يتحدثون الآن عن مستقبل الليبرالية في منطقة الشرق الكبير، وعما إذا كانت تستند إلى قاعدة جماهيرية حقيقية، أو أنها محض أوهام أو آمال، في ذهن نخب ثقافية متأثرة بالغرب، لم تأخذ في حساباتها طبيعة الشرق وأهله وثقافته، ويأخذ الحديث الآن درجة عالية من السخونة أو المرارة، بعد النجاحات النسبية التي حققها التيار الإسلامي في الانتخابات البرلمانية المصرية الأخيرة، بالإضافة إلى الحالة السياسية في العراق، والتي يكاد يصطف فيها الجميع خلف مرجعياتهم الدينية، بما ينذر بتهديد واضح لمشروع الدولة العلمانية لعراق حديث.

تبدو صورة الواقع، بل والتاريخ أيضاً، متوافقة مع تشاؤم المتشائمين، لكن هذا يمكن أن يكون صحيحاً، لو كانت دعوة الليبرالية تستند فقط إلى مجرد خطاب دعوي ثقافي، يواجه واقعاً ثقافياً مستقراً ومتغلغلاً في عقول وقلوب الجماهير، فلا شك أن الأمر لو كان كذلك، لكان من العبث انتظار التغيير باتجاه الليبرالية، على الأقل في المدى القصير والمتوسط، في ظل تصاعد المد الديني بالمنطقة، الإسلامي والمسيحي على حد سواء.

الفكر لا يسبق الفعل، ونعني الفكر البناء القادر على تطوير الحياة الإنسانية، فهذا النوع من الفكر ينبثق من حقائق الواقع وإرهاصاته، ويدخل في جدل معها، يطورها وتطوره، لهذا نعتقد بمقولة quot;في البدء كان الفعلquot;، وليس quot;في البدء كانت الكلمةquot;، وقد سبق أن فصلنا الأمر في مقال من ثلاثة أجزاء بعنوان quot;مركزية الكلمة وأزمة الخطابquot;، ولا نعني أسبقية الفعل للفكر بشكل مطلق، بحيث يكون الفكر مجرد تابع يعكس رؤى الواقع الذي يتطور من تلقاء ذاته، في حتمية مادية محضة كحتمية الحل الاشتراكي الماركسي، لكننا نقول أن الفكر المنبثق من الحقائق المادية، سواء الموجودة بالواقع، أو الموجودة بالإمكان، يدخل مع هذه الحقائق في جدل يشكل الواقع تشكيلاً جديداً، يتيح الظهور والنمو لإمكاناته الكامنة، في نفس الوقت الذي يتعدل فيه الفكر، مصححاً أخطائه وانحرافاته، ليتخذ المسار الأمثل، بافتراض مرونة كل من الفكر والواقع، وقابليتهما للنقد والمراجعة والتصحيح، الكفيلة بتحقيق آمال البشرية، في غد يكون أفضل دائماً من الأمس.
أما الأيديولوجيات الجامدة، والأفكار الدوجماطيقية المتحجرة، فليست أكثر من أحجار أو صخور تعترض مجرى نهر الحضارة الإنسانية، قد تتسبب في إعاقة سريانه لبعض الوقت، ريثما يتمكن من الالتفاف حولها، أو دفعها أمامه لتلقى في هاوية النسيان.
الحضارة الإنسانية الآن ومنذ البدء تدفعها التكنولوجيا، الأدوات التي يخترعها الإنسان لتساعده على قضاء أغراضه، تعيد تشكيل مخترعها، وتغير من شكل حياته وأفكاره بالتالي، وكلما ازداد معدل تطور التكنولوجيا، كلما ازداد معدل التغير والتطور في شكل الحضارة الإنسانية، ومعها أفكار الإنسان وثقافته، ومن هنا أيضاً يأتي التوحيد الطوعي والتدريجي لمختلف الثقافات الإنسانية، مع انتشار منتجات التكنولوجيا، واتساع استخداماتها باتساع الكوكب.
الليبرالية بهذا نهاية التاريخ وخلاصة فلسفته النازعة دوماً للتطور، باتجاه تحقيق أقصى رخاء ممكن للبشرية، عبر إتاحة الفرصة لتفعيل كل إمكانيات الواقع والإنسان الكامنة، لهذا فإنها وإن بدت للبعض كما لو كانت مجرد دعوة ثقافية، إلا أنها في الواقع دعوة للانتباه إلى اتجاه الإنسانية، بعد أن سقطت جميع الأفكار والأيديولوجيات التي حاولت صب الإنسان والبشرية في قوالب مصطنعة وتعسفية، باءت جميعها بالفشل، في تحقيق حياة جديرة بالإنسان، بحيث يمكن تشبيه الإنسان أو الجماعة التي ترفض الليبرالية الآن، بشخص يسير وسط جموع حاشدة تتجه للأمام، فيستدير هو محاولاً التحرك باتجاه آخر، سيتعثر ويسبب العثرة لمن حوله، وإن أصر ونجح سيكون قد خرج من مسيرة الحضارة ومن التاريخ!!
لن يستطيع أحمدي نجاد أو بشار الأسد مثلاً الاستمرار في الاتجاه الذي يسير فيه بشعبه، فالبشرية الآن ndash;عبر التكنولوجيا- تسير في اتجاه موحد، ليس من صالح أحد، بل ليس من المستطاع لأحد واقعياً، أن يسير في اتجاه غيره، أقصى ما يستطيعه أمثال هؤلاء التلكوء لبعض الوقت، وإثارة القليل أو الكثير من المشاكل، لكن إلى حين، كما لن يستطيع الإخوان المسلمون بمصر ndash; لو فرض وتمكنوا من الحكم- أن يعودوا بمصر إلى القرن السابع، فمصر بالذات لا تمتلك ثروات بترولية يقبل العالم على شرائها، فتتكدس لديها ثروات توجهها ضد الحضارة والإنسانية، وتعينها على البقاء لبعض الوقت، بل والعيش في رخاء ظاهري، بغض النظر عن تهالك المجتمع ومؤسساته، وخطابه الثقافي الغارق في ظلمات القرون..

