اثارت اغنية كاظم الساهر الاخيرة (مدينة الحب) التي كتب كلماتها كريم العراقي واخرجها حسين دعيبس تساؤلات عديدة لدى المثقفين العراقيين في بغداد حول فحواها وغايتها لاسيما من خلال (الفيديو كليب) وقد ظهرت لقطاته وهي تصور بغداد كما لم يعرفها العراقيون من قبل، قرية خربة وحكاية ليست فيها من متعة ولا طرب ولا معنى،وقد جاءت ابيات القصيدة غير مترابطة وكأنها مجرد كلام موزون ومقفى لا قيمة له، وكل بيت هارب من الاخر ومفكك مثلما التصوير الذي جاء ليغطي الشاشة بوجوه بائسة ومناظر غير طبيعية، وكذلك طرحت الاغنية تساؤلات حول غرض الغناء لا سيما الوطني منه، فهل يحق للاغنية الوطنية ان تكون هكذا تفيض سوادا ويأسا واحباطا ويلعن مغنيها، وذهبت التساؤلات ابعد من ذلك لتقول: لماذا يفعل كاظم الساهر هذا وهو الذي منحه العراقيون لقب سفير الاغنية العراقية وسفيرهم الفني، فهل هذا هو واجب السفير، ووصل الامر عند البعض الى القول ان الساهر ما عاد يمتلك الوعي في ما يغنيه، فهو ينصاع لرغبات البعض من يطرحون عليه اشعارهم ليغنيها بدون ان يدقق ويقرأ في وجهات النظر الحسنة والسيئة، وما جاء في اغنيته (مدينة الحب) التي تصويرها يوحي انها عن بغداد على الرغم من ان الكلام ابعد ما يكون، وان المخرج زج بغداد المحترقة عديمة الامن والامان في الاغنية وجعلها مدينة مآس ليس لها نظير، متسائلين هل هذا هو الغناء ؟ وهل هذه طريقة التغني بالوطن ؟ لماذا اظهر بغداد من خلال الصورة غاية في السوء ومنزوعة الحب بل ليس لها قلب، يقول كاظم في مطلع اغنيته الصادم:
(مدينة الحب امشي في شوارعك / وانا ارى الحب محمولا بأكفان
صبوا العذاب كما شئتم على جسدي/ فلاشهود على تعذيب سجاني)
وتلك صورة مفزعة، وان لاربط بين البيتين الشعريين وقد علمنا ان الساهر حذف ابياتا للتخفيف من حدة الاغنية، ثم تنحدر كلمات الاغنية بغير اتفاق مع لقطات الفيديوكليب، فلا هي اغنية وطنية ولا هي اغنية عاطفية، بل هي (تصفيط) كلمات كما حاملة جرارا من التشاؤم واليأس والحزن وهي في مجملها غير مترابطة كما يتضح، ويقينا ان أي محرر ادبي لن ينشرها في صحيفته، فلم نعهد من فيروز ان جعلت بيروت في هذه الصورة ولم نقرأ انزار قباني ان رسم بيروت كما رسمها كريم العراقي
رجعت للدار امشي فوق نيران / كف لكف يقود خطاي حرماني
هل من مجيب انا بالباب منتظر / لا احمل الورد احمل طوق احزاني
ذهبت مع الريح فاصح يا مدللها / كأس هي الان بيدي عاشق ثاني
عيناي شفتاي اعصابي خيالي / دمي يبحثون عنها بين احضاني
قلبوا الاثاث وضجوا حول صورتها / متظاهرين كشعب خلف قضبان
نريدها اليوم شمعتنا حبيبتنا /لازال لانوم عصيانا بعصيان
يا ايها القوم ياجسدي وعاطفتي / كفى ملاما فجلد الذات ادماني
صفعت وجهي اهذا يا زمان انا / اذلني الحب فاخرسني واعماني
بعد الفراق رايت الصبر شيعني / في صحوة الفجر امشي مشي سكران
يخيفني الليل والذكرى تعذبني /وحارب النوم ذاكرتي واجفاني

، لكن ما اثار هو ان الاغنية وضعت بغداد على الواجهة، وهو الامر الذي استغربه المثقفون الذي استطلعنا اراءهم في استطلاعنا التالي:
