"إيلاف" من الرباط: نشرت أسبوعية " تيل كيل " المغربية التي تصدر بالفرنسية من الدار البيضاء ملفاً حول إدريس البصري وزير الداخلية السابق والذي كان يعتبر من أقوى الشخصيات نفوذا في عهد الملك الحسن الثاني ، وذلك بعد اعتقال اثنين من أقرب الشخصيات له وهما عبدالمغيث السليماني وعبدالعزيز العفورة حيث يخضعان حالياً للاستجواب من قاضي التحقيق ويوجدان رهن الاعتقال في سجن " سلا" المجاور للرباط . في ما يلي أهم ما جاء في الأسبوعية .
"أملك حرية السفر أين أشاء ومتى أشاء" لم يكف إدريس البصري عن ترديد هذه الكلمات منذ إقالته في تشرين الثاني (نوفمبر) من عام 1999. منذ ذلك الوقت، ورغم ما شاع عن منعه من السفر خارج المغرب قام البصري بسفرتين للخارج على الأقل. كل رحلة كانت تجر وراءها كلاما حول اللاعودة أو تغييره للجنسية. منذ أكثر من ثلاثة أسابيع سافر البصري إلى فرنسا، وخلال هذه المدة استطاع أن يزور أسبانيا "لمسائل شخصية" كما يقول دائما، وربما لرعاية أملاكه هناك، قبل أن يعود ثانية إلى فرنسا.
بعد عام من محاولات فاشلة للحصول على الجنسية الفرنسية (في وقت قيل فيه إنه سافر إلى فرنسا لأسباب صحية) سيحاول البصري هذه المرة مع السلطات الأسبانية. هل المذكرات التي يتوقع أن تثير ضجة كبيرة توجد ضمن هذه المسائل الشخصية التي دفعت لهذا السفر؟. لا يريد البصري أن يتكلم عن تفاصيل الكتاب كي يظل الترقب مستعرا. الكتاب تقريبا جاهز منذ عدة شهور، لكن مسألة نشره التي كانت بالأمس قريبة المنال باتت غير مؤكدة. يقول البصري "سأتكلم في الوقت المناسب".
بعد فضيحة عبد العزيز لعفورة وعبد المغيث السليماني المتابعين في قضايا فساد مالي وسوء تسيير، عاد إدريس البصري إلى الواجهة باعتبارهما من أكثر المقربين له وكانا يعملان تحت كنفه. لكنه غير معني بقضية السليماني والعفورة في جانبها التقني، ولا يهمه الأمر إلا في جانب واحد يتعلق بالأسهم التي يملكها في الظل في فندق "تيفولي" بأكادير الذي استفاد من الأشغال التي كانت مخصصة لمشروع محطة أولاد زيان في الدار البيضاء. لهذا السبب تحديدا ورد اسم البصري في الشكوى التي رفعها رجل الأعمال السويسري جون فيكتور لوفات، بيد أن المحققين في القضية التي جرت الوبال على مسؤولين كبار، وحسب ما تبينه محاضر الشرطة القضائية بدا أنهم يقطعون كل طريق يمكن أن تؤدي إلى أقوى رجل نظام في تاريخ البلاد. وكأن هناك إرادة سياسية إلى حصر القضية. ما يقود إلى هذا الاعتقاد أن الملف رفع إلى المجلس الأعلى للقضاء حيث يستعصي الكشف عن مجريات التحقيق. بعض الأوساط تتحدث عن طريق أقصر للمس بالبصري وهي مشروع "بوزنيقة باي" ومشاريع أخرى أعدها ويديرها ابنه هشام البصري.
يعود إدريس البصري ويعود معه ماضي طافح بأحداث قوية ملتهبة كان وراءها شرطي.
لم يخلق إدريس البصري شرطيا. في الخمسينات كان شابا بسيطا، كان يدرس في الثانوية الإسلامية بمدينة سطات مسقط رأسه ويتردد عليها باستمرار.
