-1-

كُنت قد قررت أن لا اتحدث عن الدكتاتور الذي قُبِر، ولكن ما اصاب البعض من الأصدقاء القراء من أسى لما توهموه طائفية مني في الحديث عن الفعل ورد الفعل الحاصل في العراق نتيجة الإحتقان والتوتر الطائفيين،

أيَ مُتهمٍ مسيءٍ مفرطٌ في الشرّ يعاقب عقابا صارما بعد أن يُمنح فرصة، بل كمٍ هائل من الفرص للظهور والدفاع والإعتراض، وفي ظلِ ظروفٍ داعمةٍ ساندة في الخارج، بمعنى حراك وصخب وضجيج مؤيديه وأنصاره وجماهيره، في داخل المحكمة أو خارجها (في شوارع البلد ذاته)
اضطرني للكتابة مجددا عن هذا الشأن وإن بحرص كي لا اخدش القلوب الحساسة المهتاجة.
واقع الحال أننا بحسن نية أو بسؤها نوقع أنفسنا في سوء الفعل، ثم حين يأتي هذا السوء بما لا يسر نهيج ونتوتر ونلقي باللوم على غيرنا في أنهم اوقعونا في الخطا.


العلمانية ايها الأخوة ليست عدمية ابدا، العلمانية كما التأدلج الديني إلتزام ايضا، إنما إلتزام بالحقيقة المرئية المحسوسة الواقعية التي لا تجافي المنطق.
والعلماني ليس أقل حبا لوطنه وقومه ولغة قومه وثقافة شعبه من المؤدلج دينيا أو ماركسيا، وإذا احببنا اوطاننا ولغاتنا وشعوبنا ودافعنا عنها أمام غزوات الخارج الغربية كما المشرقية الإقليمية، فهذا بعض واجبنا كعلمانيين حقيقيين، إنما علينا أن نتلافى الوقوع في فخ الطائفية أو المذهبية بغير ما وعيٍ منّا.


عبر السنوات الثلاث والنصف التي سلفت منذ سقوط النظام العراقي السابق، ارتكب الأخوة الأعداء من زعماء طوائف الإسلام السياسي، الكثير من المواقف والسلوكيات التي لا تخلو من قدر كبير من التسرع والتهور والتقاطع مع الغرباء أو الأشقاء في الخارج مما ادى لاحقا إلى اثارة بعضهم البعض وتهييج مخاوف بعضهم البعض ثم إلى إستفزاز الآخرين في الخارج بسبب التنافس التقليدي الطبيعي بين العرب والترك والفرس.


العرب يرون في العراق عاصمة خلافتهم العباسية ومستوطن اشياخهم وفقهائهم وعلمائهم عبر التاريخ، ومفاجأة الدخول الإيراني الواسع أثارتهم بكل تأكيد.


والآخرون الذين عانوا طويلا من التجاهل والشك والتشكيك العربي بعروبتهم، والذين يعرفون أن تلك العروبة هي في نظر الآخر عروبةٌ مُطيفةٌ لا تقبل المختلف ( وإن قبلته فعلى مضض )، وبالتالي فليس امامهم إلى البحث عن آخر يتقاطع معهم في المصالح أو يحتضنهم عندما يتعرضون لضغط الآخر.


وكما العروبة عند العروبي لا يمكن أن تُجتث، فالطائفة والتقاطع الطائفي مع الغريب من الأمة الأخرى المنافسة للعرب لا مجال لإجتثاثها ( كما لم ينجح صدام في إجتثاث حلم الثورة الإسلامية ودولة الإسلام المباركة التي كان الأحبة في الدعوة والمجلس يحلمون بها ويجتهدون من اجلها، لم ينجح بريمر والعزيز الجلبي في إجتثاث البعث، إذ سارع الأمريكان ذاتهم لإجتثاث الرجل باكرا بتهمة التخابر مع إيران ).
على اية حال، ما قُلته اثار الكثيرين..!

