إنحناءة للقائد العظيم

وصفه البعض بجورج واشنطن الأكراد، وقال عنه آخرون، انه من شبيه ديغول محرر فرنسا، فيما وصفه آخرون،أنه كاسترو الشرق، ذلك هو تقييم العديد من الشخصيات السياسية والإعلامية الدولية للزعيم الكردي الكبير الملا مصطفى البارزاني الملهم الروحي للملايين من الأكراد في كردستان المنقسمة على أربع دول في الشرق ألأوسط،والقائد التاريخي للحركة التحررية الكردية ليس في كردستان العراق فحسب بل في جميع أجزائه المجزأة، لأن هذا الزعيم الثائر عندما قاد ثورة شعبه في العراق لم تكن هناك إلا حركات ثورية محدودة في بقية أجزاء كردستان، رغم أن الثورة الكردية في كردستان الشرقية (الإيرانية) مثلا، سبقت ثورة الزعيم بارزاني في العراق بأكثر من عقد من الزمن، وحتى في تلك الثورة التي قادها القاضي محمد باني أول جمهورية كردية في تاريخ هذا الشعب عام 1946 والتي عرفت تاريخيا بجمهورية مهاباد الكردية،كان المرحوم الملا مصطفى أحد أعمدتها الأساسية من خلال قيادته لجيش الجمهورية.
في الأول من آذار من عام 1979 نكب الشعب الكردي برحيل هذا القائد الملهم الذي خاض نضالا عسيرا وطويلا بقيادته الثورة الكردية التي إندلعت منذ أيلول عام 1961 و انتهت بالتوقيع على معاهدة الجزائر المشؤومة في السادس من آذار عام 1975، وترك الانهيار المريع لتلك الثورة أثرا عميقا بل وقاتلا في جسد هذا الزعيم الذي لم يعرف يوما راحة في حياته وهو يحمل هموم شعب تعداده عشرين مليونا على عاتقه، فزرعت تلك الكبوة بإنهيار بوادر المرض القاتل في جسده الهزيل الذي كان لسنوات طويلة الأسد الهصور في ميدانه، فأصيب الزعيم بالسرطان وسافر الى الولايات المتحدة ليعالج هناك، ولعلها من مفارقات القدر أن يضطر بارزاني الى الذهاب لأمريكا التي خانته ليعالج من مرض هناك، وهو المرض الذي داهمه نتيجة سقوط الثورة الذي أحدث في نفسه هزة عنيفة حملته هموما وأحزانا أدمت قلبه الضعيف جراء ما آلت اليه ثورة شعبه التحررية.
كان الملا مصطفى البارزاني الذي نال رتبة الجنرال في الجيش، عاش وترعرع في كنف آبائه وأعمامه الثائرين دائما على الأنظمة الدكتاتورية والعنصرية التي تعاقبت على العراق منذ تشكلت أول حكوماته تحت الإنتداب البريطاني، وسجن وهو لما يزل صغير السن في أحد سجون الموصل مع أعمامه. وفتح البارزاني عينيه منذ أول نشأته داخل هذه العائلة على مظالم الحكومات الشوفينية وسياساتها العنصرية الحاقدة ضد الشعب الكردي وإنكارها لحقوقه المشروعة، وهي سياسات تقوم على أنهاء هذا الشعب من الوجود.
وعندما شب بارزاني قاد انتفاضتين ثوريتين لعشيرته بين عامي 1935-1945 وكان يقاتل في تلك الفترة بأسلحة خفيفة ومهترئة يواجه بها جيوشا جرارة للحكومة العراقية.