يقول أحد أساتذته "كان البصري الصغير هادئا ومجدا ووديعا، كان جيدا في جميع المواد خاصة في الامتحانات الكتابية باستثناء مادة العربية". نشا البصري الذي ولد عام 1938 نشأة فقيرة. كان والده يعمل حارسا في سجن بالمدينة.
كان البصري ذو الموهبة المتوسطة يمر دون أن يفطن له أحد إلى غاية ذلك اليوم من حزيران (يونيو) عام 1957 الذي سيفاجأ فيه الجميع بدئا من مدرسه الذي يقول "كان ذلك في أحد أيام رمضان، كنا في الفصل وإذا بأصوات شجار مشتعل تصلنا من نوافذ الحجرة. كان في الخارج رجل متهم على الأرجح بإفطار رمضان يرجم بالحجارة أمام الملأ. كان المشهد مريعا. كل التلاميذ هرعوا إلى الخارج ومنهم من تحلق حول النافذة لتتبع ما يجري بالخارج باستثناء تلميذ واحد، هو الصغير البصري الذي بقي هادئا برباطة جأش غريبة في مكانه. التقت نظراتنا وفهم جيدا أنني اضطربت لهذا الهدوء لكنه لم ينبس بكلمة واكتفى بتوجيه رسالة إلي عبر نظرات ثاقبة: لا يمكنك أن تفعل شيئا، حافظ على هدوئك وانتظر إلى أن ينتهي كل شيء".
&في عام 1958 سيتلقف جهاز الأمن الوطني (الشرطة) هذا الشاب في وقت كان يتم فيه التوظيف في هذا الجهاز بقوة الذراع. البصري سيفسر هذا لزملائه الذين نصحوه بإتمام دراسته قائلا "الشرطة هي التي جاءت تبحث عني وليس العكس". هكذا سيعمل البصري ضابط شرطة مساعد في الأمن العام.
في بداية الستينات ستتخذ حياة هذا الضابط الشاب شيئا فشيئا بعدا أكثر أهمية. في هذه الفترة سيتزوج البصري إحدى بنات عائلة السليماني التي كانت مرتبطة بدورها بعلاقة مصاهرة مع عائلة الحداوي الذي كان يعمل مديرا في مكتب أوفقير بالإدارة العامة للأمن الوطني.
سينتبه الحداوي للبصري وسيضعه تحت حمايته (سيرد البصري له جميل اهتمامه به عقودا بعد ذلك بالوقوف وراء تعيين اثنين من أبناء الحداوي رفيق ورشيد تباعا على رأس الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي(مؤسسة حكومية ) والصندوق الوطني للقرض الفلاحي (بنك).
سيحصل الشاب على ترقية ويصبح عميداً في الشرطة وسيتميز عطاؤه في قسم الاستخبارات. هناك سيهتم من بين أشياء أخرى بالقسم السياسي الذي سيصبح فيما بعد مجاله المفضل. موازاة مع أنشطته المهنية كان البصري يحضر لنيل شهادة الكفاءة في الحقوق. طريقة ذكية لولوج الجامعة دون الحاجة إلى شهادة الباكالوريا (الثانوية العامة) ثم سيحصل بعد ذلك على الليسانس ثم الدكتوراه.
في كلية الحقوق في الرباط، سيحصل البصري على العلم وعلى "المعلومات" في آن واحد. الجامعة تصلح كمشتلة للشريحة السياسية التي كان يهيمن عليها آنذاك يسار قوي مندفع. سيتسرب إلى الشبكات التي كانت تنشط في الجامعة اعتمادا على بعض الطلبة الذين تم استقطابهم من طرف أجهزة الاستخبارات.
كانت أبحاثه المتقدمة وكفاءته في مجال المخابرات موضع ارتياح وسعادة من طرف الجهاز المكلف بتحجيم المناوئين للنظام.
