( قالوا بَل وجدنا آباءَنا كذلك يفعلون )
قرآن كريم


من قصة طريفة للأديب (ادواردو غاليانو) عن كرسي فارغ كان يتوسط ثكنة عسكرية يقف لجنبه حارس يحرسه، وكلما أنهى حارس خدمته او استقال جاء حارس آخر بعده لحراسة هذا الكرسي ليل نهار، حتى قرّر احدهم أن يستكشف سرَّ هذا الكرسي الذي لا تُترك حراسته للحظة واحدة، فقرر العودة الى الملفات والأوامر القديمة فوجد أنه قبل واحد وثلاثين عاماً وشهرين وأربعة أيام أمر ضابط حارساً أن يقف قربَ ذلك الكرسي الذي دُهن للتو، لكي لا يفكر أحد بالجلوس على الدهان الطري.


انها فعلا قصة تحمل اكثر من دلالة، فكم في حياتنا من الكراسي الفارغة والتي بتنا نحرسها من دون ان نعرف لماذا، والسبب لاننا تعودنا ان لا نسأل عما حولنا، بل مات السؤال فينا، فطمرت المعرفة لموت جذرها، فصرنا ننعق مع الناعقين واحيانا نقاتل الآخرين دون ان نعرف الحقيقة والتي باتت غائبة عن الكثير من تصرفاتنا، ننفذ أوامر تتعارض مع ابسط البدهيات المنطقية دون ان نسأل انفسنا ما الغاية من ذلك، نجعل العقل خلف ظهورنا ونؤدي افعالاً او نردد اقوالاً وكأننا نسير ضمن سياق منطق اقوام ذمهم القرآن الكريم وكل الكتب السماوية لتمسكهم بمنهج التقليد الأعمى وتخليهم عن العقل والمنطق، ( قال هل يسمعونكم إذ تدعون، أو ينفعونكم أو يضرون، قالوا بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون). يفترض اننا غادرنا هذا المنحى السلبي والاستسلام المعيب والاتباع غير المبرر،لمجرد ان غيرنا قال به او فعله. السؤال والبحث الموضوعي كفيلان بأخرجنا من مهمة حراسة وتقديس الكراسي الفارغة و الإنحناء امام مقولات خاوية. وليس بخافٍ على بعضنا ما كشفه العلّامة الباحث مرتضى العسكري من أمر مئة وخمسين صحابياً مختلقاً في كتابه الموسوم، (خمسون ومائة صحابي مختلق) والذي لفت انظار الكثير من الدارسين المتخصصين والباحثين وقد ثمنوا واشادوا بهذا الجهد الكبير، ومنهم المستشرق البريطاني (جيمس رابنسن) استاذ كرسي اللغة العربية في جامعة مانشستر، فالباحث العسكري كشف لنا عن مائة وخمسين كرسياً فارغاً، وقف التأريخ والمؤرخون مئات السنين يحرسونها ويبجلونها ويروون عنها ما حُسب على الدين وهو ليس من الدين، فرشحت من جرّاء ذلك مفاهيم خاطئة متلبسة بلبوس المقدس فصارت مما يمنع مسّه او التعرض له بالنقد او المساءلة، ولولا جرأة هذا العلاّمة الباحث الفذ ودقته العلمية وصبره الفائق لبقيت هذه الوجودات الوهمية تتناسل في حاضرنا نقلا وتأويلا لتستمر في صنع واقعنا كما ساهمت في تزوير تاريخا واخترقت بعض مفاهيم ديننا وشكلت بعض انماط تفكيرنا، واحيانا ساهمت بخلق مشاعر العداء بيننا.


ونظراً لما تقدم يبدو اننا امام مهمة شاقة ودقيقة، انها مهمة البحث والتدقيق في تضاعيف تراثنا وتأريخنا الذي تعرض للكثير من الهزات الإرتدادية لمعارك سياسية طاحنة ومنعطفات غلوّ وتعصبٍ واهواء ومصالح، وعلينا ان نعتمد على ما هو (صحيح) ومنطقي وثابت، وليس على كل ما هو (مقبول) وشائع فليس كل ما هو مقبول صحيح، فاحيانا تتحول الأخطاء الى حقائق تكتسب شرعيتها وصحتها من الشيوع والتداول، وتكون لها القدرة على طرد الحقيقة من الميدان كما تطرد (العملةُ المزيفةُ) (العملةَ الصحيحة) من السوق.

حسين السكافي