مازن الراوي


&
كم من الجرائم ينبغي أن تثقل ضمير المثقف العراقي لكي يتعذب، ولكي يبدأ بمكاشفة نفسه ليطهرها من الشعور بذنب المسؤولية التي يتحملها من حقبة الدكتاتورية. هذا ما سألته، وتألمت من أجله، عندما قرأت عن وفد من المثقفين العراقيين وصل سوريا.
في الحادي عشر من ديسمبر إلتقى الرئيس بشار الأسد وفدا عراقياً ضمّ أكثر من خمسين "كاتبا وأديبا وفنانا". وكان الوفد قد التقى ايضا نائب رئيس الجمهورية عبد الحليم خدام. كما التقى بالتأكيد بعض الفعاليات الحكومية والمؤسسات التابعة لها مثل إتحاد الكتاب وإتحاد الصحفيين، لأن مثل هذه الزيارة ينبغي لها أن تفصّل حسب المرام وتسير في ذات المسار المعهود لتوظف من أجل غايات سياسية بالدرجة الأولى، لا علاقة للثقافة بها.
عندما رأيت صور اللقاء مع عبد الحليم خدام، على شاشة التلفزيون، أصبت بخيبة أمل عميقة وبإحباط من سلوك الـ"مثقفين" العراقيين. وقلت في نفسي: ماذا تَعَلم هؤلاء من الدكتاتورية في العراق؟ ذلك لأنهم في هذه الزيارة يكررون التاريخ نفسه ويركبون القطار ذاته، وكأنهم لايملكون قلباً أو ذهناً اكتوى بنار الدكتاتورية. إنهم يعيدون الآن السيرة الناقصة للـ "مثقف" الذي لا يريد أن يكون مثقفاً.
&كما تذكرت بألم شديد تجربة العقود الأخيرة لتجول في ذاكرتي صور الكتاب والمثقفين العرب وهم يلجأون الى العواصم والى الشخصيات غير المناسبة والمعادية أصلاً للثقافة. أولئك الذين ساهموا بالتأكيد في تعزيز التسلط وتمكين استمرار الدكتاتورية في أنظمة قمعية. بل انهم برروا وجودها ولونوها بالوان وردية. وهم بذلك صاروا يتحملون قسطاً من&الجرائم التي ارتكبتها تلك الأنظمة، وهي جرائم خطيرة لم تنل افرادا قلائل بل طالت مئات الالاف. وفي الحالة العراقية طالت الملايين.
بإمكان المرء أن يتذكر وقائع عديدة عن تهافت مثقفين عرب على النظام العراقي إبان الدكتاتورية، وأن يستحضر المشاهد المخزية لهم أمام الطاغية، وفي جبهات الحرب، وفي تدبيج المدائح والتغني بالشعر وإصدار الكتب واستلام الهدايا المادية والعينية، وكأن الأمر مشهد من مشاهد مهرجي الملك ولكن مشهد وفد الـ"مثقفين" العراقيين في حضرة عبد الحليم خدام لم يختلف كثيرا. جلس العراقيون على كراسي مصفوفة أشبه بحصة درس للطلبة، يلقي عليهم خدام كلامه وهم يستمعون. إنهم طلبة مجتهدون، يطلبون منه النصح والمشورة. غابت عنهم ذواتهم و بالتالي قدرتهم على المحاورة وعلى الجدل وجهاً لوجه. وربما املى عليهم " تأدبهم العربي" أن يقبلوا الصمت في حضرة الرئيس. ولكنني لا أظن بأن الكيان الثقافي لمثقف يريد أن يكون شاهدا على عصره ويتمس بصلابته الداخلية و بافكاره التي تألم وأحتدم وعانى من أجلها يمكنه المساومة في أي طقس يوجد فيه.
