جلال الطالباني، هو أول رئيسٍ كردي للعراق منذ تأسيسه قبل أكثر من ثمانية عقودٍ. هو، السياسي الكردي المخضرم، والملقب بquot;المامquot; أي العم(الأرجح على وزن العم هوشي مينة)، وواحدٌ من أبرز الشخصيات والقيادات الكردستانية، وأكثرها براغماتيةً، في تاريخ الأكراد المعاصر. هو، الكردي السريع التحوّل، مشهودٌ له، على حنكته السياسية، ولعبه الكثير على حبال السياسة وأهلها، فضلاً عن ذكائه الحاد، كquot;قائدٍ مناورٍquot;، إلى جانب خبرته الطويلة في شئون إدارة الخلافات والأزمات بين الأفرقاء الأعداء.
هو، المشهور بمواقفه quot;العجينيةquot;، quot;المطاطيةquot;، وله في كلّ مقامٍ قعودٌ وقيام. ما يقوله في دمشق الأسد، لا يصلح وquot;لايمشيquot;، في قامشلو الأكراد، وما يقوله من كلامٍ quot; موزونٍquot; وquot;مقفىًquot; في واشنطن، لا يطير معه إلى طهران.
ولد جلال الطالباني(نسبةً إلى عشيرة طالبان، التي هو سليلها) في قرية كلكان/ قضاء كويسنجق عام 1933، وبدأ مشواره السياسي الطويل، والحافل بالإتفاقات والإختلافات، في مطلع الخمسينيات من القرن الماضي، كعضوٍ مؤسس لquot;إتحاد طلبة كردستانquot;، داخل الحزب الديمقراطي الكردستاني، بقيادة quot;الملا الأحمرquot;، الراحل مصطفى برزاني.
الطالباني الحقوقي(المتخرج من كلية الحقوق بإحدى جامعات بغداد عام 1959)، انضم إلى الثورة الكردية الجنوبية؛ وقاد الثورة(انتفاضة الكرد الجنوبيين، ضد حكومة عبدالكريم قاسم عام 1961)؛ وترأس الثورة، في مفاوضاتٍ سريةٍ، وعلنية(منذ قيادته لأول وفدٍ كردي، فاوض حكومة الرئيس عبد السلام عارف عام 1963)؛ واختلف مع الثورة وقائدها الأوحد البرزاني الأول؛ وخرج عليها، وثم انشق عنها(مع جماعة المكتب السياسي للحزب الديمقراطي الكردستاني التي تزعمها الراحل إبراهيم أحمد، عام 1964)؛ وانفرد بالثورة، مستقلاً إياها، في حزبٍ quot;اشتراكي الهوىquot;، فصله مع أصدقاءٍ له في quot;فوقquot; الجبل وتحته، على مقاس quot;ثورياتquot; ذاك الزمان(حزب الإتحاد الوطني الكردستاني عام 1975)؛ وفرّ مع الثورة وأصدقائها، لاجئاً سياسياً، إلى عواصم الجيران(دمشق، طهران،...).
ومع إعلان التحالف الغربي لكردستان العراق، منطقةً محظورةً على الطيران، بعد حرب الخليج الثانية عام 1991، تحالف الطالباني مع نصف الثورة quot;المختلفةquot; أو بعضها الآخر المختلف معه(quot;ثورةquot; الديمقراطي الكردستاني بقيادة البارزاني الإبن من 1991 ـ1994)، وثم عاد واختلف معها، من جديد، فحاربها وقاتلها، أو لنقل تحاربت وتقاتلت quot; الثورتانquot;(1994) فيما بينها، ودخلتا quot;حرب الإخوةquot;، في مواجهاتٍ دمويةٍ عنيفةٍ، بquot;السلاح الصديقquot;، وquot;الدبابات الصديقةquot;، وذلك عبر تحالف الطرفين مع quot;الأعداء الأصدقاءquot; في كلٍّ من بغداد وطهران، إلى أن توصل الطرفان المتحاربان الشقيقان إلى quot;هدنةٍ شقيقةٍquot;(اتفاقية السلام في واشنطن عام 1998)، أجازت لأصحاب كل quot; ثورةٍquot; من الثورتين المتنازعتين، بإمتلاك كردستانهم الخاص (حكومة خاصة، برلمان خاص، رئيس خاص، مخابرات خاصة، وأموال خاصة): واحدة في quot;السليمانية الطالبانيةquot;، وأخرى في quot;هولير البارزانيةquot;.
