من الصعب جدا حصر أسباب تخلف الدول العربية وحقيقة عجزها عن بناء أنظمة ديمقراطية متقدمة ومتنورة ومنفتحة وتعددية كما هو الحال في البلاد المتمدنة في العالم الغربي. ولعل أسباب هذا التخلف سياسية أو ثقافية أو تاريخية أو اجتماعية أو حتى مناخية. نعم مناخية. ولم لا؟ لن أستبعد أي سبب من الأسباب طالما أن التخلف يلف الإنسان العربي ويغمره من المحيط إلى الخليج ويجعله كائنا خارج التاريخ وبدون معنى في عالمنا المعاصر. لكن المحير في وضعنا الحالي والأكثر إزعاجا أن غالبيتنا، نحن العرب، تطمئن إلى تخلفها هذا وتأنس له وتحبه وتجمله بتوصيفات متنوعة لا حصر لها ولا نهاية. هناك من يرى التخلف ثقافة وهناك من يجعله هوية أو مظهرا حضاريا وكثيرون يسمونه ببساطة خصوصية، بمعنى أن تخلفنا غير قابل للنقد والمراجعة والمناقشة. لذلك، فإن أشارت إليه المنتظمات الدولية مستفسرة ومتسائلة أو مستغربة في تقاريرها ووثائقها، فلن يكون ذلك الاهتمام الخارجي إلا بدافع الحقد والعنصرية، وبالطبع لا يمكن أن يكون إلا تدخلا غير لائق في شؤوننا الداخلية المقدسة. وهو الأمر الذي نرفضه قطعا وجزما دائما إن رسميا أم شعبيا بالخطب والمسيرات الاحتجاجية وقليل من العمل والمثابرة وبمزيد من العناد والتخلف.
أكبر عنوان لتخلفنا هو أن أغلبنا اعتبر الديمقراطية منذ فجر استقلال الدول العربية إلى اليوم شعارا معاديا للقومية العربية ولثقافتنا العربية؛ فاخترنا في أغلب بلادنا معاداتها ومواجهتها بأنظمة شمولية، مستبدة ومتسلطة لا تؤمن بالتعدد السياسي، والتناوب، والحوار والتشارك، بل تمارس، على نقيض من ذلك، الجبروت والطغيان والظلم والمزاجية. وإن اضطررنا إلى ممارسة بعض أشكال الديمقراطية تحت ضغط من الضغوط الإقليمية أو الدولية، فلم تنقصنا أبدا خبرة اللف حول الديمقراطية إلى أن ننتهي إلى مسخها في برلمانات مزيفة وشكلية وأحزاب متكررة ومتشابهة وانتخابات فلكلورية وغرائبية. نجحنا دائما، وحتى اليوم وربما مستقبلا، في العبث بجوهر الديمقراطية وبمعانيها وقيمها وحاصرناها بالهروب إلى الأمام بمزيد من الممارسات غير الديمقراطية المتمثلة في الإجهاز على حرية التعبير ومعاداة الفكر الليبرالي المتنور، ومحاربة المثقفين بالتضييق عليهم بشتى الأساليب، إفتائية وإيديولوجية وسياسية، وحولنا جامعاتنا ومؤسساتنا الإعلامية إلى معسكرات لتدجين الفكر الحر ونشر إيديولوجيات الدكتاتورية والحزب الوحيد.
وفي الوقت الذي اختارت فيه مجموعة من الدول العربية التعددية الحزبية والانفتاح وخيار التطور الاقتصادي والاستقرار السياسي، وكانت في حاجة إلى كثير من الدعم والمساندة من الداخل والخارج لتتقدم في برامجها الاقتصادية والاجتماعية والسياسة ولتخطو خطوات أسرع نحو الانفتاح والتطور، اختارت الأخريات من باقي الدول الحزب الوحيد ومعاداة من خالف نهجها في التسلط والاستبداد عبر شعارات كان لها البريق الكافي للاستقطاب العاطفي غير العقلاني لفئات عريضة من الشعوب العربية. فكان هذا التناقض بين النزوع إلى الانفتاح والنزوع إلى الشمولية مدعاة لكثير من التوترات الإقليمية غير المستساغة ثقافيا وتاريخيا وحضاريا.