لقد سمعت بعض اولئك المثقفين يصرح ويتحدث الى القنوات التلفزيونية متهماً الصحف العراقية التي تصدر الآن بالمئات في العراق بالعمالة، كما أنه يصف الحالة العراقية بأوصاف تعانق الأوصاف التي تريد ها وتشيع لها سوريا، ويريدها قوميون وإسلامويون أسقطت في يدهم عندما سقط النظام العراقي الذي عانقوه. وأعتقد بأن هذه الاتهامات لها دوافع أخرى لا تناسب البنية العقلية للمثقف العراقي، ولا التجربة التي مرّ بها في العراق، بوصفه خارجاً من أتون الدكتاتورية البعثية حاملا الجروح والخطايا، محتشداً بتجربة قد تؤهله ليكون ثاقب العقل ونقي العواطف ليقترب كثيرا من عملية الإبداع. ولا أقصد هنا أولئك المثقفين الذين أمتد الحريق الى دواخلهم في العراق فقط، بل أقصد أيضا أولئك الذين عاشوا في خارج العراق وربما في المنفى.
&الكل كان شاهدًا. والكل أبصر الجريمة. والكل لم يفعل بما فيه الكفاية أمام الذئاب التي افترست ولعقت دماء ضحاياها.
في هذه التجربة المدمرة للذات، ينبغي أن يقف كلٌ أمام ضميره. وأعتقد بأن ضمير الكاتب والفنان أكثرُ جدلا ودينامية أمام البربرية من ضمير انسان عادي.. إنه ضمير مسؤول إختار أن يكون حامياً للعدالة عندما اختار أن يكون مثقفاً.
في جدل قديم بين كامو وسارتر إبان صعود النازية ودفاع الإتحاد السوفييتي عن البلاد أمام الجيش الهتلري لم يبريءالإثنان قمع ستالين أو يجدا له تبريرا. والتزم كامو مبكرا بضرورة رفع الصوت عاليا عندما تحجب حرية انسان واحد.وليس من الضروري هنا أن نسرد قائمة بأسماء أولئك الكتاب والمثقفين الذين تصدوا للقمع والعسف في بلدانهم وفي العالم وقد راح بعضهم ضحية مواقفه، إلاّ أنهُ، بالضرورة، يجب أن يقول الكاتب لا للقمع، ونعم للحرية. لأن الكاتب أو الشاعر أو الفنان مرتبط في إبداعه بالمخيلة التي لا تحدها حدود، وهو يناهض كليا المواقف والأفكار التي تؤطر وتحدد الحرية. وأعتقد بأن الكاتب منشغل دوما بالتطهر. يغسل نفسه بالتاريخ، مثلما يغسلها بالحاضر. إنه في جدل أمام مرآة نفسه يمسح الوسخ والأدران عن قلبه وعن عقله كلما علقت بهما غفلة. وهذا التطهر، أو المحاولة الجادة فيه، هو شرف الكاتب الذي يقف على لغم العالم غير العادل، على خلاف " الكاتب " الذي يوظف نفسه لدى الحياة ويقبل& معطياتهاالغفلة.
يتذكر المثقفون العراقيون، والكثير منهم عاش التجربة، كيف كانت الدكتاتورية البعثية تزاول سياستها الثقافية مع الكتاب والفنانين. ولا حاجة هنا أن نفصل ذلك. ولكن من الجدير أن نذكر الطوابير من المثقفين الذين أجبروا على ارتداء البدلات العسكرية وسيقوا الى جبهات الحرب ببنادقهم الرشاشة، و قد اتهم بعضهم بـ"عار الجبن". كما نذكر وزراء الثقافة والمدراء العامين وهم يرتدون البدلات القتالية و يحملون المسدسات. لقد جعلوا من الكتاب قتلة، ومن المفكرين مخبرين يسوقون الناس الى المقصلة. وقد أفضت هذه المحرقة فيما بعد الى التغني بأدب المعركة الذي ترك لنا مئات الروايات والقصص القصيرة والنصوص عن الحرب لنشم فيها رائحة الدم والحديد، بالضبط كما في الأدبيات النازية.
&
ومن الجدير أن نتذكر أهداف مهرجان"مربد" المكرس للحرب وللسياسة، لا للثقافة. ونتذكر كذلك تهافت الكثير من المثقفين العرب الى بغداد والوقوف في حضرة الرئيس ليلقي عليهم دروساً في جوهر الثقافة والإبداع ويبصرهم&بالآفاق السياسية للعصر!.
