يتضخم quot; قاموس التخوين quot; في المجتمعات التي تفتقر إلى الشفافية، وتعادي قيم التعدد والاختلاف والتنوع، فهو سمة من سمات الجماعات الشمولية المنغلقة، التي لا تعترف بمبدأ الرقابة الواعية، وغالباً ما تسيء استخدام مدرسة اللياقة السياسية، فبمجرد أن خاطب الشيخ سلمان العودة الطريد الدولي أسامة بن لادن بعبارة (أخي أسامه ) محملاً تنظيم ( القاعدة ) وزر ملايين الأبرياء من النساء والشيوخ والأطفال، ومعاتباً إياه على تشويه صورة الإسلام، قيل أنه نكص، وتناوبته سهام التجريح والانتقاد من كل صوب، كما تعرض لانتقادات واسعة بعد أن أخرج جماعة بكاملها من الإسلام بجرة قلم، إنقلاباً على ما تم التعاقد عليه في الحوار الوطني، خصوصاً أن له سابقة في غموض المواقف فيما عُرف بحادثة ( جبة ) في إشارة إلى أنه بات أكثر توافقاً عندما صار الأمر يتعلق بمصالحه الشخصية بعد أن كان يعد من الممانعين.

وحين تراجع الشيخ حسن الصّفار عن مشروعه الإنشقاقي، مؤثراً الالتحاق مع فصيل من مريديه بمؤسسات الدولة، وتعزيز روح المواطنة، وإشاعة ثقافة السلم الإجتماعي، وإنهاء مرحلة quot; أثبتنا الولاء بالدم quot; طُورد بجريرة التفريط في حقوق وتاريخ جماعته، والتوقيع على ميثاق شراكة لا يراعي مصالح ناسه ولا يعبأ بتضحياتهم، فيما اعتبر انهزامية، أو quot; تقية quot; محدّثة، من كائن لم يذق قساوة السجن بقدر ما استطاب رفاهية المنفى ثم وجاهة القرب من البلاط. أو هكذا يفسر المخوّنون أي صيغة من صيغ التصالح والتفاهم إذا لم تتقاطع مع قاموس معتقداتهم الوطنية والدينية والاجتماعية.

الطعن ذاته أصاب الدكتور محمد الأحمري فحين كتب في ( خدعة التحليل العقدي ) أثر العقيدة في الوصول إلى أخطاء تحليلية فادحة، واستنكر نزعة quot; التعصب للذات والتهجم على الآخرين ونزع إنسانيتهم أو أهدافهم العليا quot; أتهم باستغلال مرحلة المراجعة ليسجل تراجعه عن معتقداته، فهو حسب ذهنية التخوين، لا يخلو من تأثر بالآخر الغربي، وليس أصيلاً بما يكفي للثبات على مواقفه. تماماً كما حدث بالنسبة للدكتور توفيق السيف، الذي عُرف عنه تبنيه لمشروع يقوم على المواءمة بين الحداثة والدين، واعتقاده بامكانية التعايش بين الاسلام والديمقراطية بدون المكّون العلماني، لكنه سجل في لحظة من اللحظات سقطة غير محسوبة باصطفافه إلى جانب القوى الظلامية عندما كتب quot; أعينوا طالبان quot; الأمر الذي أثار استهجان بعض المتنورين فتجاوزا بحيرتهم شخص الكاتب إلى مساءلة كنه الوعي الديني، والتشكيك في وعي النخب المتحدّرة منه.

كذلك عندما أعلن منصور النقيدان ندمه على ماضيه المتطرف داخل الجماعات السلفية، وُصم مع مجايليه من الصحويين التائبين بلوثة الرغبة في الشهرة والخروج عن الملة. أما آخر المتحولين وليس أخيرهم فهو خالد العمير الذي أصدر بيانه الانقلابي على الدستورييين فاضحاً خيانات وأمراض الوسط الثقافي وحقيقة الحركة الاسلامية الممسوخة - حسب تعبيره - وعندها وُصف بالعمالة والضحالة وقلة البأس والرغبة في الانتقام، والتشنيع برفاق دربه، وهكذا تطول القائمة بالتائبين أو المستتابين عن اعتقاداتهم، الذين يشتركون جميعاً في التنازل عن مشاريعهم الفئوية الصغيرة وإبداء الرغبة للالتحاق بمشروع البناء التوحيدي للدولة الحديثة.

