المحنة الكردية
-1-
لا يمكن لأي متابع للشأن التركي إلا أن يتضح لديه أن هنالك إستراتيجية تركية، لا يمكن لها أن تتوقف على هذا العامل العابر أو ذاك. سواء جاء من جهة إقليمية أو دولية. والأمر المؤكد أيضا أن تركيا لا تفكر ضمن هذه الإستراتيجية بأداة نووية، أي أنها لا تفكر بامتلاك سلاح نووي مطلقا. وهذه قضية تتشابه فيها تركية مع كثير من دول المنطقة والعالم، ولكن المختلف هنا هو وزن الدولة التركية، وتاريخية هذا الوزن على المستويات الإقليمية والدولية. فالمؤسسة العسكرية التركية رغم عنفوانها المشوب بخطوط سوداء، ناتجة عن طول سيطرتها المعلنة والمخفية على أهم عناصر القرار السياسي التركي، وعن سلوك أجهزتها الاستخبارية وبعض جنرالاتها مسالك عنيفة بحق المعارضين السياسيين في تاريخ تركيا. دون أن يجعلنا ذلك نغض الطرف على أن هذه المؤسسة لم تقبل على نفسها إنتاج أي ديكتاتور من أي نوع خاص! لا من النوع القومي الطوراني، ولا من النوع العلماني المزيف، لأنها فعلا بقيت حامية للجمهورية الأتاتوركية علمانيا و دولتيا. لهذا بقيت تدخلات المؤسسة العسكرية هي تدخلات رغم انقلابيتها في بعض الأحيان من التاريخ التركي، لكنه تدخلا مؤسساتيا. لم يفرز أي ديكتاتور في الحياة التركية. و هذه ميزة تحسب لهذه المؤسسة العسكرية من جهة، وانعكست على تاريخ تركيا المعاصر من جهة أخرى. بالطبع دون أن ننسى الكثير مما كتب عن فساد بعض دوائر هذه المؤسسة العسكرية ماليا. ولسنا هنا في موضع المتتبع لهذا الأمر. كانت هذه المؤسسة إضافة إلى ما ذكرناه تعتمد على كونها جزءا من قوى الحرب الباردة والعالم الحر أيام جارها السوفييتي. لهذا كان الخطر الذي تتحسس منه هذه المؤسسة يأتي من جهة اليسار! وليس من الجهتين الكردية والإسلامية. حتى جاء السيد عبد الله أوجلان محمولا على الأجندة الأسدية وحاملا لها كرديا/ تركيا، حيث استطاع أن يقضي على غالبية الحركات اليسارية سواء منها الكردي أو التركي، سواء بالهيمنة أم بوسائل أخرى. وهذا يقودنا الآن إلى نتيجة بسيطة: ربما تكون مادة لحوار من جهة، وتثير بعض الحساسية من جهة أخرى: إن سلطات المنطقة وسياقات الحرب الباردة هي التي أيضا أحييت وعقدت المسألة الكردية بالآن معا باستثناء الدولة التركية، فهي بقيت منذ تأسيسها تتحاشى الاعتراف بالمسألة الكردية، وعدم التورط في دعمها في أي بلد تتواجد فيه. وهنا كلامنا هذا لا يحمل أي تقييم له طابع سلبي كان أم إيجابي. أما الشاه فقد لعب بهذه الورقة، وسلطة الملالي من بعده، النظام السوري وشقيقه العراقي، شقيقه قبل التحرير وبعده! ونرجو أن تكون هذه النتيجة الافتراضية مادة لحوار قادم. الإستراتيجية التركية لها بعدين الأول إقليمي، والثاني دولي. فتركيا دولة لها وزن ما على الخارطة الدولية، وهي جزء من المجال الأمني الاقتصادي الأوروبي، كما أنها عضو ذا وزن في حلف الناتو، بغض النظر عن مماحكات بعض الحكومات الأوروبية!حول إسلامية الدولة التركية. فموضوع الإسلام هذا هو للتصدير في أغلب دلالاته التي يطرحها بعض الساسة الأوروبيين. بل الخوف من تركيا كدولة ذات عمق ديموغرافي واقتصادي وجغرافي له وجه امتدادي في العالم الإسلامي من جهة، وله دعم أمريكي من جهة أخرى. فإذا كانت تركيا لا تريد أن تمتلك سلاحا نوويا، وملتزمة عموما بالقانون الدولي، فما هي إذن الأدوات التي تجعل من الدور التركي دورا قويا إقليميا على الأقل؟ إن الاقتصاد التركي وعضوية تركيا في الاتحاد الأوروبي هما المعبر الوحيد لهذه الإستراتيجية. لهذا من الخطأ الحديث عن الدولة التركية، وكأنها محكومة من عصابة شأنها شأن بعض دول المنطقة، أو أنها محكومة من زمرة فاسدة، بلا قانون أو مؤسسات. وعدم النظر إلى أن تجربتها الديمقراطية المنقوصة كرديا، لم تعد ذات عمق مؤسساتي وثقافي وسياسي واقتصادي. وليس أدل على ذلك من وجود الحزبين الإشكاليين بالنسبة، للنظرة التقليدية لتركيا وهما حزب العدالة والتنمية الذي أصبح في الحكومة الآن، وحزب المجتمع الديمقراطي، الذي أسسه عبد الله أوجلان من معتقله، والذي أصبح له أكثر من ثلاثة وعشرين نائبا في البرلمان. وهو معروف بأنه يشكل الجناح السياسي لحزب العمال الكردستاني، ليس هذا وحسب بل أن السيد أوجلان هو من يعين قياداته ومرشحيه للبرلمان التركي*. إن للتجربة التركية إرثا ديمقراطيا مهما، وجدير بإعادة القراءة. لأن إعادة قراءته تجعلنا نقف أمام أدوات بحث سياسي مختلفة، ولغة سياسية تاريخية براهنيتها. ما الذي لدى تركيا غير ما ذكرناه لكي تأخذ إستراتيجيتها بعدها الإقليمي والدولي؟


لهذا نجدها تسعى نحو ترتيب نظام إقليمي، على الصعد الأمنية والسياسية والاقتصادية. وهي دولة ليست تابعة لأحد! كما يوحي بذلك بعض خطابنا التقليدي عن الدولة التركية. كما أنها ليست مركز لا طرفي ولا مركزي! في العالم الرأسمالي. إنها دولة أقرب للطبيعية. في طبيعية عصرنا الراهن. لولا الإشكالية الكردية. فهي تسعى لفتح أسواق الدول المجاورة لاقتصادها ورساميلها.كما تسعى لحالة من الاستقرار الإقليمي، وهذا الأمر يشكل بحد ذاته إحدى نقاط الارتكاز في التحركات السياسية التركية. ومن المعروف أيضا، أن الولايات المتحدة الأمريكية قد عملت بكل الوسائل من أجل إشراك تركيا في قوات التحالف لتحرير/ احتلال العراق، رغم تحفظ القيادات الكردية العراقية على هذا الأمر، لكن الأتراك رفضوا هذا الأمر حتى أبان التحالف الدولي لتحرير الكويت1991. أما ما يخص الحديث عن النزعة الطورانية القومية، فهو حديث لا يمكن أن يتم إلا في سياق الرؤية المركبة لحركية الدولة التركية داخليا وخارجيا، والتي توضح أن التيارات القومية التركية بعيدة عن الهيمنة الإستراتيجية على الشارع التركي، رغم كل النزعات التي تظهر بين الفينة والأخرى نتيجة للصراع الكردي أحيانا، ونتيجة للإعلام المرافق للمفاوضات مع الاتحاد الأوروبي في أحيان أخرى. على هذا الأساس يمكن لنا فهم الحركة السياسية التركية، سواء في موضوعة الصراع العربي الإسرائيلي، أو في علاقاتها البينية مع دول المنطقة، وخاصة سورية الجارة الأقرب لها، والأطول حدودا. فرغم كل الأزمات التي تعرضت لها هذه العلاقة مع سورية، أو مع السلطة في سورية، بقيت السياسة التركية حريصة كل الحرص على عدم القطيعة مع سورية، التي تعتبر البوابة التركية البرية نحو العالم العربي، سواء دخلت الاتحاد الأوروبي أم لم تدخله. واليمين التركي والمؤسسة العسكرية التركية، ليس كاليمين الإسرائيلي والمؤسسة العسكرية الإسرائيلية، فهو يسعى حقيقة نحو مزيد من الاستقرار في المنطقة. لكنه في المقابل لم يستطع حتى هذه اللحظة التحرك نحو حل شامل وعادل وديمقراطي للقضية الكردية في تركيا. و ما تحقق يجعل الأفق السياسي التركي خصوصا والدولي عموما، قابلا لتحقيق المطالب الكردية عبر الوسائل السلمية في النضال السياسي، والتخلي عن العمل العسكري لأنه بلا أفق.