وإذا كان عدد كبير من المثقفين العرب قد أخطأ في زياراته للعراق آنذاك، وقد اختار المكان والنظام غير المناسب، جاهلاً الجرائم التي ارتكبها النظام، فإنه الآن أمام الحقائق وأمام الضمير. وأعتقد بأن الضمير المثقل بالخطيئة يمكنه أن ينقذ شرف الكتابة وشرف المثقف المثلوم في أي وقت كان، إلاّ شرف أولئك الذين لا يملكون حساسية الكاتب ويعتبرون الكتابة مهنة مربحة، أو هي داعية لإيديولوجيا ليس لها علاقة بحرية الفرد بل لها علاقة بالمصير الجماعي الذي لابأس أن يذهب ضحيتحها مئات الآلاف. وهذه فاشية علنية.
أما المثقفون العراقيون، وهم شهود على التاريخ من خلال تجربتهم مع الدكتاتورية عياناً ومعايشة، فهم أكثر الناس حساسية، أو يفترض أن يكونوا هكذا. ليس من مثقف عراقي تقريباً من لا يقر بقمع الدكتاتورية للثقافة والإبداع. وليس من أحد لا يعترف بأن الثقافة تحولت الى سوق عكاظ للقائد وللحرب. ومن المفروض أن تكون هذه التجربة ناصحة وتوضع أمام المحاكمة. لقد واجه المثقفون العراقيون الدكتاتورية الفردية الطاغية ونظام الحزب الواحد الذي أجبر المثقفين على الإنتماء اليه تحت طائلة التهديد بالقتل. وماذا كنا نجد في الأدب والثقافة العراقية على صدر الصحافة المؤممة غير أطنان من الدعاية الركيكة. ومن كان ينأى بنفسه عن المستنقع الثقافي المعلن كان عليه أن يتحمل التبعات. لقد سقط الكثير من المثقفين العراقيين في الوحل، ومسخت سلطة البعث الكثير منهم الى قردة. ولا يمكن أن نبرر سقوط هؤلاء بأي شكل من الأشكال. ربما يتمكن البعض ان يحلل أسباب السقوط ولكنه لا يقدر على إن يعفي من سقط من مسؤوليته، بإعتباره مثقفاً واعياً ومدركا لشرط المثقف الذي ينبغي أن يقف دوما مع العدالة وضد القمع وفي كل الظروف، وأن يسكت ويستنكف عن الكتابة إن اقتضى الأمر. وثمة أسماء في العراق فعلت ذلك وأقصيت عن المسرح الثقافي، لكنها حافظت على نقاء السريرة ولم ثلوث نتاجها وسيرتها الشخصية التي هي في الواقع تاريخ اختيارها الحر ومعاناتها التي كابدتها في هذا الإختيار.
من ناحية اخرى، يمكن أن تكون تجربة الغفلة والسقوط لدى العديد من الكتاب العراقيين، لدى مواجهتها بصدق& وبشفافية، أن تكون أغناء للتجربة الذاتية ومؤثرة على تجارب الآخرين، فضلاً عن كونها مكاشفة عميقة تغني الكتابة وتعمّق شرط الكاتب. إلا أنه مع الأسف لم تسعف الكثير تلك المصارحة مع الذات لنكأ الجراح و لطرد القيء ومن ثم التماثل الى الشفاء. وأعتقد ليس من العار أن يكشف الكاتب عن دواخله وينشرها أمام في العراء ليجتاز محنته وينظفَ عواطفه وذهنه، بقدر ما هو عارُ للكاتب أن يظل متواطئا مع تاريخه الشخصي المعذب.
إن المثقف العراقي، في خضم محنته الداخلية، كان ضحيّة. لأنه كان الشاهد الذي عاصر الدكتاتورية من موقعه طوال عقود وسكت عن جرائمها. لم يستطع الحيلولة دون أرتكاب تلك الجرائم، وهي جرائم فادحة أودت بحياة& الملايين وتركت البلاد خرابا، فيما تركت إرثا قد يؤدي الى الكارثة. وليس هذا الأمر حصرا على المثقفين فى العراق، بل يطرح المسؤولية على قدر المساواة مع المثقفين الذين غادروا البلاد.
