إن ما يحدث اليوم في عالمنا الإسلامي هو نتاج طبيعي للتغيير الذي حدث في ذهنية الكثيرين منا خلال العقود الثلاثة الماضية. كنا في الستينات من القرن الماضي وحتى اوائل السبعينات ونحن طلاب صغار

صاروا ينسجون لنا مخاوف وهمية، وعداوات هلامية، جعلتنا في حالة رعب من التفاعل مع العالم حولنا، والانكفاء على اجندتهم التي تعادي كل ما انتجه العقل البشري على مدى القرون، و تلك الأجندة التي يتدثرون بها ويغلفونها بالدين الحنيف حسب فهمهم المغلوط وتفسيراتهم الشاذة لم تعد تنطلي على احد في هذا العصر الذي أصبح العالم فيه مفتوحاً على بعضه
نعرف ان مسئولية رجل الدين هي تثقيف وتنوير الناس في امور دينهم، والرد على اسئلتهم واستفساراتهم فيما خفي عليهم من امور الدين، وكان يفعل ذلك في اماكن الوعظ المعروفة كالمساجد والزوايا او في اماكن الدراسة الرسمية كالمعاهد والجامعات. كان يقوم بهذه المهام رجال الدين الذين تشربوا علوم الدين السمح الصحيح. كان رجل الدين لا يتدخل في امور الناس المعاشية والحياتية إلا عندما يـُطلب منه ذلك (في مجال تخصصه ) وعند الطلب كان يقدم مشورته بكل سماحة ورحابة ومسئولية،لذلك كان له احترامه وتوقيره بين الناس. ايضا كان المعلم في جميع مراحل التعليم يؤدي دوره بكل المسئولية لذا كان محط احترام الجميع.


كان المجتمع، وعلى الرغم من تخلفه، يسير بخطوات اكيدة تجاه التطور حيث كان الجميع يعترف بان ركب الحضارة قد سبقنا وعلينا فعل الكثير للحاق به.


باختصار كان الكل يؤدي دورره المناط به حسب ما هو متوفر من امكانيات والكل كان يسعى(افرادا وجماعات) لتطوير هذه الإمكانيات. كان هناك مجتمعا مدنيا ينمو ويتطور يوما بعد يوم.
ايضا تعلمنا ان الكثير من التطور الذي حدث ويحدث في العالم قاده ويقوده العلماء، الذين غالبهم في الغرب ( لم تكن لنا عقدة تجاه الغرب في ذلك الوقت ). ايضا كنا نعرف ان هذا التطور والتقدم لم يحدث في اوروبا إلا بعد إقصاء رجل الدين من السيطرة على الحياة العامة وتحرير عقل رجل العلم لكي ينتج. لذلك كنا نفخر باننا ليس عندنا كنيسة (المقصود طبعا ليس عندنا رجل دين مـُسيطر )،وبالتالي ليس هناك ما يعوق التطور. كان التعاون مع الغرب وبقية العالم، حسب توفر الامكانيات يسير بخطئ حثيثة للعلم والتعلم واكتساب الخبرات. كانت الحياة تسير بشكل طبيعي ـ وان ببطء ـ من السيئ الى الأحسن الى ماهو احسن منه. كان هدف الجميع خدمة الحياة بما فيها الدين الذي كان يخدمه رجالاته المتخصصون. لم يكن لنا اعداء ولم تكن هناك أصلا أجندة عدائية.


اعتقد ان ما ذكرته كان ينطبق على الكثير من دولنا العربية ان لم تكن كلها، ذلك على الرغم من الشوكة الازلية، وهي إسرائيل، وما كانت تسببه من منقصات وانتكاسات،وما كان يحدث بسببها من تعطيلات وتجميدات لمفاصل الحياة المختلفة هنا وهناك، وعلى الرغم مما أُرتـُكب بسببها من حماقات، كان اكبرها واشدها ضررا هو تقسيم عالمنا العربي الى قسمين : تقدمي ورجعي. دارت الايام لتثبت عكس ماكان يقال، اذ ان معظم الدول التي وسمت تقدمية،ان لم يكن كلها، قد قادت شعوبها الى الفقر والبؤس بتلك السياسات الغوغائية التهريجية التي انتهجتها، بينما عملت تلك الموسومة رجعية لرفعة وتطور شعوبها بحكمة وصمت وبلا ضجيج.


