عزيز توما
&
&
&

لا يخفى على أحد أن الآشوريين سميوا بأسماء مختلفة بفعل الانشقاقات الكنسية المعروفة عبر التاريخ، فقد سميوا سريانا تارة وكلدانا تارة أخرى،غير أننا لن ندخل في تفاصيل هذه الانشقاقات المؤلمة والمتعبة في آن معا سنكتفي فقط بتبعاتها والأضرار التي ألحقتها على أصعدة مختلفة، ونحن إذ نرتأي استخدام التسمية (( الآشورية )) كونها تعبر بشكل أفضل عن واقع الخصوصية القومية وواقع النضال القومي لهذا الشعب، علما أن التسميات الثلاث لها تراث واحد وتاريخ واحد ولغة واحدة.
في سورية وتحديدا في منطقة الجزيرة السورية، التي تعتبر منطقة تواجد الآشوريين التاريخية أسوة بمناطق أخرى في بلاد ما بين النهرين، يتوزع الآشوريون على شكل طوائف كنسية متعددة ( سريان أرثوذكس، سريان كاتوليك، كلدان كاتوليك، الكنيسة الشرقية الآشورية بشقيها، بروتستانت.. ). هذا التنوع المذهبي لم يكن دائما حالة ايجابية بسبب غلبة الحالة المذهبية على الحالة القومية أو عدم وجود حدود واضحة بين الحالتين، بذا فقد ذابت الخصوصية الثقافية المتوارثة عند الكثير في الخصوصية المذهبية، وألحق هذا الوضع ضررا كبيرا في الهوية الثقافية الآشورية ( الكلدانية السريانية ). و من الأهمية الإشارة إلى أن هناك تباين واضح بين هذه الطوائف فيما يتعلق بالخصوصية الثقافية ومستوى الوعي القومي، فنجد أن هذا التنوع يتوحد على مستوى اللغة والثقافة والتاريخ لكنه يعاني إلى حد ما من الانقسام في البنية الكنسية المذهبية المتراكمة منذ حقبة التصدعات اللاهوتية في أزمنة غابرة. أمام هذا المشهد (( الغرائبي )) والانتماء الحاد إلى المذهبية، كانت التحولات الهادفة إلى بناء البيت الآشوري وتحقيق الحد الأدنى من الوحدة القومية تصطدم بعراقيل كثيرة منها كيفية تجاوز ترسبات الماضي القريب المتمثلة بتعددية المسميات المذهبية (( المؤرقة )) وإيجاد صيغة مناسبة مرنة تحقق حد أدنى لصالح الوحدة الكنسية والقومية. ما حدث في العراق فيما يخص وحدة المسميات القومية والكنسية والاتفاق على صيغة مرنة من الوحدة تم إطلاق التسمية الكلدو آشورية واللغة السريانية وقد ينعكس هذا إيجابا على الواقع الآشوري في سورية، ولاسيما أن الواقعين متماثلين على المستوى التعدد المذهبي وعلى مستوى البنية الذهنية، مع الأخذ في الاعتبار إقصاء كل البنى العصبوية المذهبية وتحويلها إلى بنى ايجابية فاعلة لمصلحة الوحدة القومية.