هذا ما تنم عنه توباتهم واستدراكاتهم لأخطاء الماضي. لكن قاموس التخوين يصنّف تلك المظاهر كارتكاسات تقع بمنزلة الإرتداد عن المعتقدات الدينية، وإهدار القيم الإجتماعية، والتفريط في الحقوق الوطنية، وإدخال المعنى الثقافي في علاقة ملتبسة مع الأداة والممارسة، حيث تشي تلك ( المراجعات/التراجعات ) بوجود ذات مثقفة تتم إدارتها كأداة، وتمتلك من الاستعداد للإستسلام والتفريط في الحقوق والانقياد للغالب ما يبرر التشكيك بمفاهيمها وقيمها، كما تعزز فكرة جهلها ووهن تصوراتها وأحكامها وعزلتها أو انفصالها عن قضايا الناس، وبالتالي يتم التقليل من قدرتها على القيادة، خصوصاً أن بعض القيادات لا زالت تلهج بخطابين متباينين، أحدهما شعبوي للاستهلاك الجماهيري الداخلي وآخر لتلميع الذات في تواصلها مع ( الآخر ) بكل أطيافه، لتحقق بالمقابل وجاهة أو مكاسب شخصية نتيجة لعبها على التناقضات وتلاوين العقائد والارتقاء بالكذب إلى رتبة الفن.

تلك أعراض نكوصية تشبه ما سماه جوليان باندا quot; خيانة المثقفين quot; من حيث تعريض المثقف مبادئه للشبهة وإثارة الصخب اللا مبرر حول شخصه، وهي في هذا المقام ذات طابع ديني، وتلامس ذوات ثيوقراطية الهوى والإعتقاد. ونتيجة الوهن التكويني عجزت بعض تلك الذوات عن تمثّل دور القيادات اللاهوتية، ولم تمتلك كفاءة الأبطال التراجيديين، فاضطلعت - طوعاً أو تلفيقاً - بأداء مهمة القيادات الواقعية، أو المعافاة من أوهام المثالية، وهو أمر يمكن تفهم حمولاته الذرائعية في ظل ثقافة آخذة في التخفف من طغيان الروح الميتافيزيقية، ومأخوذة في الآن نفسه بعناوين العقلانية التي تبثها مفاعيل السلطة باختلاف أشكالها تحت وطأة العولمة واشتراطاتها الضاغطة.

ويبدو أن تهمة quot; الخيانة quot; هي المفردة الإقصائية الجاهزة ضد كل من تسوّل له نفسه الإصغاء إلى ذاته، في مجتمع يلتبس فيه معنى quot; المشروعية quot; إذ لا يمتلك أفكاراً ناضجة عن مكوناته الروحية والمادية، ولم يتمثّل نزعات الإنبناء الفرداني، وعليه تطفو لغة إنكارية لأي شرعة إنشقاق أو إختلاف أو تنوع، على اعتبار أن ذلك المروق من مستوجبات الاصطفاف مع الشيطان، وعدم لزوم الجماعة بمعناها الشمولي كنسق مركزي مهيمن، حسب المأثور الديني، فدستور الحرية الفردية مرفوض حتى حين تعتنقه وتبشر به زعامات مثقفة ذات سمة روحية يفترض أن تنير الدرب للجماهير بموجب مواهبها وقراءتها الاستشرافية للأحداث، أو من خلال وعيها بالغائية التاريخية، وامتلاكها من القدرة والدراية ما يستحق إعادة موضعة quot; العوام quot; خارج منطق النكبات، وضمن واقع رجراج يفترض التعاطي معه بشيء من المرونة والواقعية، بل حتى الذرائعية أحياناً.

الخيانة باختلاف تجلياتها الإعتقادية والوطنية والإجتماعية تهمة على درجة من القسوة والعدائية، تنال الوجود المعنوي والمادي لروح الفرد والجماعة، فتحدث في الذات المتهّمة شرخاً عصياً على الإلتئام مهما بلغت حصانتها النفسية والاجتماعية، وقد تُوقعها في حالة من التخبط والدفاع اليائس المودي إلى الانحراف عن المبادئ، واستطابة النوم مع الأعداء، كما يلاحظ في الصدامات والتسويات الملفّقة على عجل، التي تقيمها بعض الذوات مع مرجعيات روحية وسياسية وإجتماعية ساطية، فيما يبدو رغبة في إعادة التموضع، وتسجيل ذلك الإختلاف أو التوافق بشكل علني، إمعاناً في التحدي، واكتساب الحماية الروحية، أو التحصّن أحياناً بهيجان القاعدة الجماهيرية، حيث لا تزيدهم سرعة السير إلا بعداً.

وهي - أي تهمة التخوين - إذ تصدر عن ذات أو فئة ضعيفة نتيجة استشعارها لخطرٍ غامضٍ، يبدو مبرراً ومفهوماً في بعض الأحيان وليس على الدوام، فإنها تنشأ في الغالب كصيغة ملازمة للعقيدة في المجتمعات المقهورة التي تعاني من سطوة الروح المركزية والشمولية حيث تساهم الذات القيادية الدينية المثقّفة أحياناً في تأصيلها تأكيداً للتفوق وإضعافاً للآخر، من خلال تغييب روح الشفافية وتصعيد حس الإضطهاد، وممارسة دكتاتورية تكميم الأفواه المتسائلة. وفي ظل ذلك المناخ الملتبس ترتفع لافتات التخوين بصخب وكثافة، بكل ما يعتورها من تهويش ومبالغات ومغالطات تكتسب صلابتها ومبرراتها كلما ضاق الفضاء الديمقراطي الذي يفتح للذات الإنسانية رحابة التعبير عن نوازعها ومواهبها.

