في تعليقه على حلقة الاتجاه المعاكس، التي بـُثت بتاريخ 30/10/2007 وكنت بكل تواضع أحد ضيفيها، والمنشور في إيلاف نقلاً عن صحيفة الوطن القطرية تاريخ 1/11/2007، يبدأ الأستاذ رجاء النقاش مقالته المعنونة بـquot;باطل الأباطيلquot;، بمكابرة مفضوحة لا تليق، البتة، بكاتب من مثله نحو زميل له، وتجلت بعدم مقدرته على تذكر اسم أحد ضيوف الحلقة، رغم متابعته لها بشوق وانتباه من الباب للمحراب وتذكره الحرفي لعبارات كاملة وردت فيها ذكرها لاحقاً بالحرف، إلا إذا كان هناك مشكلة ما في الذاكرة يتعلق بنوع معين من الكتـّاب لا علاقة لنا بها على الإطلاق، ويا رب تعافينا جميعاً على كل حال. وكان من السهولة جداً، بمكان، في هذه الحالة، واحتراماً للأصول وتواضعاً في نهاية المطاف، لأي باحث مبتدئ وشبه أمي أن يستحصل على اسم ضيف، حتى ولو كان على باب الله quot;زيquot; أحوالنا، في برنامج شهير كالاتجاه المعاكس، وهذه أولى سقطات الرد الإجرائية التي كنا نتمنى، ومن القلب، ألا يقع فيها كاتب محترم وquot;كبيرquot; مثل الأستاذ النقاش، يُستكتب في صحف quot;خليجيةquot; واللهم لا حسد وما شاء الله. لأنه وفي هذه الحالة، من حق القارئ أن يوضع صورة الموضوع كاملة، ولكي لا يكون الرد مسلوقاً ومبتسراً ومجتزأً. ويـُعلم القارئ، بالتالي، وعندها، من هو المعني بالرد، تماماً، حتى لا تختلط الأمور على أحد، ويصاب عندئذ قوم بجهالة، ولا سمح الله.

بداية، نحن لا اعتراض لدينا أبداً على ما يعجب الناس وما يحبونه وما يتعلقون به ويميلون إليه فالقضية تتعلق بالميول والأهواء والتربية والتنشئة والتثقيف والذوق الشخصي والعام. والقضية، أصلاً، ليست هنا، لأن الأمور تبقى نسبية تماماً، وهذا ما غاب عن فطنة الأستاذ الكبير. وإن تعدد الآراء ووجهات النظر حول أية قضية هو أمر وارد جداً ومنطقي، ولا يمكن لمن أتى برأي مناقض لما نعتقد به أن ننعته بالباطل، فالحوارات الفكرية لا تتم عادة على ثنائية الحق والباطل والحلال والحرام ولا تأخذ منحى معيارياً أبداً. وهذه هي السقطة الثانية في الرد متكئاً فيها على ذات الثقافة البدوية التي يدافع عنها ووضعته في هذا الموقف الذي لا يحسد عليه أبداُ، وتكـّفر كل من لا يتوافق معها بالرأي. فلا أعتقد أنه يمكن للسيد النقاش أن يحتكر لوحده النظرة للتاريخ والحياة، ويعممها على الناس وتصبح ملزمة للجميع فقط من منظور الباطل والحق والحلال والحرام، مع رهطه من البدو الأعراب الذي يرون أن quot;كلquot; ما جاء وحصل في هذا التاريخ هو نوع من المقدس لا يجوز الاقتراب منه أو المساس به. علماً بأن هناك بشراً، ولعلم السيد النقاش ما زالوا يقدسون الأبقار والنار، فهل يصح أن ننظر إليهم من منظور الباطل والحق والتكفير والحلال والحرام، وأن نتعامل معهم من هذا المنطوق الباتر دون إدراك للمعنى وللحكمة الفلسفية والدنيوية وربما الغيبية في هذا التنوع والثراء وليس على ثنائية الحق والباطل التي طلع لنا بها السيد النقاش.

