أفصحت في الجلسة الماضية عن رغبتي في تفكيك بعض المركبات السياإجتماعية، وتقديمها ( للعدالة )كأدلة وقرائن، تفضح الوهم الليبرالي العربي..وأهمها إشكالية ( الثقافة )التي يصر بعض السادة الليبراليين على إحتكارها وادعاء ملكيتها ( العقارية )تحت شعار : تكفيري :إن لم تكن ليبراليا (حسب المقاس )، فأنت قومجي وهمجي ومفخخاتي، تستحق عذاب الدنيا وصواريخها وقنابلها الذكية والغبية وحصارها وجوعها، وهذا يتناغم مع أطروحات مانوية (سخيفة ) كمحور الخير ومحور الشر.....ومن ليس معنا فهو ضدنا
وبعيدا عن الإدعاءات والفرضيات المرتجلة، أعود إلى مشكلة الثقافة في سياقنا العربي المعاصر، كنقطة إنطلاق لزيارة معرض الحداثة ورؤية أهم لوحاته التجريدية،تلك المسماة لوحة فصل الدين عن الدولة (سأتعرض لها في جلسة قادمة )، آملا أن نتحلى بالصبر، وبما لايفسد عليّ وعلى القارئ الكريم متعة التأمل والتفكر...وحتى لايساء القصد..فإن كاتب السطور، يعترف بأن الثقافة لاتزال مفهوما غامضا وضبابيا في حياته، ويقر بعدم أهليته الثقافية، فهو يعاني كالكثيرين من تشوّهات في منظومته القيّمية والمعرفية وتمزقات داخلية..ولاعجب...فهو الآخر ابن بار لجيل الطرب القومي، والصراع الطبقي (والصراع على طبقة بيض، أيام كولخوزات العصر الرفاقي )
وقد جاء إختيار موضوعة الثقافة على صدى مقولة للدكتور جمال بن عبد الجليل ملخصها، ان الأنساق المعرفية التقليدية المهيمنة و المتحكمة في نسيجنا الثقافي العربي المعاصر،لا تستطيع خلق مثقف (بالمفهوم الإبداعي المعرفي الحداثي )، لأنها أنساق مصممة ومحجوزة سلفا لتفريخ الخطباء والشعراء وأدعياء النبّوة والمراوحة بين إنتاج و إعادة إنتاج خِطاب خَطابي أو خِطاب و عظي !!!!! في البداية لم أخذ الكلام على محمل الجد، فقد حسبته يمزح، أو يغلظ في القول... لكن وبقليل من العناء والحفر المعرفي تيقنت من جدية طرحه، وإكتشفت أن إناء الثقافة العربية مثقوب (ياولدي مثقوب )ولا يختلف عن أباريق جامع الشيخ الكيلاني ببغداد !!
وقبل الإسترسال ( دعوني أودع القراء،الذين غادروا، متمنيا أن يكتب ذلك في ميزان حسناتهم ) وللإخوة القابضين على الجمر..أقول : إن الثقافة في سياقنا العربي، لاتزال عاجزة عن إحتضان المحتوى الدلالي للفظ الأوروبي (كلتشر )والذي اشتق أساسا من عزق الأرض وتهيأتها وزراعتها.أي أن الثقافة هي جهد واع يضيفه الإنسان إلى الطبيعة الصماء..ثم عممت هذه الدلالة (وفق آليات التوليد اللغوي )على كل النشاطات العقلية والإبداعية والمعرفية، التي تضيفها (ذواتنا المدّركة )، والتي سببت وتسبب تراكما نسميه مجازا (حضارة ).أما الدلالة (الأعرابية )للثقافة، فتأخذنا إلى (ثقف )بمعنى صقل وشحذ (سلاحا، أو موهبة ) وجعلها أكثر مضاءا..وربما يعود الجذر الإشتقاقي (أيتيمولوجيا )إلى قبيلة ثقيف (ومابرعت فيه من سيوف ثقيفة، ورجال دهاة ) لكن المشكلة ليست في الجدل اللغوي (لذاته )المهم أن هذه الكلمة انطلت علينا وخدعتنا، وأفقدتنا بصيرة التمييز....من هو المثقف إذن؟؟؟ هل هو طالب الجامعة؟