحل المخيف التي تسلقها وتعريها ثم تطاردها في زوايا منزل تاجر الأقمشة وتحشرها في غرفة مظلمة وهو يردد.
- زبيبـــة.... زبيبـــة.
- اسمي باريسولا!
- ألم أخبرك يا زبيبة بأني سأملك الجهات الأربع
كانت باريسولا المخلوق الوحيد الذي يشعر أمامه صدام بالضعف ، وغالباً ما كانت ليلتهما العنيفة تنتهي بحفلة تعذيب صاخبة ، ينهال عليها باللكمات فتهرب منه عارية إلى خارج الغرفة تستنجد بالحراس المتخشبين الذين أداروا وجوههم الى الحائط ووضعوا بأذانهم القطن ، حتى لا يسمعوا سيل الشتائم على عشيقها المتوحش ، عشيقها الذي لا يستطيع التخلص منها ولا يستطيع أن يرضخ لحبها.
في قصر العظيمية والوفا والسلام والقصر الأخضر وأبو غريب والسجود والرضوانية تصدح أغنية ( سترينجر إن ذ نايت ) في كل الغرف ، وشبح صدام على كرسي يدون ترهاته برواية ( زبيبة والملك ) ليبوح بأسرار حبه الساذج القديم ويطلق الزفرات ، يظهر شبحه في نفس الوقت بقصوره المائة يكتب روايته التي طبعت منها ملايين النسخ وفرضت على العراقيين مع غرامات العدس والسكر ، ليقظوا أماشيهم وبطونهم خاوية إلا من حكم الرئيس وبوحه المريض لزبيبة عن خيانة الجميع له حتى طباخيه ، وزبيبة البلهاء تنصت لخطبه الرنانة فاغرة الفم ورطبة! وتخاطبه ( حبيبي عرب ) قبل أن تموت!
- برصولا... برصولا..
صرخ عبد حمود ثانية في ممرات القصر
فظهرت سيدة خمسينية تغطي وجهها بالأصباغ لتخفي آثار الزمن والكدمات ، تلبس ثياب نوم وتسير نصف نائمة ومذعورة وتزعق بوجه عبد حمود.
- لا تناديني برصولا إن ذلك مثير للقرف.
- برصولا... العم يريد رؤيتك.
تدخل الغرفة وتحشر جسدها إلى جانب صدام في الكرسي يشاهدان المشهد الأخير لموت ( دون كورلياني ).
عجوزان وحيدان يشاهدان الفيلم ذاته كل ليلة ويستمعان للأغنية ذاتها في ل القصور.
هربت باريسولا من العراق مع ابنتها التي سامها ( عدي ) العذاب بساديته المخيفة ، هربت لا لأنها كرهت حياتها ، هربت بسبب إسمها الذي يتحول الى برصولا وزبيبة وفشلها في نطق إسم صدام الذي يحب أن تزعق به في أرجاء القصور كل ليلة مع الأغنية المملة واللطمات التي تنهال على وجهها بعد المعركة.
رأيت باريسولا لامبسوس تتحدث عن الطاغية وتتذكر تلك الليلة المشؤومة في منزل ( هاروت ) وليالي قصر ( الهلة ).
( الكلمة تحل بدل الحقيقة ) خلاصة حكمة صدام المتعالية كما دونها في زبيبة والملك والتي أخذت من حياته فترة طويلة لينطقها ويسر بها لنا ، فترة ارتاح فيها الناس من ظهوره المتكرر كل ليلة وهو يوزع عليهم حكمه الباطلة ونصائحه الطبية بتفريش الأسنان والتمارين الصباحية وأخذ الشهيق و ( النهيق ) وكيفية الدخول إلى المرحاض ونطق مخارج الحروف على طريقته المحببة.
أمنيتي الوحيدة رؤية ودخول قصر ( الهلة ) والتجول بأروقته وممراته ، أنصت للأغنية وأرى الحراس المحنطين وعبد حمود عديم الكلام محنطاً ، يقف في الزاوية المظلمة نفسها ، والطاغية بعينين زجاجيتين يشاهد الفيلم ذاته ، يذكرنا بعصر غابر ، عصر يجب أن لا ننساه حتى لا نكرره..