ولا بد من مشاطرة السيد النقاش، أيضاً، أسفه وحزنه وحسرته لأنه صار بإمكان الناس أن تتكلم وتعبر عن رأيها بدون خوف على غير ما اختطه وسنه البدو الأعراب خلال تاريخهم من قطع لرؤوس معارضيهم. إلا أن النقطة الأهم في الموضوع هي الالتباس الكبير الواضح لدى السيد النقاش في المفاهيم والمصطلحات وتفسير الأحداث. فماذا يمكن أن نسمي ما لم يره السيد النقاش ويعتبره غزواً، والتاريخ الإسلامي وأدبياته نفسها تحفل بمصطلح الغزو، غزوة بدر، أحد، الخندق، مؤتة...إلخ. وحين دك بن لادن برجي التجارة The Twin Towers سمى ذلك بغزوتي نيويورك وواشنطن؟ فهل كفرنا وأتينا بالباطل حين سميناه غزواً، أم أن ذلك يأتي في سياق المزاجية التكفيرية ومعيارية الباطل التي يعلن بها حربه علينا بها ونحن عنها غافلون؟ لا أدري عندها متى نسمى الغزو غزواً، ومتى لا نسميه غزواً، ومتى نسمي بالتالي من قاموا به غزاة أو لا غزاة؟ وهل هناك غزو محمود وآخر ملعون ومذموم؟ ومتى يكون هناك حروب تغزا بها أمصار وتسفك فيها الدماء وتكون عادلة ومقبولة ومقدسة، وحروب يحدث فيها نفس الشيء وتكون ملعونة وغادرة وجائرة وغير مقبولة؟ وعلى افتراض أنه لم تكن هناك مقاومة وتصد لغزو الشام ومصر كما يزعم النقاش فهذا لا يغير من طبيعة الأمر والغزو شيئاً، ولا يجعله قانونياً وشرعياً. فكثير من الحواضر والعواصم والممالك، سقطت عبر التاريخ، واستسلمت دون مقاومة وقتال، ولكن هذا بمطلق الأحوال لا يبرر الغزو والعدوان واحتلال أراضي الغير بقوة السيف والسلاح.

والآن لو أتينا لطالب في صف ثالث ابتدائي وقلنا له، ماذا تعرّف يا بني قيام جيش عرمرم ومدجج بالسلاح بدخول أراضي الغير، واحتلالها، والتسبب في مجازر وموت وقتل وإسالة دماء بريئة وسبي نساء واسترقاق غلمان وفرض مفاهيم وسلوكيات وثقافة جديدة على أصحابها بالسيف دون غيره، حتى ولو كان ذلك باسم الله؟ أعتقد أن ذلك لا يدخل، البتة، في باب السياحة العسكرية والنزهات الترفيهية على الإطلاق. وسنترك الجواب لتلميذ الثالث ابتدائي، ولن نطلبه من الأستاذ النقاش، طالما أنه التبس عليه المفهوم أيما التباس. فإما أن نتفق على المفاهيم والمصطلحات والنظرة الموضوعية والمحايدة للأشياء، وننطلق من خلالها ونبتعد كلية عن المعايير المزدوجة الشوهاء؟ أو نستمر بالنظر بحول وعور للأشياء ولا داعي عندها لخوض أي نوع من الحوار والنقاش أيها النقـّاش؟