إن شرط الكاتب الجدير بالإسم الذي يحمله، هو أن يعي شهادته على العصر الذي يعيشه وأن يحاور ويجادل المفردات التي تنطبع في وعيه، ويتخذ موقفه منها، وأن يتسم بالحساسية الشديدة تجاه نفسه وتجاه الوقائع التي يخبرها. أن يكون&كاتباً هو أن يكون عارفاً وكاشفاً، وأن يكون صارماً في اتخاذ المواقف. وبالنسبة الى المثقف العراقي، ولجهة تجربته مع الدكتاتورية، لايلزمه فقط أن يكون شاهدا ويستذكر شهادته، بل أن يواجه تلك الشهادة ليكرسها محاسباً نفسهُ أولاً، ثمَّ يحاسب واقعه طوال عقود الدكتاتورية التي ربما قتلت في داخله بعض المسؤولية وبعض العواطف، وحرفت مسيرته الثقافيه لتخرجه من مشروعه الثقافي. لا شك أن المعاناة والشهادة على العصر، في تجربته، ستعمل في داخله على نحو نبيل؛ تواجه ضميره وتبعث الجدلَ الحيوي في عقله وفي عواطفه، وتغني ذاته المفتتة بحيث تتبلور وتكون قادرة على الإستنتاج. وبذلك ينمو الكاتب على نحو صحي، حساسا وحصيفاً ومعارضاً لكل أنواع القمع والضغط والإملاء، فلا يكرر تجربته السابقة مرة أخرى.
بعد هذه "الديباجة" عن شرف الكاتب والكتابة، الذي أراه مثاليا، أراه أيضا شرطاً للكاتب الحقيقي لأن يعيش جحيم اختياره الحر دون أن يدعي الحكمة والوصول الى الحقيقة المطلقة. أرى بأن المحطة الأولى في عاصمة& الخلق، المجرد من الهوى، هو الإبتداء بالتعلق بالحرية الإنسانية وبالدفاع عنها وبمناهضة كل أشكال العنف والقمع والدكتاتورية والموت. هذا ما أظنهُ ينبغي أن يكون تجربة المثقف العراقي في هذا المجال. ولكن ما يؤسف له، أن كثيراً من الـ "مثقفين" العراقيين لم يستوعبوا هذا الدرس. ولأنهم مغتربون عن أنفسهم وعن تاريخهم وغير قادرين على مواجهة ذواتهم، أو لا يريدون ذلك لسوء الطوية، فإننا نشاهد هنا وهناك "مثقفين" يبررون الماضي، بل يجمّلونه وينشغلون بمحاولة استعادته. إنهم في الواقع يستحقون لقب السماسرة& ووكلاء الشيطان أكثر من لقب مثقف أو كاتب.
وبهذه المناسبة، ومما يجرح القلب، أن نرى وفداً من "كتاب وأدباء وفنانين" عراقيين يزيد عددهم عن الخمسين يذهبون الى النظام السوري، وكأنه النظام المنقذ للعراق من محنته الحالية. وفي كل المقاييس يمكن القول بأن هذه الزيارة تنافي أرث التجربة العراقية مع الدكتاتورية التي حفرت في العقل وفي الضمير وأورثت آلاما ينبغي أن لا تتكرر قط. ولكن الزيارة أفصحت عن هشاشة الضمير لدى عدد من الـ "المثقفين" مثلما كشفت عن عدم قدرة هؤلاء على مكاشفة الذات ومحاسبتها. بالإضافة الى أنها حددت خاصية من خواص الدكتاتورية في علاقتها مع ناس& محدودي التكوين يمتثلون للسيطرة بل يريدونها. وفي هذه العلاقة المرضية تتغلب الدكتاتورية على نزعة الحرية لدى الإنسان فيمتثل للعبودية، مثلما يحصل عند بعض العبيد. لقد جعل القمع الدائم عدداً من مشاريع مثقفين مسوخاً خانوا ذواتهم.
ولربما يرثي المرء لحال بعض أولئك المثقفين الذين انحدروا الى الهاوية ودخلوا مستنقعا عفنا، مدركاً البنية المعقدة والعلاقة المبهة بين الدكتاتور والضحية، وخصوصا في مجتمع لم يكتمل تطوره الإجتماعي ولم ترق فيه علاقات الإنتاج الى مستوى يرى فيه الإنسان نفسه وحدةً فاعلة، بل على العكس يعيش في مجتمع بطريارشي تسوده قِيَم وثقافة الإمتثال للقوة وللمركز وللأبوية. إلا أن الإنحدار الى مستنقع الدكتاتورية لا يسوغ الجريمة التي يشاركون فيها.
