تقف التيارات الإسلامية والقومية في العالم العربي، موقفا صداميا إزاء مسارات منطقتهم والعالم، انطلاقا من قناعة لدى قادة هذه التيارات ومنظريها، بأن زمن ما بعد الحرب الباردة، هو زمن امبريالي أمريكي بالضرورة، وأن المشروع المهيمن متناقض حتما مع مصالح الأمة العربية الإسلامية، وحائل لا محالة دون مساعيها لتحقيق طموحاتها في الوحدة والتقدم واستعادة الحقوق المسلوبة.
وقد كان هذا الموقف الصدامي المصدر الأساسي للمواقف التفصيلية من القضايا المتفجرة في العالم العربي منذ حرب الخليج الثانية، والمؤطر الرئيسي لنظرة الإسلاميين والقوميين العرب للعلاقات مع الأنظمة السياسية والقوى الدولية، فالعولمة برأي هؤلاء لا يمكنها إلا أن تكون شرا مستطيرا للعرب والمسلمين، والولايات المتحدة لا يمكنها إلا أن تكون عدوة أولى دائمة للأمة العربية والإسلامية.
وعلى الرغم من أن العرب لم يجربوا في غالب الأمر إلا المنطق الصدامي في تعاطيهم مع الموضوع الدولي والغربي، منذ أن طرحوا على أنفسهم سؤال النهضة أوائل القرن التاسع عشرة، وعلى الرغم من أنهم أيضا لم يجنوا غير الخيبات المتواصلة جراء إعمال هذا المنطق، إلا أن مفكريهم ومنظريهم ما يزالون متشبثين بصحة هذا المنطق، مقتنعين تماما بأن دروب النضال الصدامية طويلة ووعرة، وأن طريق التقدم لا بد وأن تكون متلازمة مع تأخر الآخرين، إذ لا يمكن بحسبهم أن نكون نحن والغرب متقدمين معا، وأن سنن تاريخنا المشترك تثبت برأيهم أن تقدمهم يعني تخلفنا وأن تقدمنا يعني تخلفهم.
وإذا ما نظر العرب في تاريخهم الحديث والمعاصر، سيصلون بلا شك إلى نتيجة مفادها أن الآخر ما انفك يطور أشكال تعاطيه معهم ومع العالم، فيما هم راكدون ملتزمون بشكل واحد في النضال والمقاومة، فالمقاومة ظلت واحدة في مواجهة الاستعمار التقليدي والاستعمار الجديد والاستعمار العصري على السواء، وتجربة العرب في مواجهة الغرب يمكن أن تكون مفيدة لغيرهم من شعوب الأرض، إلا أن تجارب شعوب الأرض لا تأثير لها عليهم.
إن اليابانيين على سبيل المثال قد قاوموا التدخل الغربي منذ القرن الثامن عشرة تقريبا، فجربوا على مر تاريخ مقاومتهم عدة أشكال من المواجهة، حيث ابتدأوا بمنهج العزلة حتى عصر المايجي خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشرة، ثم ساروا في منهج الحرب حتى نهاية الحرب العالمية الثانية، وأخير ابتدعوا ما يمكن تسميته بمنهج quot;المقاومة الاستسلاميةquot;، بناء على قاعدة أن خير من تتعلم منه عدوك الذي هزمك، وأن الاستسلام العسكري إنما يقوم بتحييد أهم عناصر القوة لدى خصمك من ساحة المواجهة، التي هي بالضرورة أشمل وأولى بالرعاية والتخطيط والمقاومة.
وعلى نحو ما يلاحظ في سيرة العرب المفارقة، فإن اليابانيين قد نسوا ndash; على الأقل ظاهريا- مأساة نكازاكي وهيروشيما، ولم يروا في هذه الجريمة النكراء معوقا لتطوير علاقاتهم مع مرتكبيها والعمل على الاستفادة القصوى من خبراتهم وتقدمهم وتقنياتهم لجسر الهوة الفارقة بينهم، وإعمال وسيلة السلم الأمضى لربح المعارك الخفية بديلا عن وسيلة الحرب البائدة المرعبة، فيما لا يزال كثير من قادة الفكر والسياسة العرب، يتباكون على ضحايا المدينتين اليابانيتين، مزايدين على اليابانيين في الانتحاب على كوارثهم القومية.
والعرب يركزون في تمحيص العلاقة بينهم وبين الغرب، على الجانب العسكري أساسا، ويرون أن عملية التصحيح ورد الاعتبار القومي يجب أن تستهل في هذا الاتجاه، بينما جربت أمم أخرى كثيرة استهلال التصحيح في جوانب أخرى، اعتقد أنها أقل صخبا واستفزازا، وأكثر انسانية وعملية وإمكانية، فاليابانيون والكوريون والصينيون والجنوب-أفريقيون والتشيليون والبرازيليون وغيرهم، يخوضون معارك تصحيح لمواقعهم على الخارطة الدولية، يواجهون فيها الغرب بشكل أو بآخر، دون سلاح أو إرهاب أو دماء.
وفي التاريخ العربي الإسلامي، يمكن الاستنجاد بأكثر من واقعة تزكي هذه الرؤية الحضارية، فقد جاء التتار والمغول غزاة إلى بلاد العرب، فحققوا الانتصارات العسكرية الماحقة، وأسقطوا الدول العربية والإسلامية الواحدة تلو الأخرى، غير أنهم خسروا الحرب الحضارية في ظرف لم يتجاوز العشرين عاما، وسرعان ما أصبحوا جزءا من ثقافة وحضارة الخاسرين عسكريا.