بعد أن حاول الحزب الديمقراطي الكردستاني الذي ولد عام 1946 في كردستان إيران تأسيس أول جمهورية كردية في التاريخ، سارع قادته بالإرسال في طلب الملا مصطفى الذي عركته المعارك التي خاضها في تلك الإنتفاضتين ليتولى قيادة الجيش الكردي الجديد ويذود عن حياض الجمهورية الوليدة،فلبى البارزاني النداء القومي وسارع هو وعدد كبير من أفراد عشيرته الى مهاباد ليؤسس هناك أول جيش كردي منظم للدفقاع عن الكيان الكردي. و عندما إنهارت تلك الجمهورية بتواطوء السوفييات والبريطانيين مع شاه ايران، كانت الطامة الكبرى قد وقعت على رأس بارزاني وعشيرته الذين إضطروا تحت طائلة الملاحقة المسعورة لقوات الشاه الى الهروب من مهاباد نحو الإتحاد السوفيني مجتازين في مسيرة تاريخية قل نظيرها في تاريخ المنطقة حدود عدة دول منها عبور نهر آراس العنيد، وشهدت تلك المغامرة البطولية للملا مصطفى الذي رفض إحناء رأسه لشاه إيران عدة أحداث مأساوية، حيث كان العديد من أفراد هذه العشيرة الباسلة يسقطون في الطريق الطويل وأثناء العبور في الجبال والأنهار جوعا وتعبا فكان يوما مشهودا في تاريخ هذه العشيرة والشعب الكردي، ولكن بارزاني وصل الى الإتحاد السوفييتي رغما عن أنوف القادة السوفييت الذين سائهم حضور البارزاني بسبب التزاماتهم المشبوهة تجاه الشاه والبريطانيين،ولكنهم عجزوا عن إتخاذ أي إجراء ضد بارزاني و أفراد عشيراته لعلو قامته ومكانته القيادية وسط شعبه، فتم إسكانه وعشيرته في أحدى الجمهوريات السوفييتية.
وبعد نشوب ثورة 14 تموز من عام 1958 في العراق، سارع الحكم الجديد الذي بشر في البداية بتأسيس دمهورية عراقية ديمقراطية بطلب الزعيم الكردي مصطفى البارزاني وحثه على العودة الى بلده، فعاد بارزاني مع عشيرته في عام 1959 وجرى له إستقبال شعبي لم يحظ به غيره من قادة التاريخ الحديث، ومازال الكثيرون من أبناء المدن التي مر بها بارزاني أثناء عودته الى كردستان مثل البصرة وبغداد وغيرها يكنون لهذا الزعيم الخالد كل التقدير والحب ورثوه من آبائهم وأجدادهم المستقبلين لهذا الثائر الكبير.
مرت علاقة البارزاني وأقطاب الحكم الجديد في العراق وعلى رأسهم قائد الثورة عبدالكريم قاسم بشهر عسل قصير الأمد، حيث تحول قاسم بعد تعرضه الى محاولة إغتيال فاشلة على يد عناصر من حزب البعث الفاشي في العراق الى سلوك نهج دكتاتوري لحكم العراق، فتنكر لوعوده بإحلال الديمقراطية في العراق، وتنصل من جميع الإلتزامات التي قطعها للشعب البكردي فساءت علاقته بالقيادة الكردية المتثملة بالزعيم مصطفى البارزاني الذي أنتخب فور عودته الى كردستان زعيما وقائدا للثورة الكردية ورئيسا لأول حزب ديمقراطي كردي في العراق.
إضطر البارزاني في ظل تنصل حكومة قاسم عن تلبية المطالب الكردية المشروعة الى إعلان الكفاح المسلح،وأعلن قيام أول ثورة كردية شاملة في العراق، هي ثورة أيلول التحررية التي أعلنت في 11 أيلول من عام 1961 ودامت حتى آذار من عام 1975.
قاد البارزاني هذه الثورة بحنكة قيادية فذة،وكان هو الزعيم الذي أجمع عليه غالبية الشعب الكردي، فتمكن في فترة قياسية من تجنيد مئات الأولوف من البيشمركة بصفوف ثورته، وخاض على مدى أربعة عشر عاما نضالا عسيرا على مختلف المستويات، العسكرية والسياسية والدبلوماسية أيضا. فعلى الجانب العسكري تمكن من تحرير مناطق واسعة من كردستان العراق ووضعها تحت سيطرة الثورة ومارس فيها حكما كرديا خالصا،ووجه ضربات مؤثرة على القوات العراقية سجل خلالها البيشمركة ملاحم بطولية فذة بشهادة بعض الصحفيين الأجانب الذين كانوا يغطون أخبار الثورة الكردية في العراق.
