د. شاكر النابلسي
&

&-1-
تحتفل "إيلاف" في هذه الأيام بعيدها الثالث، ودخولها العام الرابع في ثورة المعلومات من أوسع الأبواب، وما يُعرف بالصحافة الاليكترونية. وقد استطاعت "إيلاف" ان تتحرر من بعض القيود، وليس من كل قيود الصحافة العربية. فـ "إيلاف" ما زالت محجوبة عن المتلقي العربي في عدد من البلدان العربية الديكتاتورية لتبنيها أفكاراً سياسية ليبرالية جديدة، لم تجرؤ الصحافة التقليدية العربية على تبنيها ونشرها على النحو الذي يتم في "إيلاف".
وهذا لا يعني أن لا خطوط حمراء في "إيلاف". هناك خطوط حمراء في كل صحافة العالم المتحضر، ولكن درجة الاحمرار من وسيلة إلى أخرى تختلف، كما أن عرض الخط الأحمر من وسيلة إعلامية إلى أخرى يختلف.

-2-
في "إيلاف" هناك خطوط حمراء لا شك في ذلك، فيما لو وضعنا في الاعتبار بأن همَّ "إيلاف"& الأول أن تصل إلى أكبر عدد من القراء العرب. ففي الاحصاء الأخير تبين أن أكثر من مليونين ونصف نقرة في اليوم، وهو ما لم تحققه أية وسيلة إعلامية مقروءة في تاريخ الصحافة العربية على الاطلاق. ومن أجل ذلك تبقى خطوط "إيلاف" الحمراء خطوطاً باهتة الاحمرار ورفيعة، إلى الحد الذي معه لا يموت الراعي ولا يفني الغنم. وتطالب "إيلاف" كتابها بأن يكون أذكياء في الكيفية التي يكتبون بها، فيضمروا أكثر مما يُعلنوا لكي يمر الخيط من خرم الإبرة وتتم الخياطة، ولا يطلبون من الفيل أن يعبر من خرم الأبرة.
ورغم كل ذلك، كان في "إيلاف" مساحة كبيرة من الحرية لا مثيل لها في الصحافة العربية المقروءة. ولعل هذا العدد من الكتّاب الليبرليين الجدد الذين ظهروا في "إيلاف" وهذا الاقبال المنقطع النظير على قراءة "إيلاف" من قبل العامة والخاصة، ومن قبل صنّاع القرار في العالم العربي، هو الذي يشير إلى مساحة الحرية الكبيرة في التعبير التي تتميز بها "إيلاف".
&
-3-
"إيلاف" هي التي أطلقت المثقف العربي الكوني. بمعنى أن رسالة المثقف التي تنشرها "إيلاف" تصل إلى كل بقعة في الأرض. فكثير من مقالات كبار الكتّاب في "إيلاف" تتناقلها الصحافة العالمية وتترجمها إلى اللغات الانجليزية والفرنسية والالمانية العبرية، وتتم اعادة نشرها بهذه اللغات في أكثر الصحف العالمية شهرة. ومن هنا اتاحت "إيلاف"& لكتابها الكبار الاختراق الكوني، وأوصلت أصواتهم إلى كل بقاع الأرض. والدليل على ذلك هذا السيل من الرسائل اليومية الذي يتلقاه كتّاب "إيلاف" من شتى بقاع المعمورة، القليل منه مادح، والكثير منه ساخط وشاتم.
&
-4-
لقد فتحت "إيلاف" صفحاتها لكافة الكتّاب الليبراليين الجدد "المغضوب عليهم ولا الضالين" من قبل الصحافة الرسمية وشبه الرسمية العربية. ولعبت "إيلاف" دور "دار الايتام" التي احتضنت كل كاتب أو مفكر أو فكر مشرّد غير مُعترف بأبوته الشرعية في العالم العربي. وكانت "دار الايتام" هذه تضم من تطلق عليهم الصحافة العربية الرسمية وشبه الرسمية "اللقطاء" أو "أولاد الحرام" أو "أولاد الزنا" أو "المثقفين غير الشرعيين" .. الخ. وهؤلاء اثبتوا من خلال المواقف السياسية العسيرة والمعقدة في فلسطين والعراق ومصر والخليج، بأنهم أكثر شرعية من المثقفين الشرعيين الرسميين الذي لا يكتبون إلا بمرسوم، ولا ينطقون إلا بوحي من الأبواب العالية.
&
-5-
لـ "إيلاف" مزايا كثيرة قلَّ أن يوجد مثيل لها في الصحافة العربية المقروءة منها موقفها من الديمقرطية العربية، وموقفها من الديكتاتورية العربية، وموقفها من الفكر الغربي والسياسة الغربية. ولعل الوسيلة الوحيدة المقروءة المطبوعة التي تشارك "إيلاف" هذا التوجه هي جريدة "السياسة" الكويتية المتميزة، وجريدة "الأحداث المغربية" الأكثر تميزاً، بحيث خلقت هذه الوسائل الثلاث تياراً ليبرالياً جديداً في العالم العربي كان له وجهة نظر مختلفة ومتميزة تماماً عن التيار الليبرالي العربي التقليدي في العالم العربي. وهذا التيار هو الذي نطلق عنه تيار الليبراليين الجُدد.