بدأ الاختلال في كل تلك المنظومة منذ بداية السبعينات، عندما بدأ سرطان ينهش في جسد الامة وهو الاسلام السياسي (الاخوان المسلمون، وما تفرع منهم،وما انبثق عنهم من جماعات). هؤلاء الذين سمح لهم السادات بالعودة الى الحياة قي مصر بعد ان كانوا قد سكتو ا ردحا من الزمان. كان المقصود من عودتهم هو الوقوف ضد ماكان يسمى بالمد الناصري او الاشتراكي. عادوا باسم الدين شكلا وباجندنهم الخاصة بالسيطرة علي مقدرات الامة موضوعا. فـُتح المجال لهم واسعا ليتمددوا وينتشروا، وبمرور الايام بدأ نفوذهم ينمو ويتطور بين الناس ويعبر الحدود زاعمين بانهم يسعون لاصلاح دين الامة وحمايتها بعد ان زعموا لها أعداء ومخاطر وهمية ليست موجودة إلا في ادمغتهم وهذا هو العزف الذي لا يزالون يعزفونه حتى الان. استغلوا قدسية المساجد فجعلوها منابر لأجندتهم، واستغلوا المدارس لنشر سمومهم، بل واستغلونا جميعا لتكديس الاموال بجمعياتهم ومنظماتهم الهلامية المغرضة، وصاروا ينسجون لنا مخاوف وهمية، وعداوات هلامية، جعلتنا في حالة رعب من التفاعل مع العالم حولنا، والانكفاء على اجندتهم التي تعادي كل ما انتجه العقل البشري على مدى القرون، و تلك الأجندة التي يتدثرون بها ويغلفونها بالدين الحنيف حسب فهمهم المغلوط وتفسيراتهم الشاذة لم تعد تنطلي على احد في هذا العصر الذي أصبح العالم فيه مفتوحاً على بعضه، لذا لم يكن أمامهم غير العنف لفرض تلك الأجندة وهاهم يمارسونه قولاُ وفعلاُ وعلى امتداد العالم، وقد بدؤوه باغتيال السادات الذي أخرجهم من قوقعتهم وهيأ لهم سبل الانتشار والتمدد، ثم انتشروا في العالم تخريباً وتدميراً، حتى شوهوا ديننا السمح، وشوهوا اسم المسلم في جميع بقاع الأرض وجعلوه رمزاً للعنف والإرهاب والتطرف ومعاداة الحياة وكانت النتيجة هي مانعيشه الان من هذا الوضع المزري المتدني الذي جعلنا أضحوكة العالم على ما يفعلونه الآن في فلسطين ولبنان والعراق والسودان والصومال، وحتي في إيران. و كل هؤلاء يحركهم فهمهم الديني المتشدد الخاطئ، والذي يحاولون من خلاله القفز على السلطة والحفاظ على مكتسباتهم.


وان كان هؤلاء عبارة عن منظومة واحدة جمعها استغلال الدين للوصول غالى الأهداف، فان الغريب هو ان يتبعهم في ذلك ما كان يعرف باليسار العربي من ناصريين وقوميين وبعثيين، ويركبون نفس موجتهم المتشنجة المدمرة. والأغرب من ذلك هو السكوت على كل هؤلاء حتى سيطروا على الإعلام في معظم بقاع العالم العربي والإسلامي، وصاروا هم الذين يحددون أهداف وأعداء الأمة، فهل من وقفة جادة ضد هم آم سنترك لهم السفينة لإغراقها؟؟

د. سحر محمد حاتم