يقول طارق حرب الخبير القانوني ورئيس جمعية الثقافة القانونية للجميع: ان ما فعله الساهر واحد من امرين، اما ان يكون الرجل قد اصيب في عقله واختلت قواه وخارت ارادته وتنطبق عليه الحكمة المشهورة (اذا سلب الله ما وهب، رفع عما وجب)، لان للوهلة الاولى وبدون تأمل اوتدبر او تفكر وتعقل يبدو ان لا مناسبة اطلاقا بين اسم الاغنية وبين ما حصل في الفيلم (الفيديوكليب)، او ان الرجل آمن بقصة الملك السويدي الذي كان مغترا بكل شيء وتمكن النصابون من اخراجه الى الشوارع عاريا مصورين له انه يرتدي اجمل اللباس واحسن الكسوات، والا قل لي بربك هل مَنْ ملكَ الحد الادنى من الذوق الفني والجزئي من الحس الخلقي ان يزيد على مآسينا مأساة اخرى بتصوير بغداد بهذا الوجه البشع وهذه الصورة القبيحة ؟، واضاف طارق حرب: قال الشاعر (أتعود بعد تصرم ونفاد / الى بغداد.. ايام ُ بغداد)، وانا قلت: ( ستعود بعد تصرم ونفاد/ الى بغداد ايام بغداد )، فبيت الشعر الاول ينطبق على فكرة اغنية (مدينة الحب)، وبيت الشعرالثاني يحمل معنى التفاؤل، معنى النهار الجديد لبغداد جديدة، والتي سوف لن تكون هذه الاغنية وسواها درنا يسيء اليها، فهي في المنزلة الازكى وفي المكان الاعلى وفي الموضع الاسنى، وحسب بغداد ان اسمها بغداد ).
اما الشاعر والناقد علي الفواز عضو الهيأة الادارية لاتحاد الادباء والكتاب في العراق فقال: اعتقد ان مطربا كبيرا مثل كاظم الساهر ينبغي ان يضع نفسه ازاء مسؤوليات اخلاقية وثقافية قبل ان تكون فنية بحتة، فهذا المطرب وضع نفسه في صلب المخيلة الذوقية العربية واصبح جزء من بضاعتها الجمالية، وهذا يفترض وعيا باتجاه المحافظة على هذه المكانة اولا وتوظيفها بالاتجاه الذي يجعل منها وظيفة منتجة تديم حيوية المطرب الفنان وتديم مواقفه وعلاقاته، لان عمر الفنان المطرب عمر افتراضي وليس ابديا وما يتبقى هو الصورة الانسانية التي يتركها كأثر، واستطرد الفواز في حديثه قائلا: هذه الاغنية (مدينة الحب) صورة غير متوازنة وغير واضحة الملامح، وربما معبرة عن مدينة مثل بغداد، المدينة التي عبرها الغزاة لأكثر من ثلاث عشرة مرة لكنها ظلت عصية على كل هؤلاء، هذه المدينة النبية تحتاج الى فيوض من المحبة وتحتاج الى بطولات استثنائية وتحتاج الى مواطنين بمستوى مواطني الجمهوريات الاسطورية، واضاف الفواز: ينبغي لكاظم الساهر ان يكون مواطنا استثنائيا وينبغي لكريم العراقي ان يكون مواطنا استثنائيا وكلاهما بحاجة الى اعادة قراءة لحظتهما الثقافية المعرفية الوطنية الانسانية لاننا نعرف ان الكثير من الأعلام الثقافية والتي صنعت لنفسها اساطير شعبية حافظت على هويتها وجذوة محبتها باعتبارها الجذوة الصانعة للحياة والمحرك العميق للابداع، فالمبدع العراقي خارج منطقة الحنين وخارج لعبة صناعة الحنين سيغدو حجرا عند الطرق التي اتسعت في عالمنا ربما لم يذكرها احد بعد حين وستهملها الاجيال الجديدة التي تحتاج الى من يبني ويعمر ويشارك ويعشق دون اسئلة.