وعلى الجانب السياسي دخل الملا مصطفى في عدة جولات من الحوار والتفاوض مع الحكومات العراقية المتعاقبة ولكن من دون جدوى حيث لم يتوصل مع أي منها الى إتفاق يضمن لشعبه أن يتمتع بحقوقه القومية المشروعة.وكان البارزاني صامدا أمام الكثير من الضغوطات التي مورست عليه للتفاهم مع الحكومات العراقية وإنهاء ثورته، ولكنه لم يكن في يوم من الأيام وهو يدخل في العديد من جولات التفاوض مستعدا ليتنازل ولو عن قيد أنملة من حقوق شعبه المشروعة،وكانت مشكلة كركوك إحدى أهم العقبات أمام تلك الجولات التفاوضية، ولكن بارزاني مات ولم يفرط بحق شعبه في هذه المدينة، ويشهد له التاريخ الكردي بهذا الموقف الشجاع، لأنه لو قدم أي تنازل عنها لكانت اليوم حجة بيد الطامعين بتعبية المدينة خاصة من نظام صدام حسين الذي رفض البازاني في إتفاقية آذار من عام 1970 أن يتنازل عن شبر من حق الأكراد في كركوك.
أما على الجانب الدبلوماسي فقد كانت قيادة الثورة لها علاقات دولية وأقليمية واسعة أراد البارزاني من خلالها الأطلالة على العالم الخارجي لإيصال صوت شعبه الكردي الى المحافل الدولية.
كانت قيادة البارزاني للثورة الكردية بدون منازع في تلك الثورة عامل قوة كبيرة من أجل توحيد الصف الكردي في مواجهة أعتى وأشرس الحكومات العنصرية الحاقدة على الشعب الكردي، وكانت حنكته السياسية ومهارته الفائقة في التلائم مع الأحداث العصيبة قد حققت له عدة نجاحات سياسية وعسكرية أخافت ليست الحكومة العراقية وحدها بل دول الجوار أيضا نتيجة التعاظم المضطرد لقوة الثورة تحت قيادة البارزاني، وكانت النتيجة أن تكالبت على الشعب الكردي مؤامرات دول الأقليم والتي إنتهت بتدمير الثورة بمعاهدة الجزائر المشؤومة في 6 آذار عام 1975 التي تنازل صدام حسين بموجبها عن مساحات شاسعة من الأرض العراقية ومن حقوقه في المياه الأقليمية لصالح الشاه.
هناك عدة محطات مهمة في تاريخ هذا الرجل تشكل مفخرة للشعب الكردي،تضاف الى سجاياه وخلقه الرفيع وعزة نفسه الأبية التي ترفض الخنوع والخضوع لأي قوة كائن من كان، فاستحق بذلك أن يضعه البعض في مصاف كبار قادة العالم وإن لم يستطع أن يحقق حلمه الذي نذر له حياته بتحرير شعبه من الحكومات العنصرية وإنشاء كيانه القومي المستقل لكنه بالتأكيد مهد الطريق أمام الجيل اللاحق له بالقيادة أن يحققوا للشعب الكردي بعض طموحاته مع سقوط النظام الدكتاتوري في العراق، ودخول الأكراد كطرف فاعل في قيادة العراق الديمقراطي الفدرالي.
عرف عن البارزاني الخالد أنه كان شامخا ومهيبا عند تعامله مع أعدائه،وفارضا لقوة شخصيته وإحترام مكانته على أعدائه في الطرف الأخر على الرغم من أن الكثيرين من هؤلاء كانوا يتعاملون معه كزعيم مارق أو خارج عن القانون مثلما كان العديد من حكام الدولة العراقية ينظرون اليه، ولكن بارزاني الذي كان زعيم أمة بأكملها، كان يفرض شخصيته وهيبته على كل من يلتقيه من الأعداء.
فقد روي أنه عندما زاره صدام في عام 1969 بهدف إقناعه للدخول في مرحلة جديدة من المفاوضات والتي إنتهت بالتوقيع على بيان 11 آذار، كان البارزاني السياسي البارع يختبيء في غرفة مجاورة عند قدوم صدام عليه وأجلس معاونوه صداما في غرفة الإستقبال، ثم دخل البارزاني اليه مما إضطر صداما أن يقف له مسلما، وكان هذا التصرف متعمدا من البارزاني الذي إستصغر شأن صدام ورفض أن يكون هو الباديء بالوقوف له،فكان البارزاني أبي النفس وذو عزة نفس كريمة يرفض أن يقوم لشخص مثل صدام، وكأني به يتمثل بالحسين الثائر الذي رفض أعطاء يده بالبيعة ليزيد قائلاquot; إن مثلي لا يبايع مثلهquot; وبارزاني قد كان بموقفه ذاك أراد أن يقول لشعبه quot; أن مثله لا يقوم لمثل صدامquot;، هذه الرواية أثرت عنه ولكن من يعرفه عن قرب يدرم كيف أنه عندما كان يجالس بيشمركته يشاركهم صحن الشوربة والخبز الصلب،ويملأ لهم سجائر ((اللف)).