-2-

منذ سنوات والأخوة العرب يبعثون لنا من يجزّ رؤوسنا....!
عشرات الآلاف من الخبراء والعلماء وجنرالات وطيارو جيشنا السابق أو الحالي جُزّت رؤوسهم على قبلة ( نبي الرحمة المنصور بالرعب من مسافة شهر )....!
عشرات الآلاف من صبايا وبنات وأطفال شعبي جُزّت رؤوسهم عند الفجر وفي الأعياد والأمسيات المقمرة...!
الذين أستثارهم طيران رأس برزان لمسافة مترين، تناسوا أو نسوا كل تلك الآلاف من الرؤوس التي جُزّت على عجل عبر عشرات بل مئات السنين من تاريخ الإسلام.
صحيح إننا كعراقيين، كأغلبية صامتة، كعلمانيين، كنا نتمنى أن لا يُجز اي رأس بعد التاسع من نيسان 2003....!


كنا نتمنى أن لا يُجزّ رأس، إلا رؤوس الخرفان وبشكل عصري حضاري في مجازر حكومية تدار من قبل رجال صحة لا رجال سياسة ولا قصابون محترفون ولا ميليشيات طائفية.
كنا نتمنى ولكن حسبنا الله ونعم الوكيل....!


التحرير الذي حلمنا به قرابة الخمسة وثلاثون عاما، إستحال إلا تحرير للغرائز الطائفية... غرائز الغابة والصحراء النجدية العتيقة الجرداء...!


وها هم الأمريكان اليوم بعد أن اهرقوا في بحر الدم العراقي مئات المليارات من الدولارات وبضع آلاف من ابنائهم وعشرات الآلاف من الجرحى والمخبولين... ها هم يتذكرون الآن أن ( الحكومة العراقية تفتقد إلا النضج...! ).
من الذي يفتقد إلا النضج حقا... العراقيون الذين كان اقصى همهم كرامة وحريية وأمن وسلام أم انتم الذين جئتم لهم بأجندة طائفية وعمائم سوداء وغرائز متوحشة.

-3-

جزُ الرؤوس في بلاد العرب عرفٌ شائع وتقليد قديم، وممارسة اكدها الإسلام وحافظ عليها بدءا من ممارسات الرسول الكريم ( صلعم ) ومرورا برأس الحسين الذي جُز على يد الشمر بن ذي الجوشن ( وهو بالمناسبة واحد من جُند الإمام علي وقد اظهر شجاعة في حرب صفين، ثم اعتزل وأعتكف برهة في الكوفة منشغلا بالفقه والحديث، حتى جاء الحسين فهب مع من هبّ من شيعة آل البيت لقتاله بعد أن استدعوه للحضور لتنصيبه خليفة عليهم في عاصمة ابيه في كوفة العراق ).