في سورية، انخرط الآشوريون ( السريان والكلدان )، في وقت ما، في الأحزاب الشيوعية والقومية العربية. لماذا؟ ربما هناك دوافع كثيرة لا مجال لذكر جميعها هنا، غير أنني سأشير إلى دافع يبدو صارخا في هذا الصدد ربما مثل حالة الاحتماء بالآخر القوي ( حزب البعث العربي السوري على سبيل المثال بوصفه حزب السلطة )، لأن فكرة الأقلية والخوف من المستقبل والاضطهادات التي وقعت لهم على مر التاريخ كانت وراء انخراطهم بهذه الكم الهائل إلى صفوف حزب البعث العربي السوري، دون الأخذ في الاعتبار أن هذا الانخراط سيلحق بهم أكبر الضرر على الصعيد الثقافي خاصة وأن حزب البعث هو حزب يتبنى المنطلق القومي العربي في المحصلة الأخيرة. كان الوضع كارثيا، هذا الوضع دفع البعض من الآشوريين الحد الذوبان والانصهار في العروبة: لقد تخلى هؤلاء عن لغتهم وثقافتهم المتوارثة من آلاف السنين، وهذا التخلي بحد ذاته خسارة مهما كان الدافع وراء ذلك. الثقافة هي ذاكرة الإنسان ومن المؤلم أن تموت هذه الذاكرة. كما أنني معني أن المركزية الثقافية هي موت للآخر. الدافع هو نفسه وراء انخراط الآشوريين (السريان والكلدان ) إلى الأحزاب الشيوعية وأحزاب التجمع الوطني الديمقراطي في سورية باعتبار أن هذه الأحزاب هي أيضا كانت تمتلك قدرا مهما من (( القوة )) و((الحصانة )). لقد خلط هؤلاء المنتسبون أي تلك الأحزاب بين الخصوصية الثقافية والأيديولوجيا الحزبية، مما أدى ذلك إلى تشويهات ظاهرة في الشخصية الآشورية، لهذا يجري الحديث اليوم عن معرفة هؤلاء من خلال الأيديولجيا التي يتبنونها، إن هذه الصورة الاختزالية للثقافة في الأيديولوجيا كان لها دوافعها كما ذكرنا آنفا وكان لها قاعدتها التي تمثلت في حلقات متكررة من الإخفاقات التاريخية والانتكاسات المتعاقبة على صعيد الوعي القومي الآشوري الذي عانى من انقطاعات في المسيرة الحضارية لعقود طويلة من الزمن. واليوم أليس من الطبيعي في هذا العصر في ظل التغييرات التي تعصف بالعالم أن يقرأ الآشوريون المرحلة بذهنية متفتحة لمواجهة المشكلات الحقيقية التي تواجههم في واقعهم وفي حياتهم؟ الم يحن الوقت لهذه الدوغمائية المبتذلة الناسفة أن تزول في عصر الانفتاح؟ الم يحن الوقت للظهور ماكان مكبوتا منذ ألف عام؟
مازلنا نبحث في أسباب الأزمة،ازمة المشروع القومي الآشوري. بالطبع، لم تكن الأحزاب الآشورية ( المنظمة الآثورية الديمقراطية..؟ ) بمنأى عن هذه الأزمة، لأنها، ببساطة، صنيعة ثقافتنا المأزومة، وصنيعة نرجسيتنا الشرق أوسطية وإرهاصات الواقع الإشكالي. هذه القوى المتمثلة في الأحزاب قد يكون عجزها مبررا أحيانا حسب رأي البعض - على مستوى الأداء السياسي لأن الواقع الآشوري يعاني طويلا من تراكمات تداخلت فيها عوامل الجغرافيا والتاريخ والتركيبة المجتمعية للآشوريين، وعلا قتهم مع الآخر التي كانت محل نزاع دائم، فبغية التصدي لها لا بد من استنباط حلول مناسبة وآليات عمل تستفيد من التغييرات الراهنة لنزع استحقاقات قومية. مظاهر العجز هذه تمثلت أحيانا في خطاب سياسي تقليدي بعيد عن الواقع ومشكلاته، خطاب ينزع إلى الماضي على شكل بكائيات، ماضي وانتصارات الإمبراطورية الآشورية والغرق في متاهات التاريخ الغابر كمخرج يتمثل في محاولة القفز على الواقع، ليتحول هذا الخطاب، أخيرا، إلى حنين هذياني إلى العصر الآشوري الذهبي،أو الاستسلام لسحر العودة إلى ثقافة فولكلورية بدءا من اللحظة التي تصبح عملية التحديث ممكنة،أو النوم على ارث (( نضالي )) حزبي انتهى عمره الافتراضي، فكلما خف تعلقنا بالماضي ازدادت فاعليتنا في الحاضر. وهذا المرض ذاته الذي وقع فيه شعوب المنطقة غير الآشوريين حين بقوا أسرى الماضي، أسرى الانغلاق.

لكي ينال الآشوريون حقوقهم والإقرار بوجودهم في سورية لا بد من توحيد كل القوى الآشورية - الكلدانية - السريانية والتغلب على مفردات الاختلاف وتفاصيلها (( الطوباوية )) المرهقة التي يسعى البعض إلى تأجيجها، لا بد من إيجاد صيغ ملائمة لتعدد التسميات التي كانت بمثابة تأزم مستمر في التاريخ الآشوري الماضي والراهن،لا بد أيضا من العمل مع القوى الفاعلة في المجتمع بهدف تثبيت الحقوق كاملة وعلى قدم المساواة مع الآخر وضرورة التعايش مع المواطنة السورية الواحدة بلا تمييز ولا تفضيل طرف على آخر. وفي هذا الصدد، لا بد من الاستفادة من التجربة العراقية حين أقدم الآشوريون في مؤتمرهم المنصرم الذي انعقد في بغداد حين اتفقوا على تسمية موحدة وهي: الكلدو- آشورية واللغة السريانية وقد جاء تمثيلهم على هذا الأساس في مجلس الحكم الانتقالي الراهن وفي الدستور العراقي المرتقب.
ولا بد لي أن أذكر في النهاية بأن الحديث عن الخصوصية الثقافية الآشورية ليس بأي حال من الأحوال دعوة إلى الانغلاق،إنما دعوة إلى التعايش مع الآخر في مجتمع فسيفسائي كمجتمعنا، مع الأخذ في الاعتبار وضع حد لسطوة الأيديولوجيات المسيطرة وبناء ثقافة الاعتراف بالآخر، ثقافة الديمقراطية التي هي شرط لازم للتعايش.
لابد لي أن أختم مقالي بهذه الأسطر القليلة: القضية الآشورية في سورية قضية عادلة تتمثل في حقهم في الوجود المتساوي مع غيرهم بغض النظر للمؤشرات الرقمية. والآشوريون (السريان والكلدان ) مدعوون إلى تجاوز حالة التفتيت الطائفي والى عدم الانشغال بمسائل هامشية وتفصيلية، لأن القضية تتعلق بمصير وحاضر ومستقبل وحقوق وواجبات هذا الشعب.