فما هي مظاهر هذا التيار وبماذا يؤمن وينادي؟
&
-6-
إن هذا التيار يؤمن وينادي بالمباديء الرئيسية التالية:
&1- أن الحرية العربية والديمقراطية العربية مطلبان حيويان لاستمرار الوجود العربي. وأن تحقيق الحرية العربية والديمقراطية العربية غير موقوف على الداخل أو على العنصر العربي. فالتدخل الخارجي عند تقاطع المصالح شرعي ومطلوب ومرغوب. فاهلاً بالحرية وأهلاً بالديمقراطية سواء جاءت على ظهر جمل عربي، أو على ظهر دبابة أجنبية. ولعل العراق هو النموذج الواضح الآن.
2- أن هدف الحرية والديمقراطية العربية لن يتحقق إلا بسلام شامل ودائم في الشرق الأوسط. وأن المفاوضات والحلول السلمية السياسية هي الطريق الأوحد إلى هذا السلام في ظل عدم توازن القوى العسكرية في المنطقة بين العرب وبين اعدائهم. وأن الكفاح المسلح والمقاومة المسلحة لن تزيد الاوضاع في منطقة الشرق الأوسط الا تعقيداً وتفجراً ومزيداً من الدماء، ولن توصلنا إلى أية نتيجة ايجابية.
3- أن اصلاح التعليم الديني الظلامي من أهم الوسائل للقضاء على الارهاب الدموي الدائر في العالم العربي.
4- أن المساواة المطلقة بين الرجل والمرأة في التعليم وفرص العمل والأحوال الشخصية والميراث والشهادة وخلاف ذلك هي الوسيلة الأخرى للوصول إلى مجتمع عربي متحرر ومدني ومتحضر تحضراً فعلياً. وأن القوامة لم تعد للرجال فقط على النساء، بل أصبحت النساء أيضاً في كثير من الحالات في العصر الحديث هُنَّ القوّامات على الرجال.
5- لقد فتحت "إيلاف" صفحاتها لحديث طويل وممتد عن الحداثة العربية. ولعل من النادر أن نرى هذا العدد الكبير من الكتّاب الحداثيين في وسيلة إعلامية واحده كما نراه في "إيلاف" الآن. كما أن الحديث عن الحداثة والتحديث في "ايلاف" لكافة وجوه الحياة العربية، أصبح حديث الصباح والمساء، إلى درجة الضجر في بعض الأحيان.
6- لقد تبنى كتّاب "إيلاف"& الليبراليون الجدد دعم المجتمع المدني ومؤسساته ودعاته. وتبنى هؤلاء الكتّاب الدفاع عن المجتمع المدني، ووقفوا ضد الدكيتاتورية والاستبداد. فلم تتحمس أية فئة من المفكرين والكتّاب العرب لسقوط صدام حسين - مثالاً لا حصراً - كما تحمّس كتّاب ومفكرو "إيلاف". ووقف هؤلاء إلى جانب دعوات الاصلاح في العالم العربي وساندوها، وحللوا خطاباتها، وبشروا بمستقبلها الآتي.
8-وقف نفر كبير من تيار اليبراليين الجدد موقفاً صلباً وعلمياً وفكرياً وتاريخياً صارماً من الأصولية الدينية والقومية، المدنية منها والمسلحة. واعتبروا أن هذه الأصولية هي دبش العثرة المقدس الكبير في وجه تقدم الحداثة والتحديث في العالم العربي.
&
-7-
إن هامش الحرية الكبير الذي يتمتع بها كتاب "إيلاف" اليوم سوف يدفعهم غداً إلى مزيد من العطاء التنويري في ظلام العالم العربي الدامس الآن. وهناك طائفة صغيرة من القراء تطلب المزيد من هذا العطاء التنويري. وهناك طوائف كبيرة أخرى تتهم حملة مشاعل التنوير من تيار الليبراليين الجدد بالكفر والمروق وزيادة الشقوق. فالغاضبون من "إيلاف" أكثر من الراضين عنها،والمختلفون معها أكثر من المتفقين عليها، والشاتمون لها أكثر من المداحين، وذلك غير مستغرب على عالم كالعالم العربي حكمته الديكتاتورية الخلافوية والعسكرية والعشائرية والحزبية المختلفة أكثر من 1500 سنة وحتى هذه اللحظة.
وذلك هو سر نجاح "إيلاف" المضطرد يوماً بعد يوم!