والأمريكيون اليوم، ليسوا متفوقين حضاريا على اليابانيين أو الكوريين أو التايوانيين أو الماليزيين، على الرغم من تفوقهم العسكري الكاسح، تماما كما أن ظاهر الإسرائيليين أنهم منتصرون متفوقون عسكريا، إلا أنهم في حقيقتهم خائفون مرتعدون على مصيرهم، يحملون في أعماقهم بوادر الهزيمة الحضارية والثقافية، يشيدون الجدران الإسمنتية العالية حفاظا على وجودهم.
إن حاجة العرب والمسلمين الماسة اليوم، ليست للسلاح والمفاعلات النووية كما فكر صدام والقذافي بالأمس، أو أحمدي نجاد اليوم، بقدر ما هم بحاجة إلى عقل منفتح متوازن ينظر إلى الأشياء بطريقة جديدة مبتدعة، ويبحث عن مساحات مبتكرة للتفوق الحضاري والثقافي، ويضع نصب الأعين مجالات للعمل والمنافسة، وفرصا خارقة للتنمية الإنسانية الشاملة.
لقد ضرب المفكر السياسي الأمريكي توماس فريدمان للعرب مثلا لم يستوعبوه إلى الآن للأسف الشديد، عن شاب أردني أسس بإمكانيات متواضعة شركة quot;أرامكسquot; للشحن السريع، سرعان ما تحولت إلى مشروع عربي وعالمي رائد، ينافس أعظم الشركات في مجاله، كquot;دي اتش إلquot; وquot; فيدرال اكسبريسquot;، وعلى العرب أن يعيدوا النظر في ضرورة الانتباه إلى هذه التجربة، وإلى تجارب أخرى ممكنة الحدوث، قادرة على أن تحول الطاقات البشرية العربية المهدرة، إلى طاقات فاعلة مفيدة، كما هي قادرة على أن تشعل شمعة في سماء العرب المظلمة بدل التشبث بعقلية لعن الظلام.
وبالعودة إلى قضية أكثر حساسية، كالقضية العراقية مثلا، لا مناص من التساؤل عما إذا لم يكن بمقدور العرب تجريب منطق آخر للتحليل السياسي ولو لمرة واحدة، فلو اتفق على أن هذا البلد قد وقع في أسر الاحتلال الأمريكي نهائيا، وأنه لا مجال لتخليصه من براثن هذا الاحتلال من خلال الآلة العسكرية، أفلن يكون متاحا أمام العراقيين نحت تجربة مميزة في التعامل مع المحتل الأمريكي على غرار ما فعل اليابانيون أو الكوريون أو الألمان، أو حتى تجربة على غرار تايوان أو بعض الإمارات العربية الخليجية، التي أصبح دخل مواطنيها الأعلى من نوعه في العالم، بفضل تعامل واقعي مع الحماية الأمريكية.
ولا ريب في أن هذا المطلوب ممكن أيضا، في التعاطي مع إشكاليات عربية جوهرية، من أهمها تثبيت قواعد تفكير نمطية تقيم تعارضا غير مبرر بين الليبرالية، التي هي مشروع العالم الجديد اليوم، وبين العروبة والإسلام، فيما يحيل التأمل العملي في المسألة إلى نتائج مغايرة تماما، حيث يكاد يجزم بأن الطريق الليبرالي وحده الكفيل بإقامة مجال حيوي عربي، اقتصادي وسياسي موحد، ووحده الكفيل أيضا بفتح آفاق عالمية واسعة أمام حركة الإسلام الدعوي، المسالم والمتسامح.
لقد جرب العرب صداقة المعسكر الشرقي، كما جربوا الربط بين الاشتراكية والمشروع القومي، فماذا كانت نتيجة نصف قرن من هذه التجربة؟ ولماذا يصر منظرو القومية العربية على التشبث بمنهج ثبت فشله الذريع نظريا وعمليا؟ ثم لماذا الإصرار على عدم تجريب مناهج عملية أخرى، لعل أهمها المنهج الليبرالي، الذي لو نجح في الانتشار عربيا، لأتاح المجال أمام تواصل حركة الأشخاص والأموال والسلع بين الدول العربية، ولحول فكرة الوحدة العربية إلى مشروع اقتصادي مربح ومصلحة جماعية لكافة الطبقات والفئات الاجتماعية، بما يوفر قاعدة النجاح لأي مشروع وحدوي على الصعيد السياسي.
وفي السياق ذاته، لماذا ينظر الإسلاميون العرب إلى المشروع الليبرالي الدولي، على أنه تهديد للهوية الثقافية والحضارية الإسلامية؟ أو لم يعتمد الإسلام كدين وثقافة مبدأ العالمية منذ نشوئه؟ ثم ألم تكن تجربة انتشار المسلمين في مختلف أنحاء العالم، تجربة مفيدة وثرية لحركة الدعوة الإسلامية؟ وأخيرا إلى ماذا تحتاج الرسالة المحمدية أكثر من الحرية، التي تتيح لها القدرة على نشر الدعوة على أصعدة عالمية، ومخاطبة المؤمنين أينما كانوا بلا إعاقات أو منغصات سلطوية؟
خلاصة القول إذا، أنه ليس أفيد أو أقوم عندي للطموحات القومية العربية والإسلامية، من التشجيع على اندماج العالم العربي في إطار المشروع الليبرالي العالمي، وتبني أساليب مستحدثة تركز على العمل في المجالات غير المتنازع عليها، وهجر العقلية العسكرية، إلى عقلية حضارية وثقافية شاملة، لا تنافس الآخر فيما هو مهيمن فيه، وتبحث عن عناصر جديدة للإبداع والمقاومة.

كاتب تونسي، مدير مركز دعم الديمقراطية في العالم العربي-لاهاي.