يعتمد الرسول الكريم ( صلعم ) على الرؤوس المجزوزة لحث الناس على الإيمان فها هو يقول لهم في ما ذكره الكلبي رحمه الله : ( أرأيتم إن قُتلت ( أم قرفة ) وهي فاطمة بنت ربيعه بن بدر ابن عمرو بن جوَّية بن لوذان، أتؤمنون..؟) فيقولون: ( أيكون ذلك.؟) فلما قتلها زيد بن حارثة الكلبي، أمر رسول الله برأسها فدير به في المدينة.
ويرد ذات الأمر في مغازي الواقدي ( رحمه الله ) :
قَتَلَهَا قَيْسُ بْنُ الْمُحَسّرِ قَتْلًا عَنِيفًا ; رَبَطَ بَيْنَ رِجْلَيْهَا حَبْلًا ثُمّ رَبَطَهَا بَيْنَ بَعِيرَيْنِ وَهِيَ عَجُوزٌ كَبِيرَةٌ. وَقَتَلَ عَبْدَ اللّهِ بْنَ مَسْعَدَةَ، وَقَتَلَ قَيْسَ بْنَ النّعْمَانِ بْنِ مَسْعَدَةَ بْنِ حَكَمَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ بَدْرٍ.
ويذكر الأمر ذاته إبن إسحاق فيقول :
لما قدم زيد بن حارثة آلى أن لا يمس رأسه غسل من جنابة حتى يغزو بني فزارة، فلما استبل من جراحته بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بني فزارة في جيش فقتلهم بوادي القرى، وأصاب فيهم وقتل قيس بن المسحر اليعمري مسعدة بن حكمة بن مالك بن حذيفة بن بدر، وأسرت أم قرفة فاطمة بنت ربيعة بن بدر كانت عجوزا كبيرة عند مالك بن حذيفة بن بدر، وبنت لها، وعبد الله بن مسعدة، فأمر زيد بن حارثة قيس بن المسحر أن يقتل أم قرفة فقتلها قتلا عنيفا ; ثم قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بابنة أم قرفة وبابن مسعدة.
أما السبب فلأنها كانت تؤلب الناس عليه...!
إنه الصراع السياسي السلطوي، والغضب من أجل السلطة ومن أجل الذات التي يُراد أن تُفرض قداستها على الناس ولو بالسيف والإرهاب والقتل الشديد البالغ الشدة كهذا الذي تعرضت له تلك العجوز ذات العناد والقوة والثقة العالية بالنفس حد الدهشة.
وكما خلّد التاريخ رسول الله ( صلعم )، ُُخلِد اسم هذه المرأة وراسها الذي جيء به لرسول الرحمة
( ص).
وما كانت تلك المرأة آخر من أغتيل على يد الصحابة المؤمنين بوحدانية الله وبالعدل والرحمة التي جاء بها نبي الرحمة ( ص ) إذ يرد في كتب المغازي والسير وفي كتاب الجليل الرائع هادي العلوي ( الإغتيال السياسي في الإسلام ) اسماء العشرات بل المئات ممن أغتيلوا بتوصية من قبل نبي الرحمة ذاته أو الصف الأول من صحابته رضوان الله عليهم جميعا، وغالبا لأسباب تتعلق بهجاء النبي أو التشكيك بمصداقية رسالته السمحاء.


إذا كان هذا هو موقف رسول الرحمة ومن عجوز حرّة عنيدة، فكيف لا نصدق ما كان يوحي به لإبن عمه وأحفاده ابناء فاطمة من أنهم سيُقتلون وتُجز رؤوسهم.
لا شك في أن ما تزرع تحصده، من نفس النوع والجنس مهما طال الزمن أو قصُر....!
هل لنا أن لا نصدق هذا الذي يحصل اليوم في العراق العلوي الحافل بمراقد الكرام الطيبون الروحانيون الأتقياء مجزوزي الرؤوس...!
إنه الزرع يُثمر، والتاريخ يعيد نفسه...!

-4-
أيَ مُتهمٍ مسيءٍ مفرطٌ في الشرّ يعاقب عقابا صارما بعد أن يُمنح فرصة، بل كمٍ هائل من الفرص للظهور والدفاع والإعتراض، وفي ظلِ ظروفٍ داعمةٍ ساندة في الخارج، بمعنى حراك وصخب وضجيج مؤيديه وأنصاره وجماهيره، في داخل المحكمة أو خارجها ( في شوارع البلد ذاته )، أو في الخارج البعيد، شوارع البلدان الأخرى، أي مُسيءٍ مثل هذا وفي مثل هكذا أحوال ( دلال مفرط ) سيكون بطلا شاء اعداءه أم ابوا، خصوصا حين لا يستطيع القضاء أن يكسر شوكته عبر محاكمة عادلة تحاسبه على كل الجرائم لا على جريمة واحدة.


وخصوصا ( ثانية ) حين يكون جلادوه في لحظة إقرار العدالة، من الغوغاء المسطحين الذين لا يملكون قضية، وهذا ما تأكد له ولغيره ولهم أنفسهم ( إن كانوا يعقلون ).
اعني في ما بدا من ضحالة ورخصٍ وجهلٍ وهياجٍ وثني غير لائقٍ لمن هم في مثل مراكزهم الحكومية الرسمية التي يتابعها العالم كله ويحصيها ويرصدها أعدائهم كما الأصدقاء ( هذا إذا كان عندهم أصدقاء غير الجارة العزيزة إيران ).


