أمين الإمام

&
&

كم كان طاهراً ذلك القول، الذي نطق به رائد الحداثة الشعريّة صلاح عبدالصبور، بروح الحُبْ السلام شعراً، حين قال:
الناس في بلادي يصنعون الحُبْ
كلامهم بسّام
ولغوهم أنغام
وحين يتقابلون
ينطقون بالسلام
عليّ أن استشعر تلك الروح، من صميم عقلي ووجداني، وحكومة بلادي تحاول أن تصنع السلام، وشعبها الطيِّب يسعى دائماً لـ"صناعة الحُبْ". لكن حاسّة "المراقبة الصحافيّة"، الطافحة برغبة التعليق الصامت (إن جاز ذلك التعبير)، سَكَنَتْ لأكثر من تسعة أشهر ما يتجاوز حمل كائن بشري في بطن أُمِّه (!) في عُمْق ذلك الوطن/ القارة، مثلما سَكَنَتْ دواخلي دون أن تنطق، سوى في مناسبات محدودة جدّاً، حتّى أنّ نفرٌ غير قليل من أبناء وطني، راسلوني عبر "أثير الإيميل"، وهم يلومون عدم اهتمامي بالكتابة في الشأن السوداني، مثلما أكتب في الشؤون العربيّة الأخرى (فلسطينيّاً وعراقيّاً بالتحديد). تلك الحاسّة المُشار إليها، تقودني إلى شيءٍ آخر، لن يُفضي إلى صناعة السلام حكوميّاً، وإن فعلوا "بروتوكوليّاً وورقيّاً"، ولا صناعة الحُبْ شعوبيّاً، ولو استمرّت الكثير من المحاولات البريئة الطيِّبة. ذلك الشيء أخشى أن يكون قد تحقَّق بالفعل، في اتجاهات السودان الأربعة، بما يجب أن يُسمَّى اصطلاحاً بـ"صناعة العذاب" (!).
[#].........................
أخشى أن تكون تلك الصورة الشعريّة لـ"عبدالصبور"، قد باتت شيئاً من التاريخ، بالنسبة للمشهد السوداني الراهن، إلاّ من ثمّة ملامحٍ صغيرة وقشورٍ باقية (بكلّ أسف)، والسبب تراكمات إجباريّة، من فِعَال "ضَغْط العَصْر المَعيش" و"عَصْر المعيشة الضاغِط".
الأشهُر التسعة التي أمضيتها ولا أزال في بلادي، بعد غيابٍ وارتحال، جعلتني أتيقّن تمام اليقين، من بروز عادات وأخلاقيّات جديدة تماماً، على المجتمع السوداني. مثلما يعلم الأطبّاء، أن الأمراض السرطانيّة، هي من أخطر الأمراض التي تصيب جسد الإنسان، أدركت أن سرطاناً آخر بات يصيب الأخلاق المعهودة، التي يعرفها القاصي والداني، عن الفرد السوداني، وهو ما أحسب أنّه أكثر خطورة من "السرطانات الجسديّة"، وما يجب أن نُطلِق عليه اصطلاحاً بـ"سرطان النفوس" (!).
تضخُّم وتورُّم في كلِّ شيء: في قيمة العُملة الورقيّة، وفي فعاليّات الاقتصاد الهشّ، وفي تفاصيل كثيرة أُخرى تؤكِّد باستمرار غياب "الدولة المؤسّساتيّة". جرّاء ذلك التضخُّم، تأكّد الحضور الاضطراري الاستثنائي لـ"صناعة العذاب"، وعبر ذلك التورُّم الخبيث، تفشَّى "سرطان النفوس"، طاغياً على كلِّ شيء. سبق أن أشرت في مقال سابق، في مطلع الشهر الماضي، إلى معاناة مدينتي الوادعة (مدني)، من نقص فجائي في رغيف الخُبْز، وذلك بسبب حُكم قضائي، أمر بسجن وتغريم أصحاب 27 مخبزاً آليّاً، بسبب إضافتهم لمادّة برومات البوتاسيوم إلى العجين، وهو ما أدّى إلى وفاة الكثيرين، متأثرين بمرض السرطان. والآن أقول، الأمر لا يقتصر على مدينة واحدة، ولا يقتصر فقط على رغيف الخُبْز. والله، وعظمة الله، بحثت في أغلب ما نتاوله يوميّاً من لحوم وألبان وخضروات وفواكه، وفتافيت أُخرى، فوجدتها مغشوشة بشكل علني، والأغلبيّة الصامتة من الشعب المقهور، تتناول تلك السموم بكلّ صمت، بل وبشيءٍ من التلذُّذ (!).
قبل زمن غير طويل، لم نكن نسمع بإصاباتٍ سرطانيّة، إلاّ فيما ندر. والآن، بات من الطبيعي جدّاً، أن نراقب انتشار السرطان في أجساد السودانيين، من رؤوسهم إلى أخمص أقدامهم. يوم السبت الماضي، دفنّا واحداً من أقطاب مدينتي ورجالها الأبرار، مات ذلك النبيل الهميم، بسبب السرطان الخبيث. وقبله عشرات بل ومئات الحالات، التي انتهى مصيرها إلى القبور، في مدينتي فقط. يموت كلّ هؤلاء كضحايا لانتشار الغشّ، في كلّ ما يحيط بالحياة اليوميّة، وكضحايا أساسيين لـ"سرطان النفوس"، الذي أفسد الأخلاقيّات، وكلّ ذلك بسبب "ضَغْط العَصْر المَعيش" و"عَصْر المعيشة الضاغِط"، كما أشرنا سابقاً.
[#].........................