اليوم، وبعد توزيعٍ دقيقٍ(على الليبرة)، لأدوار الحزبين الكرديين الحاكمين، واتحاد الكردستانَين، رسمياً، في 21.01.2006، تركَ جلال الطالباني هولير، عاصمةً واحدةً لكردستانٍ واحدة موحدة، يترأسها الكاك مسعود البارزاني(مع ابن إخيه نيجيرفان البارزاني، رئيساً للحكومة، وإبنه مسرور رئيساً للإستخبارات الكردية/ الآسايش)، ليستقر به المقام، أخيراً، في بغداد، رئيساً لكل العراق(العراق العربي+العراق الكردي).
فيما لو استثنينا الداخل الكردستاني المستفحل، الخارج على الحكمة وربيباتها(داخل فاسد، يرشي ويرتشي، يسرق الشعب، يهرّب الملايين إلى quot;البنوك الحريريةquot;، عاطل عن العمل، لا ينتج، يصنع القمع والسجون والديكتاتورية، يمجّد الحزب والعشيرة، يكبّر التكية والجامع على حساب المدرسة والجامعة، يُجوّع المواطن، يقتل الوطن...الخ)، فإنّ حكمة الساسة الكرد، في تعاطيهم مع العراق الجديد، كوطنٍ جديد لكل العراقيين، بمختلف مكوناته، ومع العملية السياسية الجارية فيه، بملفاته الكثيرة الشائكة، جنباً إلى جنب، مع شركائهم الحكام الآخرين في بغداد، يُشهد لها، عراقياً وإقليمياً ودولياً، وهو الأمر الذي قاد البعض من المحللين والمختصين وأصحاب الشأن، إلى وصفهم بquot;حكماء العراق الجديدquot; وquot;صمام أمانهquot;، وquot;درب شفائهquot;، وquot;مفتاح المصالحة الشاملةquot;، من العراق إلى العراق.
موقف رئيس الجمهورية جلال الطالباني، الأخير من قرار تنفيذ حكم الإعدام بحق المسؤولين السابقين في نظام ديكتاتور العراق الفائت، الأوحد صدام حسين، والمدانين في قضية الأنفال(علي حسن المجيد إبن عم الرئيس المخلوع، وسلطان هاشم وزير الدفاع السابق، وحسين رشيد نائب رئيس أركان الجيش العراقي السابق)، بارتكاب جرائم حرب، أثناء حملة الأنفال الدموية في أواخر الثمانينيات من القرن الماضي، في كردستان العراق، والتي راح ضحيتها أكثر من 182 ألف قتيل كردي؛ موقفه الغريب هذا، واللامتوقع(كردياً على الأقل)، الكابح، والمعرقل لتنفيذ حكم المحكمة القاضي بإعدام الثلاثة، وذلك بquot;رفضه التوقيع على حكم الإعدامquot;، يثير الكثير من التساؤلات حول quot;حكمةquot; الطالباني، وquot; براغماتيتهquot; المعهودة.
الطالباني، إذ يتنصل، مع آخرين في مجلس الرئاسة العراقي(طارق الهاشمي)، من المصادقة على حكم محكمةٍ، عراقيةٍ، قانونيةٍ(المحكمة الجنائية العليا)، بحق مسؤولين quot; كيماويينquot;، قصفوا الأكراد وسواهم من أهل العراق، بالكيمياء والنابالم، وشتى صنوف الأسلحة المحرمة دولياً، وأبادوهم بالجملة والمفرق، وهدموا بيوتهم فوق رؤوسهم، وسووا قراهم بالأرض، إنما هو تنصلٌ، بهذا الشكل أو ذاك، عن حق العراق، وحق آلافٍ مؤلفةٍ من أبنائه المنكوبين المؤنفلين، الذين ذاقوا كلّ القتل، وكلّ الإرهاب، وكلّ التعذيب، وكل السجن، على أيدي هذه الجوقة الديكتاتورية، بقيادة بعثها وقائدها الأوحد صدام حسين.