وعرف عن البارزاني أيضا صرامته القاسية عند الضرورة، فقد كان مهيبا مطاعا الى درجة الطاعة العمياء خصوصا لدى البيشمركة الذين كانوا يسترخصون دمائهم من أجله،مع ذلك كان يحنو على البيشمركة حنوه على أولاده.
فعندما إنهارت الثورة جراء التوقيع على المعاهدة الخيانية من شاه ايران مع صدام حسين في قمة الجزائر، ارسل ليلة السادس من آذار برقية الى جميع تشكيلات البيشمركة التي كانت قوامها في تلك الفترة يزيد عن 300 ألف مقاتل منتشرين من أقصى الحدود الشرقية في خانقين الى أقصى الشمال الغربي في زاخو، طلب منهم أن يختاروا أما اللجوء الى إيران أو العودة الى العراق، وكانت هذه الدعوة الحكيمة التي أطلقها البارزاني تنم عن حنكة قيادية بعيدة النظر من هذا القائد التاريخي، خاصة وأنه عندما أعلنت البرقية على أفراد البيشمركة رافقتها دعوات من قادة البيشمركة بتوجيه من البارزاني باختيار اللجوء الى إيران بدل العودة الى العراق لأن البارزاني كان يخطط منذ تلك اللحظة العسيرة لمعاودة الثورة مجددا في اللحظة المؤاتية،فقد كان يدرك بخبرته السياسية في تلك اللحظة أن المؤامرة كانت أقوى من طاقة شعبه وأنه في حال الإصرار على المقاومة فأنه سيقدم تضحيات جسيمة وكبيرة من دماء شعبه، فآثر الإذعان للأمر الواقع على أن يعاود الثورة في الظرف المناسب ولو بعد حين.
أتذكر وأنا كنت أحد البيشمركة الشباب في صفوف الثورة كيف كانت وقع الصدمة علينا عندما تليت علينا برقية البارزاني بوقف الثورة، لقد أجهش الكثيرون منا بالبكاء المر للمصير الذي وصلنا اليه وكان البعض منا ينطح رأسه بالصخور حزنا وهما ويكسر بندقيته ورشاشته كي لا يسلمها لا الى الإيرانيين الذين باعونا ولا الى العراقيين الذي كان سيستخدمونه ضدنا في يوم من الأيام، ونجح الكثيرون منهم بدفن تلك البنادق والأسلحة تحت الأشجار والأحجار واستدلوا عليها بإشارات مموهة ليتمكنوا من إخراجها عند نشوب ثورة جديدة.
وكانت في تلك اللحظات الحرجة قد تعالت أصوات حتى داخل قيادة الثورة بمواصلة القتال وعدم الإذعان للأمر الواقع، خاصة من الشهيد صالح اليوسفي الذي كان أحد أبرز القيادات الأمامية للحزب الذي طلب الإستمرار بالمقاومة، ولكن الملا مصطفى رفض ذلك ببعد نظره وصوابية تفكيره لأنه لم يرد أن يخوض مغامرة غير محسومة النتائج ويضحى بآلاف من أبناله الذين يمكن له أن يدخرهم الى وقت معلوم.وكان له ذلك حيث لم تكد تمر سنة واحدة على إنهيار الثورة حتى عاود أبنائه إعلانها مجددا ضد السلطة البعثية من على جبال كردستان فلم يتركوا صداما ينتشي بنصره المزيف على الثورة الكردية حتى عاد البيشمركة الذين ذهبوا الى إيران عادوا الى جبال كردستان ليعلنوها ثورة حتى تحقيق النصر وكان لهم ذلك وإن في غياب ذلك الجبل الأشم البارزاني الخالد الذي كان من طراز الرجال العظام الذين يموتون واقفين شامخين شموخ الجبال.
أيها الأب القائد إسمح لي أن أنحني أمام ذكراك..

آذار والاكراد 1-5

شيرزاد شيخاني

[email protected]