وعلى العكس من ذلك الإختناق التعبيري، لا يبدو الأمر كذلك في المجتمعات المنفتحة القابلة للتعاطي مع التوبات والنكوصات وكل مظاهر الإرتداد والاضطهاد بشفافية عالية تحت شعار يقول بأن الحقيقة لا تظهر إلا في ظل الحرية، ولذلك يدان من الوجهة السياسية عرّاب تيار المحافظين الجدد في الولايات المتحدة الأمريكية ايرفنج كريستول، لكنه لا يؤاخذ تحت هذا العنوان الإنتهازي، الذي يسمح له بالتنقل الحر بين العقائد والأحزاب ما دام يكاشف ناسه بفجاجة تقلباته، حيث يباهي بتحوله من نيو ماركسي إلى نيو تروتسكي إلى نيو اشتراكي إلى نيو ليبرالي وصولاً إلى نيو محافظ.

ومن المفارقات أن تصدر تهمة الخيانة عن فئة إجتماعية تدين بالولاء لذوات تحمل وجهاً من وجوه الإباء، ابتنت مجدها واكتسبت سمعتها من احتضان منظومة من القيم والمبادئ، فيما يبدو هرماً مقلوباً تتحكم فيه القاعدة الجماهيرية بالقمة المفكّرة القائدة، ربما لأن الجماهير تكتشف على حين غرة أن تلك المبادئ المضحى من أجلها مجرد شعارات فارغة، حيث يبدأ التشكيك في قيمة ومعنى وجدوى التنازل التي تبديه تلك القيادات عن مشروعياتها الإنشقاقية الصغيرة قبالة الإجماع الوطني والإجتماعي على مشروع الدولة الحديثة، وعليه يتم إخضاع جهاز مفاهيمها وشعاراتها الرنانة وحتى لغتها الوعظية للمساءلة والإتهام، بالنظر إلى أن ثقافة المجتمعات التي تفتقد الروح الناقدة، وشفافية المكاشفة، لا تنبني على صدقية القرائن ورصانة المعارف ودقة المعلومة، بقدر ما تتأسس على الهوى والميول والشائعات والتسويات الملفقة والحقائق المبتسرة والتجريدات الميتافيزيقية التي تتبدد مع أول اصطدام بالواقع، وبالتالي فهي لا تحتمل التباين والإختلاف، بقدر ما تميل إلى صرامة الإلغاء والإقصاء لتعطيل فعل المراجعة.

الريادة الثقافية كما تتمثل في صيغتها الدينية، يمكن اختزالها في زعامة قادرة على منح الجماهير أفضل ما تمتلك من طاقة ورؤية ومراس، ويفترض اختزانها الواعي لطاقة يمكن بموجبها تحريك مكنونات الناس نحو الأمثل من القيم، فهي بالضرورة تمتلك درجة من الإيمان بالإنسان كقيمه، وعليه ينبغي أن تقترب قدر الإمكان من مؤسسات المجتمعى المدني، وتسهم في التأسيس لسيادة القانون وروح الديمقراطية، لا أن ترطن بمفردات قاموس ذلك المخترع الحقوقي الإنساني بدون قدرة على ترجمة تطلعاته، كما ينبغي أن تقيم علاقتها مع الجماهير على قاعدة تأكيد قيمتها الرمزية والمادية، أي دستور الحرية الفردية، بما هو علامة العلامات وجوهر النظام الديمقراطي الكفيل بتحرير الإنسان، وذلك بتأصيل نزعة quot; الشفافية quot; بما تمتلكه من طاقة سحرية لتبديد مفردة التخوين من القاموس الإجتماعي، وتجريد القوى الخفية - الخائفة والمخوّفة - من سلاح التآمر.

إذاً، يفترض في المثقفين الدينيين، بما هم قوة من قوى المجتمع الحية، الكف عن تبطين مشروعاتهم المعلنة بمشروع مضمر، كما يشخّص روجيه غارودي خطورة المثقف الأفاّق، والتعفف عن طرح الشعارات التجزيئية المتطرفة لصالح شعار توحيدي يحتمل في داخله التنوع والتعدد والإختلاف، لتكتسب مقاصدهم مشروعية صلاحها، فمن خلال هذا التكاشف يمكنهم الدفاع عن صدقية إنتمائهم بالقرائن العقلانية، والحماسة الشعورية، وليس باللغة الوعظية الموظّقة لكسب الأنصار وخداع المريدين، لكي يتوقف مد التخوين الذي بات يتجاوز الأفراد والقيادات إلى حد تأثيم جماعات وفئات وشرائح اجتماعية بأكملها وإصابة ( الآخر ) بكل تمثلاته العقدية بمقتل في معتقده ومواطنيته وحسه الإجتماعي.

محمد العباس

www.m-alabbas.com
[email protected]