ومفهوم الحضارة، في أحد معانيه، هو محصلة لما تنتجه مجموعات بشرية، في زمن ومكان ما، من أدب، وثقافة، وفنون، وشعر، ومسرح وعمران وتنوع إبداعي وسلوك بشري خلاق حافل بالتطورات والأحداث يتميز بالاتجاه نحو النشوء والارتقاء ويدفع بحياة تلك المجموعات إلى الأمام لا إلى الوراء كما جرى في هذه الأصقاع وهو ما طبع الحياة العامة منذ الغزو البدو الأعرابي لهذه المجتمعات. فهم حين quot;يفكرونquot; بالصحوة والنهضة والخروج من كهوف الزمان تراهم يحلمون بالعودة إلى الصحراء وتقليد حياة البدو الأعراب( هل قلنا يفكرون؟ معذرةً). فهل لدى السيد النقاش أية فكرة عن المسرح الروماني والإغريقي الذي بلغ ذرى وشأواً في ذاك الزمان، وقبله، لا يستطيع أعراب اليوم بقضهم وقضيضهم وكل بترولهم وشيوخهم محاكاة جزء بالمليار منه؟ وطبعاً لا حاجة بنا لتذكير السيد النقاش أن كل منظومة الفنون والإبداعات الأخرى كالموسيقى والرقص الراقي والتصوير والرسم والنحت قد انقرضت تماماً مع دخول أولئك البدو الغزاة الأجلاف الأعراب الذين يعادونها أيما معاداة، وأحالوا هذه الأرض إلى يباب وخراب وأطلال. وما زالوا حتى يومنا هذا يحرّمون في ثقافتهم أي نوع من الفرح والفرفشة والتصوير والغناء والموسيقى لأنها مزامير الشيطان، وتشبه بالملاحدة الملاعين الكفار، والعياذ بالله. وما زالت تـُستأصل المرأة تماماً من الحياة العامة، وتمنع عليها حقوقها وتحرم من قيادة السيارات. هذا ما عنيناه يا سيد نقاش بانقطاع سبل الحضارة وأدواتها تماماً عن هذه المنطقة وأنه لم تقم قائمة لهذه المجتمعات من تلكم الأيام. كما أننا لن نعرج ونهمس في إذن كاتبنا quot;الكبيرquot; عمن أحرق مكتبة الإسكندرية، ولماذا أحرقها ومع من جرت المداولات والمراسلات قبل اتخاذ ذلك القرار التاريخي الهام؟ وهل هذا من فعل برابرة همج وغزاة أم ملائكة منزلة من السماء؟ ويقال، والله أعلم، بأنه لو قيض لمكتبة الإسكندرية البقاء، ولم تطلها أيادي البرابرة الغزاة، لكان الإنسان قد وصل للقمر قبل خمسمائة سنة من الآن، نظراَ لما احتوته من كنوز ونفائس فكرية وعلوم وفلسفات ورياضيات وهندسات وإبداعات لم يستطع الأعاريب حتى اليوم الإتيان بجزيء منها أو مجاراتها على الإطلاق. وظلت فتوحاتهم وغزواتهم وحواراتهم وإبداعاتهم وquot;حضارتهمquot; كلها تدور في بلاطات الخلفاء وسير الحريم والفحولة والنسوان وفتاوي التحريم والتكفير وإحلال الدماء والبول والحيض والنفاس وشعر العانة وفوبيا الجنس التي تسيطر كالوسواس الخناس على أفئدة وألباب فقهاء فضائيات البترودولار. هل هذا محض تجن على التاريخ؟ أو فيه ثمة ادعاءات آتية من الهلوسة والخيال وquot;أباطيلquot; الرجال؟

التاريخ، وكما تعلم، يتكلم ويكتب باسم المنتصر دائماً، وهذا ما تفعله أنت الآن بكل عفوية يا أستاذ نقاش. فأنت تتكلم بلغة المنتصر وتنسى أولئك الذين سُحقوا تحت أحذية الغزاة وغابوا في باطن الزمان ولا نعرف شيئاً عن قراءتهم وروايتهم للأحداث؟ ولكن ماذا لو حدث العكس ولم ينتصر الغزاة؟ هل كنت ستتكلم، أو تتجرأ على اجترار نفس الكلام؟ ماذا سنقول يا سيد نقاش لو أن السيد جورج بوش انتصر في هذه الحرب العدوانية الإشكالية والدموية التي شنها على العراق؟ وهو، للعلم، يقول أيضاً بأن الله قد اختاره وأرسله للقيام بهذه المهمة المقدسة على حد تعبيره، واستطاع، بعد حين، من فرض قيمه وثقافته وصارت هي السائدة في هذه المنطقة كما فعل الغزاة الأعراب آنفاً. وطبعاً، ولكي لا تزعل، فمن حق أي شخص أن يتكلم باسم من يريد ومن حقنا أن نقبل أو نرفض ذلك طبقاً لاقترابه أو ابتعاده عن المنطق والتفكير السوي العام وما نحمله من أفكار. فهل سيطلع علينا كاتب على شاكلتك، وبعد كذا قرن من الزمان، ليقول لنا أن ما فعله جورج بوش لم يكن غزواً ولا حرباً على الإطلاق وبغض النظر تماماً عن الموقف القيمي والمعياري من هذه الحرب على الدوام. وبنفس المقياس، ماذا لو انتصرت الحملات، وليس الحروب الصليبية، ولا quot;سمح الله وقدر طبعاًquot;، بقوة السيف كما انتصر البدو الأعراب؟ هل كنت ستقول نفس الكلام عن ريتشارد قلب الأسد وباليان؟ وماذا لو انتصر اليهود وتهودت المنطقة برمتها تحت صليل السيوف ورعب التهديد النووي وإرهاب الدولة واستعراض الصواريخ البالستية ذاتية الدفع العابرة للقارات؟ هل ثمة فرق كبير بين هذا وذاك؟ هل سيكون هذا فتحاً ونصراً من عند الله يطبل ويزمر به حاخامات الهاغاناه؟ وهل سيصبح الغزو الاستيطاني الصهيوني عندها حقاً، وما عداه باطلاً من الأباطيل يا سيدي الهمام؟