وعلى سبيل المثال، لا زال مشكل الصحراء المفتعل يعيق مخطط التنمية في المغرب ويحد من إمكانياته الخارقة في الانطلاق نحو مزيد من الحداثة والديمقراطية. وليس ثمة أغرب من أن تصر بعض الجهات، وفي مقدمتها الجزائر، على تقسيم بلد موحد بوشائج القربى والتاريخ والجغرافيا إلى quot;دولتينquot; تحت ذريعة quot;دعم استقلال الشعوبquot;. ولو أبيح لجميع دول العالم أن تدعم الانفصال وتشرعن quot;الاستقلالquot; المصطنع لتضاعف عدد دول الأرض بالمئات والآلاف، وتحولت كل قرى العالم إلى دويلات كرتونية لا تعد ولا تحصى ولكان لكل قرية علمها ونشيدها الوطني ووزارة للخارجية، ولعجزت الولايات المتحدة الأمريكية بكل إمكانياتها عن توفير مكان في نيويورك أو واشنطن يسع جميع التمثيليات أو الهيئات الدبلوماسية. وقد كان جلالة الملك صبيحة السبت، في الخامس والعشرين من شهر مارس/آذار 2006 حكيما وشجاعا بإعلانه عن مشروع الحكم الذاتي للصحراء في إطار السيادة المغربية. وما ينبغي إدراكه هو أن مشروع الحكم الذاتي للصحراء المغربية يندرج في إطار سياسة التدبير الجديدة للشأن المحلي التي ينتهجها المغرب بهدف تعزيز الديمقراطية وخيار الجهوية واللامركزية. فلا يمكن تحت أي ظرف أن يشكل هذا المشروع تنازلا ترابيا، بل هو انطلاقة لتأثيث المشهد السياسي المغربي بديمقراطية جهوية واجتماعية توحد المغرب وتضمن استقراره وحقوقه.
وكان أفظع ما عشناه كذلك في تاريخنا العربي الحديث، قيام صدام حسين بغزو الكويت في الثاني من شهر أغسطس/آب 1990. لقد قام صدام حسين باسم العروبة وباسم القومية وتحت غطاء إيديولوجية الحزب الوحيد بتدمير كيان دولة شقيقة، نهب أموالها، ونكل بشعبها علنا وبدون وجل أو ندم. فكانت هذه الحرب التخريبية بداية قوية لشوط آخر من التخلف العربي الذي نعيش اليوم تبعاته لحظة بأخرى. لنقل هذا بصدق؛ كان التعاطف مع دولة الكويت أقوى على المستوى الرسمي منه على المستوى الشعبي. في أعين الكثير من عامة الناس، كان صدام حسين بطلا قوميا تهتف باسمه الآلاف أو ربما الملايين لمجرد أنه أقدم على عمل طائش إضافي، بدون مقدمة أو خاتمة، ابتداء من السابع عشر من يناير/كانون الثاني 1991، حين أطلق صواريخ quot;سكودquot; على دولة إسرائيل بهدف توسيع الحرب واستمالة الشعوب العربية نحوه وتحريضها ضد الأنظمة العربية. كان صدام حسين مثالا حيا على تهور الحاكم العربي غير المتنور والمستبد والأناني؛ وكان الدليل واضحا أكثر على فشله وأنانيته حين لم يجعل مصلحة وطنهو مصلحة شعبه فوق مصالحه، فيتنحى عن الحكم ويجنب بلده مرة أخرى مأساة الحرب التي ما فتئ العراق إلى اليوم يتوجع منها ويصطلي بشواظها.
لكن مظاهر التخلف العربي ليست مقتصرة على النظم السياسية فحسب، بل تتجاوزها إلى ما هو أعم وأشمل، ونعني بذلك الجماهير العربية ذاتها. غالبا ما أصبح من السهل ومن المتوقع ومن المتكرر أن تخرج ملايين من الجماهير العربية إلى الشوارع عقب بعض الأحداث أو المواقف للتعبير عن غضبها المشروع، فترفع الشعارات والرايات إلى أن تبح الحناجر. ومتعددة هي المناسبات التي تدفقت فيها جموع الجماهير العربية إلى الشوارع والساحات العمومية للتنديد والاستنكار والاحتجاج. ولكن العالم في أغلبه لا يأخذ هذه المظاهر الاحتجاجية مأخذا جديا لأسباب معروفة كذلك. لأن الجماهير التي احتجت غير ما مرة ضد الحرب على العراق مثلا لم تقم بالاحتجاج ضد غزو الكويت وضد اغتيال الشهيد رفيق الحريري وشهداء آخرين ومن أجل ديمقراطية لبنان واستقلاله، وضد الهجمات الإرهابية المتكررة على بعض العواصم الغربية، أو من أجل الدفاع عن حقوق المرأة أو من أجل المطالبة بحقوق الإنسان والديمقراطية في العالم العربي. مظاهراتنا، وإن كانت لها مسوغات كثيرة، فهي عاطفية في أكثر الحالات وغير ديمقراطية في عمقها وروحها.
لننال عطف العالم المتقدم واحترامه، علينا مراجعة سلوكياتنا السياسية والأيدلوجية فنتمرن على الاحتجاج ضد الفقر في إفريقيا، وضد الإرهاب كيفما كان نوعه ولونه، إسلاميا أو غير إسلامي، ومن أجل الديمقراطية في العراق، ومن أجل الطفولة في العالم، ومن أجل العدالة والحرية، ومن أجل مناصرة الحق العربي والحق الإنساني، ليس في فلسطين فقط، بل في المغرب ولبنان والكويت... وحيثما وجد هذا الحق. علينا أن نتعود على عدم مصادرة حقوق البعض منا في التعبير، فلا نضطهد المثقفين ونصدر ضدهم الفتاوى والأحكام. ليحترمنا العالم علينا أن نقر أن هناك مثلا كونية تتقاسمها جميع الثقافات والشعوب، وأهم هذه المثل الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان.

د. جمال الدين بنحيون
[email protected]