مصر لا حياة لأبنائها إلا بالعمل الشاق والمنتج، وهذا لا يمكن أن يتحقق في عصرنا ونحن بمعزل عن العالم المتحضر، أو ونحن في حالة عداء مستحكم معه، كما ينادي خطاب الإخوان المسلمين، ومن يسير على نهجهم من اتجاهات يسارية وناصرية، تكتفي بقعقعة دون طحين!!
نعم الثقافة الليبرالية في شرقنا لا يكاد يكون لها قاعدة وسط الجماهير، التي لم تعرف غير الخضوع للاستبداد السلطوي والفكر الشمولي والدوجماطيقي المتحجر، ورافعو رايات الليبرالية نخب تعرفوا عليها عبر ثقافاتهم الغربية بالأساس، وعبر قدراتهم العقلية التي مكنتهم من فهم صيرورة الحضارة الإنسانية، وأرادوا تمهيد الأرض في بلادهم ليلتحق أبناؤهم بالشعوب التي عرفت الطريق لتحقيق الرخاء وإنسانية الإنسان، وهذا يعني أن النخب الليبرالية في بلادنا منفصلة عن القاعدة من حيث نوعية الفكر، لكنها شديدة الالتصاق بها من حيث الرغبة في تحقيق مستقبل أفضل للأبناء والأحفاد، بينما أصحاب الدعوات الرائجة عالية الصوت، سواء الأصولية الدينية أو السياسية، متصلون بالقاعدة الجماهيرية فكراً، لكنهم غير معنيون بآمالها وآلامها، ومن ثم فليس لديهم مشروعاً حقيقياً لرفع المعاناة عن شعوبهم، فمشروعهم هو أنفسهم وأفكارهم، ونجاهم الذي يتصورونه هو تحقيق نظرياتهم على أرض الواقع أياً كانت نتائجها، فاليساريون والقومجيون يعشمون الجماهير بسؤدد وكرامة وهمية، مماثلة لتلك التي حققها لهم عبد الناصر صاحب خيبة 1967، والإخوان والأصوليون والإرهابيون يعدون الناس بالجنة، لكن لا هؤلاء ولا أولئك يعرفون كيف يمكن ترتيب حياة شعوبهم لتحقيق مستقبل أفضل، بل ولا يتوقفون لحظة لتوقع النتائج العملية لتطبيق ما يسعون إليه.
نخلص من هذا أن الوضع الحالي لا يمكن أن يستمر إلى ما لا نهاية، وأن مستقبل الليبرالية في الشرق لا يتقرر فقط بناء على أداء النخب الليبرالية بالمنطقة، وموقفهم من الجماهير وموقف الجماهير منهم، لكنه يتوقف بالأساس على اتجاه مسيرة الإنسانية في عصرنا الراهن، والذي يدفعنا لأن نقول وبحق بـquot;حتمية الحل الليبراليquot;، أو باللغة الجارية: quot;الليبرالية هي الحلquot;!!
لكننا مع ذلك لا نقول بالقدرية، وبأن الليبرالية قادمة لنا ونحن جلوس على تكايانا، فقطار الحضارة يسير بسرعة صاروخية، والمسافة بيننا وبين العالم تتباعد إلى ملايين من السنين الضوئية إن صحت المبالغة، ومجتمعاتنا مهددة بالتفكك والتحلل، مهددة بالوصول إلى حالة لا يجدي معها إصلاح، كما أننا مهددون بحروب مدمرة، كتلك التي نتمنى أن يخرج العراق منها سالماً.
لا نقول هذا أملاً في أن يستفيق الواهمون المدمرون من أصوليين سياسيين ودينيين، فهؤلاء في ظننا لا أمل فيهم، وقد أغلقوا عقولهم وقلوبهم، إلا على ذواتهم المتضخمة وأفكارهم العتيقة المظلمة، كما لا نخاطب أيضاً الجماهير الحيرى المنشغلة بلقمة عيشها، والتي تنتظر من نخبها الواعية أن تدلها على طريق يخرج بها من النفق المظلم الذي سكنته لقرون وقرون.
نخاطب النخب الليبرالية من ذوي الياقات البيضاء، والقابعة في الغرف المكيفة وأمام أجهزة الكومبيوتر، تلهو بها وتدبج المقالات والدراسات، لكنها تحجم عن النزول إلى القاعدة، لمخاطبة الجماهير والالتصاق بها، نخب رغم تسلحها بالعلم عاجزة عن إدارة أزمتها وأزمة بلادها بأسلوب علمي إداري ناجع، نخب تنشد السلامة الشخصية أولاً، وما قد تتحصل عليه من مزايا أو هبات من أنظمة الحكم ثانياً، نخب أخطر ما يميزها الاستعلاء والتخاذل، والعجز عن تحويل العلم الذي تمتلك ناصيته إلى واقع معاش، هؤلاء إن لم يتحركوا لإنقاذ بلادهم قبل فوات الأوان، فسوف يحكم التاريخ والأحفاد عليهم، قبل أن يحكم على دعاة الظلام والتخلف!!

[email protected]