للمرة الثانية، يرفض الطالباني التوقيع على حكم إعدام quot;قتَلَة العراقquot;، تحت هذه الحجة أو تلك. ففي المرة الأولى، لم يوقع على حكم إعدام صدام حسين، الذي لم يترك شبراً من العراق، إلا وسجّل في ذاكرته سجناً، أو تعذيباً، أو كيمياءً، أو إعداماً، بحجة أنه quot;من بين المحامين الذين وقعوا على التماس دولي ضد عقوبة الإعدام في العالم، وستكون مشكله بالنسبة له، لو أصدرت محاكم عراقية هذه العقوبةquot;!!!
ولا أدري، هنا، هل دولة الرئيس، يمثل قانوناً، وافق، أو أجمع عليها العراق الذي هو يترأسه، أم أنه يمثل quot;عريضةquot; قانونية، كquot;سفيرquot; للنوايا الحسنة، في منظمة من منظمات حقوق الإنسان، في العالم(وما أكثرها)؟
هل هو يمثل العراق الراهن بقانونه الراهن، أم أنه يمثل quot;عراقاً محتملاًquot;، وquot;قانوناً محتملاًquot;، وذلك بالتفافه السياسي على العراق وعلينا، تحت هذه الحجة أو تلك؟
أما هذه المرة، فهو يرفض التوقيع على الحكم، بquot;الدفاع المستترquot; عن سلطان هاشم، بحجة أن الحكم عليه كان quot;سياسياً أكثر من أن يكون قانونياًquot;.
الجانب الآخر من المسألة، حسب التصريحات اليومية لquot;مناهضي بعض الإعدامquot;، هو أن إعدام كلٍّ من هاشم سلطان و حسين رشيد(من وجهة نظر أمريكا والطالباني المتفق في هذه النقطة مع زعماء السنة) quot;سيؤثر سلبياً على العملية السياسية في العراق، وعلى جهود إعادة السنة إلى المشاركة فيهاquot;.
الطالباني، متحالفاً مع نائبه طارق الهاشمي، قال خلال مؤتمرٍ عقد في مدينة السليمانية: quot; أنا شخصياً لا أدعم قرار إعدام هاشم سلطان...quot; بحجة أن quot; كافة ضباط الجيش العراقي السابق، أُجبروا على المشاركة، وتحت تهديدات الموت، في العمليات العسكريةquot;.
هذا الرفض الرئاسي الفصيح، الذي يريد أن يقسّم الضالعين في جرائم الأنفال، الكيماويين الثلاثة، إلى مجرمين وأنصاف مجرمين، أو قتلة مدانين وأنصاف مدانين(وربما غداً أبرياء، طلقاء، لامدانين)، ذكرّني بوكيل الإرهابي كارلوس، والمدافع عن الضابط النازي كلاوس باربي، المدان بجرائم ضد الإنسانية، المحامي الفرنسي الأشهر، والقانوني البارع جاك فيرجيس الملقب بquot;محامي الإرهابquot; أو quot;محامي الشيطانquot;.
لا أدري، وبايّ قانونٍ أو حقٍ، يريد الطالباني (وهو الدارس للقانون)، أن يستثني هاشم سلطان(القائم على رأس وزارة الدفاع المهزومة) وحسين رشيد (الرجل الثاني في قيادة أركان الجيش السابق) من حكم قضيةٍ، كانت لهما، إلى جانب الرئيس وابن عمه الكيماوي علي حسن المجيد، ولquot;وزارة دفاعهمquot;، وquot;جيشهمquot;، اليد الطولى والأكيدة فيها(قصف المناطق المأهولة بالسكان، بالأسلحة الثقيلة والطائرات والكيمياء)، حسبما قالته المحكمة؟
هل يريد الرئيس ان يقول لضحايا الأنفال من أكراده، وسواهم من أبناء العراق المؤنفَل والمُباد، أن علي كيماوي هو مجرم، فيما هاشم سلطان وحسين رشيد هما quot;أنصاف مجرمينquot;؟
أليس الكل القائم على قيادة quot;العراق البعثي الكيميائي الصداميquot; آنذاك، كان (كل حسب طاقته، وكل حسب حاجته) شريكاً كثيراً، في قتل العراق وأنفلته، وسجن العراق وتعذيبه، وإبعاد العراق وتشريده، وإخراج العراق من العراق، وتجريده، ومسخه؟