في روايته خريف البطريارك نتلمس لدى ماركيز، في بعض استطراداته ومواقفه من الدكتاتور، نوعاً من التعاطف الذي يمنحهُ للدكتاتور، وهي عواطفٌ مخبأة نعجب بها عندما نبعدهاعن محاكمة أخلاقية. ولربما أراد ماركيز بذلك تجسيد العلاقة السرية بين الدكتاتور وبين الضمير الجمعي للناس. وينشغل ماركيز في كثير من أعماله، بواقعيته السحرية بحضور هذا الضمير الجمعي أكثر من إهتمامه بالبنية الفردية متكاملة الذات. ومن الغريب ايضاً ان العديد من المثقفين العراقيين المناهضين للكتاتورية الذين سألتهم عن أحلامهم قالوا انهم يعودون في احلامهم الى العراق، ويجدون أنفسهم في حالة من الخوف والذعر هناك. و يصدف أحياناً أن يلتقوا بصدام حسين فيصافحهم أو يبتسم لهم فيذهب الذعر عنهم. وكذلك يحصل احياناً مع بعض رموز النظام.
&
وكما قلنا فإن العلاقة بين الجلاد والضحية لا تبدو أحيانا جلية. لكن الأمر في النهاية، عند الكتاب والمبدعين الحقيقيين، أبعد من الأحلام وأعمق من تحليل فرويدي ليد دكتاتور تمتد في الظلام. إنه الصحو الدائم وعدم الغفلة والإنتباه للواقع الذي يتطلب المحاكمة. وهنا يكمن الإختلاف بين كاتب و"كاتب". بين من لم يتخلص من ربقة الدكتاتورية، وهو يعيد المياه الى طاحونة القمع، وبين من ينبذ الدكتاتورية والتسلط والقمع ويتخذ منها، أينما وجدت، موقفاً متجانساً& مع ضميره الثقافي.
&
إن التجربة العراقية، تجربة المثقف مع السلطة القمعية التي ألحقت به الأذى و العار، كان ينبغي لها بعد زوال الدكتاتورية أن تفضي الى محاولة إزاحتها من العقل ومن الضمير، و أن تدفع به الى التأمل الشديد والوقوف أمام مرآة نفسه، والإفصاح دون لبس عن مواقع خيانته لنفسه ولجوهر ثقافته ونقاء سريرته، ليداري بالتالي& الجروح التي خلفتها فيه الدكتاتورية بغلةٍ أو بضعفٍ منه أو لمنفعةٍ ــ وكلها أسلحة موجهة ضد مشروع الكاتب وسيرة المثقف.
&أمامنا في العراق، مهمة تنقية دواخلنا من الأدران. من عار الدكتاتورية، من البربرية. نحن المثقفين علينا أن نواجه مأتمنا، ونخرج الشمع من آذاننا، بغية أن نسمع الإدانة. سواء لدى منفيي الداخل أو لدى منفيي الخارج.& ذلك أن السؤال المنبعث من أفواه ملايين الضحايا:
أجل، أنتم شاهدتم، وسمعتم، وعرفتم، ولكن ماذا فعلتم لدرء الجريمة والقتل ؟
أليس بعد هذا، من المؤلم ومن المخزي لتاريخنا الشخصي، أن نقرأ وأن نرى "مثقفين" عراقيين يلجأون الى النظام السوري، مهما كانت ذرائعهم، وأن نبصرهم يتركون نظاماً دكتاتورياً رحل ليذهبوا الى احضان نظام دكتاتوري آخر.&من المعروف للجميع أن النظام السوري، شأنه شأن النظام العراقي، موشوم بذات المواصفات وينهل من ذات المنبع. نظامٌ يقوده حزب واحد، هو حزب البعث، وإن أختلفا على المرجعية. نظام يمجد القائد ويقمع الحريات الديمقراطية ويمزق النسيج الإجتماعي لسكان البلاد. وليس من الصعب أيضاً العثور على الشواهد في حقبة البعث السوري على الضحايا وعلى إبادات جماعية وعلى سجون مملوءة بالمعارضين، مثلما كان في العراق.