، أم من اكتفى بإنهاء تعليمه (المسماري)، أم من يحفظ المعلقات السبع، وديوان المتنبي، وآلاف الأحاديث والنصوص المقدسة وما الفرق بين هؤلاء وبين من يحفظ دليل التلفون عن ظهر قلب !!!هل يكون مثقفا من يحفظ أو يكتب قصيدة عصماء، متفاخرا بالجبابرة، التي ستخرّ ساجدة، إذا بلغ الفطام له صبيا؟ثم ينذرنا بأن الأرض ضاقت بخيمته، وسوف يملأ البحر ( سفينا )؟؟؟هل أن الطبيب الذي يدرس فسلجة الجسم مثقف، أوالبيولوجي الذي ينكب على دراسة نظرية التطور لداروين، وفي قرارته تسكن قصة خلق (أدم وحواء )التوراتية؟؟؟؟أين كل ذلك، من كون الثقافة جهدا معرفيا مضافا؟ وإنارة عقلية (ومحاولة لإخراج الأفعى من وكرها ) لقد قدم لنا إدوارد سعيد، مفتاحا ذهبيا، إذ قال مامعناه : المثقف ذلك الذي يستطيع أن يتحرر من السلطة ( الأيديولوجية والدوغمائية والنفعية ) وينفذ إلى أقطار السماوات، بسلطان النقد (وليس بسلطان الطرب )، النقد المشفوع بنقد الذات والسخرية منها...ولو عدت إلى الدكتور بن عبدالجليل، ونقلت حرفيا من لغته الأكاديمية الصارمة (( إنّ الثقافة لا يمكن أن تكون إبداعا فرديا مفارقا للسياق الاجتماعي و الحضاري العام، فالمثقف الحديث لا يمكن أن يكون البطل المنقذ القادم من المجهول والمخلوق من العدم والحامل لرؤى و تصورات خارقة تغير التاريخ و الجغرافيا معا، فالثقافة في بناها و سياقها الحديث هي نتاج السائد و المهيّمن من العلاقات و المؤسسات، و الأخيرة بمعناها الحديث غائبة في الواقع العربي، فلا وجود للشخصية العبقرية الفذة ذات المعرفة الموسوعية الشاملة لكل أمور الحياة و الممات و لكن هناك سياقات و أنساق و مدارس تنتج المعرفة و توزع الأدوار داخلها)) إذن... أين يقف الليبرالي الجديد( الوهم )، إذا كانت الثقافة،هي ثمرة لأنساق معرفية ( والإناء ينضح بما فيه ) وتدلّ في جوهرها على البناء..وبلغة ابن خلدون، تصبح رديفا للعمران؟؟....هل كان بإمكان هولاكو أن يكون مثقفا، وقد اختار القاء مكتبات بغداد في دجلة (رمز للثقافة في عصرها )وكذلك صلاح الدين الكردي، عندما أحرق المكتبات الفاطمية...وهكذا تكرّ المسبحة وصولا ابن لادن (ومدرسته )مع أن الرجل لا يعنيه العمران من أساسه!!!، بقدر ماتعنيه ( مرضاة الله وخرائب قندهار )؟؟؟ماذا أنتج مثقفنا غير البؤس وإعادة إجترار التراث أوإبداعات من طراز : الخيمة الخيمة وانتحار عقيد الفضاء....حضرت عام 2004 جانبا من معرض فرانكفورت للكتاب، الذي خصص حينها للثقافة العربية، فلم أجد في الجناح العربي، إلا ترجمات نادرة، وكتب عربية مغبّرة ومتسخة ( تشبه كتب الرصيف )في حين إكتفى الجناح اليمني بعرض الخناجر والصناعات التقليدية!!!! وعزف على العود ( تأكيدا على عمق العلاقات الثقافية العربية الألمانية )، أين كان المثقفون الليبراليون الأفذاذ يومها؟أين كانت تراجمهم وإبداعاتهم؟ لست أدري ملاحظة : كاتب السطور، يميّز تماما بين ليبرالية جديدة، وبين مشروع نهضوي تنويري (ليبرالي)
الحلقة الثانية
نادر قريط
فيينا
[email protected]
التعليقات