وهنا يقودنا الحديث عن الجانب الكردي في الموضوع، وخصوصا الخطاب الكردي في الأزمة الأخيرة هذه، التي يهدد فيها الجيش التركي باجتياح كردستان العراق. حيث أننا نجد أن ما أغفل الحديث عنه في هذه الأزمة هو: موقف القيادات الكردية العراقية الحقيقي من حزب العمال الكردستاني. لا يساورنا الشك مطلقا عندما نتحدث عن أن القيادات الكردية تلك إنما تتعامل وفق إستراتيجيتها الخاصة. ورؤيتها الخاصة للمسألة الكردية عموما وفي تركيا خصوصا. ولهذا جاءت ورقة حزب العمال الكردستاني كورقة تفاوضية من نوع ثمين لكلا الحزبين الكرديين بزعامة السيد البرزاني والسيد الطالباني. وأهم ما تجلى في هذا الأمر هو حرص هذه القيادات على أن تمثل نفسها ومطالبها في المحادثات التركية العراقية الأمريكية بشان ملف حزب العمال الكردستاني. وهذا الأمر ينطبق على حالة أكراد إيران أيضا. وهذا موضوع يحتاج وحده لبحث خاص. المحنة الكردية إذن لها وجهين:
الأول- تركي تحدثنا عنه في السياق. والثاني- كردي/ كردي. إن المطلب الكردي من تركيا لا يمر عبر بؤرة واحدة، سواء كانت مؤسسية أم غير مؤسسية! بل هو يمر عبر بؤر عدة الآن: منها ما هو داخلي كردي تركي متحالف وشريك مع القوى التركية، ومنها حزب العمال الكردستاني، ومنها الآن الأحزاب الكردية في كردستان العراق. و لكن هل هذه البؤر تنتج نفس الموقف، ولديها نفس الوسائل لحل الأزمة الكردية في تركيا؟ هذا الجواب متروك للأخوة الأكراد. باعتقادي هذا وجه من وجوه المحنة الكردية التي لها مطالب لا يستطيع أن يشكك أحد في عدالتها.


-2-
أثارت تصريحات الرئيس السوري بشار الأسد، أثناء زيارته الأخيرة قبل أسبوع إلى تركيا، ردود فعل متباينة، ولكنها في الغالب محتجة، لأنه أعطى شرعية لقيام القوات التركية باجتياح كردستان العراق. واعتبر ذلك من حق تركيا. رغم توضيحات وزير إعلامه، إلا أن التصريح كان أقوى من تلك التوضيحات، وأكثر وضوحا. و كثرت التحليلات حول هذا التصريح، والذي برأيي، لا يعدو عن كونه، حالة من الدبلوماسية المتسرعة في اختيار مفردات التعبير عن هذه المجاملة الرقيقة، من قبل السيد الرئيس للحكومة التركية. برأيي أيضا أن الزيارة كانت مقررة قبل حدوث هذه الأزمة الأخيرة، ومن المعلوم أن الرئيس بشار الأسد كان أول رئيس تستقبله هذه الحكومة، وهذا له أكثر من وجه في الحقيقة.وأهم هذه الوجوه هو التأكيد التركي على أولوية سورية بالنسبة للإستراتيجية التركية، بمعزل عن طبيعة أية سلطة كانت في سورية. وضمن هذه الإستراتيجية الدولة السورية هي الأهم بالنسبة لتركيا بكل ما يحمله هذا الكلام من معنى. وهذا أمر تدركه جيدا أيضا السلطة في سورية، وتحتاجه أحيانا في ظروف كالظروف التي تمر بها هذه السلطة الآن، وهي ظروف بالمعنى السياسي: لا تحسد عليها مطلقا. وأهم