&
كنت في لبنان أبان الحرب الأهلية، وشاهدت قوات الصاعقة التابعة لسوريا كيف تلعب بمصير لبنان. كما شاهدت عمليات خطف المعارضين للنظام السوري وتسليمهم الى المخابرات السورية. بل جَنّدت تلك المخابرات أحزابا ومنظمات في لبنان قامت بتسليم معارضين أعدموا في سورية. أما عندما دخلت القوات السورية بيروت فقد أحرقت بدباباتها ما يمكن احراقه وقتلت ببرودة دم من وقف أمام مشروعها وتضاد مع مصالحها الخاصة لتدعم القوى التي تدعم مشروعها غير عابئة بتقسيمات اليمين واليسار منافية خطابها القومي وقضيتها المركزية: المقاومة الفلسطينية.&ولا غرابة أن نرى العراق وسورية المتعاديتين آنذاك يلتقيان في جونيا بعد أن نقل العراق سفارته الى الشطر الشرقي& وأخذ عبر جونيا يراكم السلاح هناك ويؤجج الحرب الأهلية.
لقد تمت السيطرة السورية على لبنان عبر جيشها وميلشياتها. وما فعلهُ هذا الجيش بوحداته الخاصة ومخابراته يمثلُ دليلا ناصعا على القمع والإضطهاد لقوة أجنبية لا تمتثل لرغبة اللبنانيين في مغادرة البلاد حتى الآن، وهي تخطط تخطيطاً بائسا لتمثل القوة ضد اسرائيل لمجرد فك الإرتباط معها، ولتبعث إشارة للأمريكيين تقول فيها بأن سوريا عنصر مهم في معادلة الشرق الأوسط وفي الصراع العربي الإسرائيلي!
وتقوم حالياً سوريا المحاصرة بلعب الورقة نفسها مع الواقع العراقي، حيث قوات التحالف في العراق تجد نفسها في مأزق حرج. ولكن سوريا بدلا من أن تجري تغييرات جذرية في نظامها السياسي، وتمضي نحو دمقرطة المجتمع ومنح حرية التعبير والتنظيم السياسي وإقامة المجتمع المدني، لتتحول من دولة الحزب الواحد الى دولة تعددية، تحاول بذات النهج الذي دشنته مع لبنان أن تتدخل في الشؤون العراقية الداخلية. لقد بدأت بتحشيد ما تسميه العشائر العراقية وتقوم باتصالات واسعة بشخصيات عراقية وبأحزاب قومية وبقوى معادية لأمريكا، وتستدعي وفد الـ "المثقفين العراقيين" وتأمل أن تمنح الغطاء لكثير من البعثيين العراقيين، حتى القتلة منهم، بإعتبارهم بعثيين شرفاء كانواعلى غير وفاق مع بعثية صدام حسين.

أية لعبة تلعبها سوريا في العراق؟
أعتقد، ومن خلال استمزاج نهجها في التاريخ القريب، إنها تلعب لعبة براكماتية تستهدف الدفاع عن نفسها وتقوية أوراقها التفاوضية مع الولايات المتحدة الأمريكية وبالتالي مع إسرائيل. وبالتأكيد لايمكن أن تقف دولة قمعية تمارس الإرهاب ضد شعبها إلى جانب شعب آخر تخلص من الدكتاتورية يريد بناء مجتمعه الديمقراطي.
لكن السؤال الأكثر جذرية هو: أية لعبة يوافق عليها "مثقفون" عراقيون خرجوا من آتون البربرية للتو؟ وماذا يمكن أن يحدث أكثر مما حدث في العراق ليتعلم مثقفون عراقيون بأن المسألة ليست بهذه البساطة في تغيير المواقف واللجوء الى دكتاتورية أخرى بعد سقوط ــ دكتاتوريتـ ــ هم. أيّ ضمير يملك هذا المثقف وذاك الكاتب؟
&
أن ضمير الكاتب ينبغي أن يكون يقظا، حساساً، يمجد أعراس الحرية ويمقت العسف والدكتاتورية. فإن كان ضميره خلاف ذلك، فهو ضميرٌ فاسدٌ مرميّ في قمامة نفايات.