ايُ مُسيء مثل هذا سيبدو قويا غاية القوة وسيجتاز درب الجلجثة بشجاعة منقطعة النظير.
اعداءه مقنّعون، خائفون، متلعثمون، متعثرون..!
اصواتهم خائرة، ( هوساتهم ) ساذجة، تذكر بهوسات إخوتنا الصوماليون وهم ( يسحلون ) الجندي الأمريكي القتيل....!
إنه التسطيح الفج الغبي للنضال الوطني العراقي التاريخي بمجمل محمولاته الطبقية والوطنية والقومية والعلمانية الحضارية...!


اعداء صدام البائسون للغاية، اعداءه الفاقدون لأي قضية ( او هكذا بدوا وللأسف ) منحوه بسلوكهم الفرصة المثالية للظهور بهذه الثقة وهذه القدرة المدهشة على التحدي والتي اشك في أن الجميل المالكي أو الرائع المثير للإعجاب، غوبلز عصر ما قبل ظهور المهدي ( فخامة الجليل الربيعي )، أو الفقيه الأجلّ مقتدى يمكن أن يملكوا مثلها حين تنقلب الموازين بعد عام أو عشرة أو عشرين...!


الدكتاتور العراقي مُنح شرفا، كان يمكن أن لا يناله البتة، لو إنه فقد بعضٍ من تلك العناصر الداعمة التي اشتبكت باكرا من القضية أو حضرت في اللحظة الأخيرة لتضع الحبل على عنقه.
كما كُل عراقي، لم اشعر بالأسف على الحكم ( الإغتيال ) ولكني شعرت بالأسف لأن الرجل مُنح فرصة كبيرة لإثبات ( لنفسه اولا ثم لجمهوره ) أنه الأقوى والأكرم من قاتليه، رغم أنه قتل مئات الآلاف من خصومه بلا جلسة حكم ولو واحدة، وبلا إنذار أو إعلام مسبق بنية تصفيتهم....!


حين يشيع بين الناس في بلدان العروبة المتعبة الكسيحة وفي العراق ذاته، حين يشيع بين الناس أنهم يرون صورة صدام على صفحة القمر الفضية، لا اندهش ابدا...!
فالإنطباع الذي تركته الثواني الأخيرة من حياة الدكتاتور، في عيون وقلوب وعقول اطفالهم ونساءهم وشيوخهم، شيء ابعد من أن يغيب عن الذاكرة بسهولة.
والفضل في هذا لهؤلاء الطيبين المؤمنين الموحدين الغاضبين ( لله وآل بيت النبوة عليهم الصلوات وأزكى التسليم ).


كارزما صدام حسين التي كانت تدفع عشرات الآلاف من نسوة العراق ( الجنوبي ولا اقول الشيعي ) يخرجن إلى الشوارع للرقص والغناء وهز الأثداء طوال ثلاثون عاما من حكمه وحتى وهو يقتل رجالهن بالجملة ليزوجهن لمصريين وسودانيين مع عشرة آلاف دينار لكل واحدة، هذه الكارزما كانت مبررة أيام كان صدام حسين يملك الفتوة والقوة والعيون البارقة والصوت الواثق والمال الوفير، فما سرّها الآن وهو على حبل المشنقة؟


السؤال يوجه للطيبين البوءساء الذين حضروا بأقنعتهم واياديهم المرتجفة وأصواتهم المرعوبة وتلفوناتهم المزودة بالكاميرات، وهم يجرونه جرا صوب المشنقة ثم يرقصون حول الجثة رقصتهم الوثنية الأخيرة.
لقد أعطيتم صدام أكثر مما كان يستحقه فعلا ولا استغرب غدا أن يكون له مرقدٌ يزار..!

كامل السعدون

النرويج ndash; 18 كانون الثاني -2007