هذه الظروف هو أن السلطة في سورية لم تعد من اللاعبين الأساسيين في المنطقة! بغض النظر عن القضايا الشائكة الأخرى. وتركيا إذ تدرك هذا الأمر تحاول أن تأخذ تنازلات في هذا الزمن السوري الضائع، بين ارتجالية المعنى السياسي السوري، وبين انسداد الأفق لاستمرار هذا الشكل من الممارسة السياسية والسلطوية داخليا وعربيا ودوليا. وهذا الأمر بات أكثر من واضح لأي مراقب سياسي، فإيران تستقوي بالسلطة في سورية، وتستخدم هذا الاستقواء كورقة تفاوضية مع قوى أخرى، فلماذا لا تفعل تركيا كما تفعل إيران؟ رغم الفارق بين طبيعة الرؤى والوسائل الإستراتيجية بين كل من إيران وتركيا.
والسؤال هل فعلا السلطة في سورية من مصلحتها أن تجتاح تركيا كردستان العراق؟ لا نعتقد ذلك أبدا. فلازال الملعب السوري، فيه لاعبا أسمه حزب العمال الكردستاني أقله استخباراتي! وهذا ثمن أيضا، يسعى السوريون في السلطة لقبضه. هذا ما أدركه ويدركه منذ زمن السيد جلال الطالباني، الذي قال في مقابلته مع صحيفة الشرق الأوسط اللندنية: أن الرئيس السوري قد تجاوز في تصريحه هذا كل الخطوط الحمر. والملاحظ أن السلطة في سورية ليس لديها خارج هذا الملف والملف الاقتصادي، ما تتباحث بشأنه مع الحكومة التركية. وإذا كانت في الملف الاقتصادي هي الطرف الأضعف بما لا يقاس- حتى لو قدم الرئيس السوري رساميل لرجال أعمال سوريين لاستثمارات في تركية! أو لمزيد من فتح السوق السورية أمام البضائع التركية، فسورية في وضع لا تستطيع الاستغناء عن التجارة مع تركيا. فماذا تبقى لها في الحلبة التفاوضية مع دولة ذات مؤسسات، ولها إستراتيجيتها لكي تتفاوض معها بِشأنه، خصوصا أن الإستراتيجية السورية مرتبطة بشكل وثيق بالأجندة الضيقة لمطالب السلطة السورية، والتي تعتبر من منظور استراتيجي وتاريخي مطالب لحظية، ولا يستطيع الأتراك التعاطي معها ضمن أفق أكثر من لحظي أيضا. وهذه المطالب تتعلق بقضايا تشغل بال السلطة السورية، في معمعة الأجواء الملبدة بالغيوم الدولية الضاغطة. والسؤال الآخر أو من الجهة الأخرى: هل تستطيع الحكومة التركية فعلا أن تساعد السلطة السورية، في تحقيق أهدافها الآنية هذه؟ كملف العلاقة الإسرائيلية السورية، والمؤتمر الدولي الخريفي البوشي، وقضية لبنان وملفاته. لا أظن أن الرئيس السوري لديه أي وهم، بأنه قادرا على تمتين حلف إيراني تركي سوري! بمواجهة مخلفات سياسة نظامه في المنطقة خلال العقود الأخيرة وخصوصا في لبنان. أعتقد أن أهم ما يمكن أن ينتج عن هذه الزيارة من نتائج هو: في استمرار محنة الكورد، تركيا وسوريا. إذا أضفنا هذه النتيجة إلى ما سبق وتحدثنا عنه في القسم الأول.
*راجع مقال بكر صدقي على موقع الأوان، وهو بعنوان: في خلفيات القرار التركي بعمل عسكري محتمل نحو شمال العراق.


غسان المفلح