أعود فأؤكد بأنه لا يمكن النظر للغزو البدوي لدول الجوار، إلا من باب عولمة هذا الغزو وتعميمه تحت ستار الدين وباسم الله، حاملاً معه قيم السبي والسلب والغنائم والسبايا وفرض العقائد والأفكار السائد في جزيرة البدو الأعراب. ومن حقنا النظر إليه بشكل موضوعي ودونما تودد وعاطفة وانحياز ومن حقك ألا تنظر إليه بموضوعية ونزاهة وحياد. فالغزوات البدوية القبلية التي كانت جارية على قدم وساق فيما بين بدو جزيرة العرب وقبائلهم خرجت من نطاقها الجغرافي الضيق ذاك حاملة معها كل ثقافتها البدوية وإرثها التليد في السبي والغنيمة والاسترقاق، وهذا ما حصل بكل بساطة/ حتى ولو ألبسوها لبوس المقدس وتحت رايات السماء.

وإذا أخذنا الأمور من خواتمها ونتائجها فالمنطقة لم تعرف الرفاهية والحضارة والازدهار بعد ذاك الغزو على الإطلاق. وأنه منذ دخول أولئك البدو الأعراب إلى هذه الديار لم تخرج من نفق الصراعات الطائفية والعشائرية والقبلية الدموية والحروب والتصفيات والثارات والمؤامرات التي لا تموت ولا تنته بنهاية الزمان وبحمد وفضل من الله؟ والسؤال الأهم لماذا، يا أستاذ نقاش، تتردى وتتراجع الحياة حصراً في هذا الجزء من العالم رغم أنه يشهد اليوم quot;صحوةquot; دعوية كاذبة وزائفة محمولة بروافع بترودولارية وسادت فيها البدونة والسطحية والجهل والدجل والخرافات والاستهبال؟ ولـِمَ تتركز نسب الاستبداد والأمية واضطهاد المرأة والأقليات واستمرار العبودية والاسترقاق والفقر والجهل والحروب والفتن والقبليات في هذه المنظومة حصراً؟ هل في هذا سر أم مجرد صدف تاريخية يحاول بعض الشطار الالتفاف عليها وتجميلها بمقال في مطبوعة خليجية نعلم تماماً بأية عقليات تعمل وكيف تدار؟

ثم ماذا نسمي كل تاريخ الذبح والاقتتال الدامي ذاك بدءاً بما يسمى بحروب الردة وتصفية ثلاثة خلفاء راشدين، ولاسيما الثورة الدموية على الخليفة الثالث وحروب الجمل وصفين وقطع رأس الحسين والإتيان به على أسنة الرماح إلى قصر يزيد، وقمع الأمويين الدموي لأعدائهم السياسيين رغم اتفاقهم معهم في العقيدة؟ وماذا عن مذابح العباسيين ضد الأمويين وحروب الطوائف التي تشكل واحدة من أطول حروب التاريخ وحروب التكفير quot;الأدهى والأدق رقبةquot; بين الطوائف والمذاهب وليس انتهاء بخرافة وكذبة التقريب بين المذاهب وبمذابح الحمساويين ضد الفتحاويين وإلقاء جثثهم من الأبنية البرجية في إمارة غزة ستان؟ هل هذا التاريخ زاهٍ ناصع البياض أم سوداوياً مظلماً كما quot;تجنيناquot; في الحلقة على تاريخ البدو الأعراب؟ أعتقد أيضاَ أننا صرنا بحاجة ماسة لمراجعة طيف الألوان وتدرجاتها هذه المرة عند الأستاذ النقاش.

إن النظرة العوراء المحابية لثقافة بدوية بائدة هي فالج الفواليج بعينه (على وزن باطل الأباطيل)، الذي سيأخذنا جميعاً، وعلى حين غرة، أخذ عزيز مقتدر، طالما بقينا على هذه الحال من الرثاثة والرداءة والانحطاط في العقل والتفكير والحال. وطالما تحلينا بتلك النظرة الحولاء وغير الموضوعية للتاريخ والأحداث. وإذا كانت هذه هي رؤى ووجهات نظر quot;النخبquot; الفكرية الثوروية واليساروية وتقييمها للأشياء، فلا غرو ولا عتب أو لوم وقتئذٍ على الجهلة من الرعاع وquot;الحوشquot; واللمامة والحثالات.