وقال الشاعر الشاب ياس السعيدي: اغنية (مدينة الحب) اظهرت حانبا من الحقيقة بصراحة وبألم كبير، وتقريبا.. هذه هي بغداد، ولكن الاغنية لم تركز على كل قواعد واسباب الدمار حيث ان المجموعات المسلحة سواء كانت (قاعدة) او ميليشيات تشارك القوات الامريكية في ايذاء الشعب العراقي وبنسبة اكثر من النصف هذا اولا، وثانيا هناك في العراق جوانب ايجابية لا يمكن اغفالها حين ان الحياة الثقافية مستمرة والحياة الاجتماعية مستمرة وان وجد الخطر، واضاف السعيدي: واجب الغناء ان يقدم كل شيء، ان يرسم صورة لوطنه كيفما كان هذا الوطن، العراق فيه الان نسبة كبيرة من العنف والحياة وعلى كل منتج فني او ثقافي ان ينقل هذه الحقيقة كاملة، وما قدمه الساهر في اغنيته ربما يعتقده من باب الوطنية ولايمكن ان نحكم بالتوقعات، اذ لابد من اسئلة صريحة توجه الى هذا الفنان اذا اخذنا بالنظر مسيرته الفنية الرائعة.
اما الممثل الفنان عز الدين طابو فقال: (لربما احيل ما شاهدته في الاغنية من صور ترعب الخوف نفسه فكيف بالانسان صاحب الاحساس الى ان كاظم كما يبدو لي يهييء نفسه لاداء او تمثيل شخصية مركبة فيها من الرعب نسبة كبيرة عبر هذا الفيلم، واعتقد ان هذه الاغنية عبارة عن تمرين تتبعه تمارين اخرى لاداء مثل هذه الشخصية، فالاغنية من خلال مشاهدتي لها في واد والصورة في واد اخر، فكنت اتمنى من المخرج وصاحب الاغنية كريم العراقي وكاظم ان يكونوا منصفين مع ذواتهم اولا قبل اشتغال هذه الاغنية، ان يروا ابا نؤاس وشتلات الورد النابتة على طوله وبعض الحدائق العامة المتناغمة مع العشب الاخضر ولـُعب الاطفال والنافورات والاقواس)، واضاف طابو: (انا رجل حيادي، لا من هؤلاء ولا من اؤلئك، انا مع الحقيقة التي هي العراق، وكل من ينسف هذه الحقيقة ينسف عمره وقبل عمره ينسف وجدانه، فرأفة بالقفزات النوعية وان كانت وئيدة وسوف تكبر آجلا ام عاجلا ولا يصح الا الصحيح، لقد كنت قريبا من كاظم وعلى تماس معه وهو صاحب الصوت الدافيء، فلا ادري كيف يرتضي ان يتحدث عن عزيزته التي سبق ان تغزل بها وهو يعرف ان بغداد تظل بغداد بلد الجمال والسلام والانس، هل نسينا التاريخ والهجمات التي عليها ولم تفت في عضدها ولا زالت شامخة وفي طريقها لتفتت من حاول ان يفتتها، فيا ابا وسام مزيدا من الهدوء، مزيدا من التبصر، نحن بحاجة لرؤيتك في بغداد، اقدم الينا، طيب جراحاتنا، ليس بالصور البعيدة عنا، اقترب مني ومن احمد وعمر وحسين ومن ماري وجوني، اقترب ستجدنا بالانتظار، شاهدنا على حقيقتنا، وانا واثق وكلي ثقة انك ستعيد مونتاج الاغنية من جديد ).

عبد الجبار العتابي