في عام 1963 سيكتسب البصري شهرة كبيرة بفضل الدور الذي سيلعبه في إحباط الانقلاب الذي انتهى ب 11 حكما بالإعدام. وستشكل هذه السنة بداية الانطلاق الفعلي لمسار البصري. وسيصنع رجل الأمن له اسما. وكعارف كبير للأوساط الطلابية للفئة السياسية الموجودة والمجتمع المغربي عموما، نجح البصري بتفوق في المجال الاستخباراتي ومكنه هذا النجاح من التسلق والوصول إلى رأس الاستخبارات العامة. في حياته الخاصة نسج البصري علاقات مع شخصيات مرموقة وربطته علاقة صداقة مع أحد إخوة بنهيمة وهي العائلة التي كانت قوية جدا آنذاك، حيث كان اثنان من أفرادها وزراء في الحكومة. وكما فعل مع عائلة الحداوي، سيستفيد البصري من تقربه من عائلة بنهيمة وستكون النتيجة أنه سيعمل مباشرة في الداخلية إلى جانب محمد بنهيمة الذي عين وزيرا للداخلية خلفا لمحمد أوفقير. وسيكشف البصري عن كفاءاته في التنظيم وسيوسع قوته ونفوذه في هذا المنصب. وسيصبح اليد المحركة لوزارة الداخلية لكن فقط في الظل. في عام 1973 سيصبح البصري الرجل الثالث في المغرب بعد الملك الراحل الحسن الثاني وأحمد الدليمي، وسيقود آخر مواجهة مع حركة المعارضة في أحداث مولاي بوعزة التي قام بها يساريون مسلحون .
في عام 1974 اندلعت مشكلة الصحراء لتبعد أحمد الدليمي عن الرباط. في الوقت نفسه سيصبح البصري وزير دولة في وزارة الداخلية بعد مروره من إدارة الشؤون العامة، تلك الآلة التي تصنع الوزراء ورجال السلطة. سيصبح البصري، هذا الرجل القوي، ضروريا حتى بالنسبة للملك ولا يمكن الاستغناء عنه ولا اتخاذ أي قرار استراتيجي دون اللجوء إليه. في سنة 1979 سيصبح البصري رسميا وزيرا للداخلية. وهو الذي سيخمد الهياج الشعبي الذي أثير حول "الخبز" سنة 1981، وسيفتح باب التفاوض حول السلم الاجتماعي مع النقابات، وهو الذي خلق مفهوم الجماعات المحلية وإعادة تقسيم البلد إلى مناطق جهوية وموضة الولاة الحكام.
في عام 1983 أصبح ملف الصحراء "السياسية" في يد البصري بعد اختفاء الدليمي. وسيبدأ المفاوضات مع الجميع، مع رؤساء البلديات والجيران الجزائريين أو المبعوثين الأمميين. سيضيع البصري الفرصة كي يصبح رئيساً للحكومة أو وزيرا الخارجية. لكنه سيربح حقيبة أخرى هي حقيبة وزارة الإعلام. هكذا سيراقب البصري كل ما يتحرك داخل البلاد.
في تلك الفترة، ساهم البصري في تأسيس أكثر من نصف الأحزاب يقول بهذا الصدد "تصرفت هكذا لخدمة مشروع الحسن الثاني: بناء دولة على أسس نقية بعد كنس الملعب". وهذا ما سيؤكده بعد ذلك بغير قليل من الجدية حين قال إن عددا من القرارات المصيرية اتخذت بعد التشاور مع الملك الراحل أثناء لعب الكولف فوق العشب الأخضر أو في حجرة تغيير ملابس الرياضة أو ببساطة أثناء المشي.
ولأنه كان رجلا شديد الحذر، شيد البصري مملكته على أساس جهاز مخابرات خاضع لسلطته بالكامل. وطوال 23 عاما حرص البصري على الاهتمام بهيكل الاستخبارات الداخلية واكتفى بتعيين مدراء مساعدين من الموالين له فقط. وليس من قبيل الصدفة أن يدرك البصري أنه انتهى، قليلا بعد رحيل الملك الحسن الثاني وحتى قبل إقالته من منصبه، وذلك منذ 1999 حينما عين مدير جديد لجهاز المخابرات.