قبل تأبين ذلك الفقيد (شهيد "سرطان النفوس"!)، في مساء الأحد، بعد رفع سرادق العزاء، أخبرني ابن عمّتي عن حكاية مدهشة، عايشها أثناء عمله في سوق مدينة الأُبيِّض (غرب السودان). قال لي قريبي، إن أحد تُجّار تلك المدينة التجاريّة، أصابه مرض السرطان في خلايا الدماغ، وهي أخطر موقع للإصابة بذلك المرض اللعينة (أجارنا وأجاركم الله). وقد طاف به أبناؤه عدّة عواصم أوروبيّة، طلباً للعلاج، فكان ردّ كلّ الأطباء الاستشاريين، الذين مرّوا بهم هُناك، أن يعودوا بوالدهم إلى بلاده، لينتظر حتفه فقط. وعادوا بالفعل إلى مدينة الأُبيِّض، فطلب ذلك التاجر من أبنائه، أن ينقلوه إلى مسقط رأسه، في مدينة أبو زبد القريبة منها. ولما نفّذوا ما أراد، طلب منهم أن يأتوا إليه بـ"ناقتين"، حتّى يشرب من لبنهما. وبعد أن تناول ذلك الرجل "لبن النوق"، وتناول معه "عصيدة الدُخُن" لبضعة أسابيع، بدأ يتحرّك بنشاط داخل البيت، وهو يؤدِّي صلواته وفروضه اليوميّة الأخرى، ثم طلب بعد ذلك الذهاب، إلى سوق تلك المدينة الصغيرة، وبعد نحو شهر، طلب إعادته إلى متجره في سوق الأُبيِّض. وأخبرني ابن عمّتي، بأنّ ذلك التاجر عاش لسبع سنوات كاملة، بعد عودته من تلك الجولة العلاجيّة الأوروبيّة، إلى أن وافاه أجله بشكل طبيعي للغاية، دون التأثُّر بأي اختلال مرضي يُذكَر.
ما رأيكم (؟).
جوابكم أو صمتكم، يشيران إلى شيءٍ خطير، أجبر شرائح عديدة، من أبناء الشعب السوداني، إلى التدنِّي والانحناء بقبول "صناعة العذاب"، التي تتبادل أدوارها ومهامها أطرافٌ عدّة، من أعلى هرم الأداء الحكومي، إلى سفوح القواعد الجماهيريّة الاعتياديّة: في المرافق، والشوارع، والأسواق، و......، و...... (!). وطالما حضر ذلك الشيء الخطير، فمن الطبيعي أن تتلاشى جميع فرص التقاء فصول الحلّ، من خلال منابر الحوار الصحيحة، لكلّ المعنيين بأمر الشعب السوداني (من تعدُّديّات سياسيّة وثقافيّة وإثنيّة وآيديولوجيّة)، إلاّ من حلّ ومخرج أخير، تفرضه أوامر براجماتيّة (أمريكيّاً وأوروبيّاً)، من أجل صياغة سلام براجماتي أيضاً، بين الأطراف المتناحرة بين الفصيلين الشمالي والجنوبي، لذلك الوطن المقسوم والمهموم، بينما أضاع البعض فرص السلام الحقيقي، الذي حاول البعض الآخر صناعته، من داخل البيت السوداني الكبير والعريق (دون وِصايات العواصم)، بواسطة ريش النعام وجريد النخيل، ما بين طبول الغابة و"طنابير" الصحراء.
[#].........................
لا أعتقد أنّني أبحث في طلاسم، حينما أرقُب بعينيّ تنامي ذلك المرض الخطير (سرطان النفوس)، في أوساط الشعب السوداني، وللمُستغرِب من نتيجة من شاهدته وراقبته، خلال تسعة أشهر ونيف، عليه أن يحضر إلى أرض المليون ميل، ويصل إلى عكس ما يؤسفني الوصول إليه.
جاء مواطني الزميل طلحة جبريل، مكلّفاً من "إيلاف" الإلكترونيّة، قبل بضعة أيّام، من أجل كتابة تقارير من الداخل السوداني، إلاّ أنّه شاهد صورة انطباعيّة أوّليّة، عبر زجاج مُظلَّل. إنّ المشاهدة الطويلة، خلال ذلك الوقت الطويل، وإصراري على معايشة تفاصيل الحياة، كما يعيشها أهلي، عبر الانتقال بالمواصلات العامّة، والدخول شبه اليومي في أزقّة البيوت والأسواق، أوضح الكثير من معالم الصورة، التي ظللت أبحث عنها، لأنّني في كلّ إجازة قصيرة، كنت أرتاد فيها بلادي، كان هناك سؤال يساورني دائماً: ما الذي غيّر طبائع الناس في بلادي (؟).
توصّلت إلى الإجابة تقريباً، حينما أدركت أنّ الناس في بلادي باتوا لا يصنعون الحُبْ كما كانوا إلاّ من خلال بعض الأُطُر الشكليّة وإنّما يصنعون العذاب، ويساهمون في تفشِّي "سرطان النفوس" ليل نهار.
لكم أن تتساءلوا بكلّ وضوح: من المسؤول (؟).
ولي أن أضمّ صوتي إلى تساؤلكم الحاد، وبعدها سأنشر على جنبات الأفق وفقاً لموصوفات الفيتوري بعض ملامح الإجابة، وأعلِّقها على جدار السنوات الـ48، فيما بعد استقلال السودان من ربقة الاستعمار، وخصوصاً العقدين الأخيرين، المُمتلِئين بالكثير من العُقَد والفِتَن والآفات والتناقضات (!).

* كاتب صحافي سوداني
[email protected]