لماذا هذه المساومة السياسية(الرئاسية) الرخيصة، بين الطالباني والمحسوبين على quot;سنتهquot;، على حساب دم العراق، ودم حلبجة، ودماء آلافٍ مؤلفةٍ، من المؤنفلين المقطوعين من كل الشجرة، الذين ينتظرون شحطة قلم، وشحطة توقيع، وشحطة موافقة، وشحطة تنازل عن الكرسي، من دولة الرئيس؟
لماذا هذا الإصرار من الرئيس، على تمثيل دور quot;محامي الشيطانquot;، بquot;الدفاعquot; عن موكلين، يعرفهم الرئيس جيداً، أن قضاياهم خاسرة، مفلسة، وغير عادلة، ناهيك عن إسهامهم المؤكد، في صناعة الجرائم، وصناعة القتل، وصناعة الحرب، ضد كلّ العراق، وجيرانه؟
لماذا هذا quot;البازار الرئاسيquot; على حساب مشاعر العراق الجريح في حروب هؤلاء الكيماويين، وquot;الشياطين المؤكدينquot;، ومهندسي الأنفالات، والحروب الخاسرة، والوزارات الخاسرة، والجيوش الخاسرة، والقضايا المفلسة الخاسرة؟
الظاهر، هو أن quot;نجاحquot; الرئيس في رفضه للتوقيع على quot;الحكم الأولquot;(حكم الديكتاتور السابق)، وquot;غروره الرئاسيquot; هو الذي دفعه، هذه المرة أيضاً، للقفز على جراح العراق(وجراح أكراده بالدرجة الأساس)، وإعادة ذات الرفض، وذات الدور في quot;الدفاعquot; عن quot;الشيطانquot;. وهو الدور الذي يذكّرنا بالممثل الأمريكي الشهير كيانو ريفيز، الذي قام بدور quot;المحامي المغرور الناجحquot;(كيفين لوماكس)، بالدفاع عن قضايا quot;مجرمين مؤكدينquot;، أو quot;شياطين مؤكدينquot;، كما في قضية المدير جون ميلتون(آل باتشينو)، الممثل لدور quot;الشيطانquot;، في فيلم quot;محامي الشيطانquot;.
الرئيس، كما تقول اللعبة الإنتخابية العراقية، منتخبٌ من شعب العراق(شمالاً ووسطاً وجنوباً)، ولا أظن، أن العراقَ، او لنقل الغالبية الساحقة من العراق(وفي مقدمتهم ضحايا المؤنفلين الأكراد، بآلافها الكثيرة)، راضٍ عن quot;دفاعquot; رئيسهم، quot;التكتيكيquot;، الضروري، والضامن لquot;كرسي الرئاسةquot;، عن أيادٍ مجرمة، تلطخت، إلى أن شاء ديكتاتورهم وبعثهم الفاشي، بدماء العراق وأهله، سنةً وشيعةً، وأكراداً، وسائر المكونات العراقية الأخرى.
بدون أدنى أي شك، إن عقوبة الإعدام، هي سلوك وحشي يساهم، ضمن إطار بروزة قانونية، بهذا الشكل أو ذاك، في صناعة ثقافة القتل(القتل العمد). وهي عقوبة أكثر من وحشية، وفيها أكثر من إشارة على أزمة العقل البشري(القانوني)، الذي أوصله إلى quot;قانونٍ مسدودٍquot;، يأكل به ووفقاً لشرعه، الإنسان أخيه الإنسان.
ولكن القانون، هو قانون. هو قانونٌ من الكلّ إلى الكلّ: قانونٌ بالكلّ، وللكلّ، وعلى الكلّ، ومن أجل الكلّ.
الأرجح، هو، أن دولة الرئيس مام جلال، كعادة بوصلته السياسية التي لا تستقر على شمالٍ، وكعادة سياسته القلاّبة، التي شاب عليها، إذ لا يستطيع أن يسبح في النهر السياسي الواحد مرتين، ولا أن يتخذ الموقف الواحد مرتين، الأرجح هو أن quot;رئيسنا القلاّبquot;، لا يتعاطى مع القضية، من هذا المنطلق quot;الإنساني الشفافquot;، بقدر ما يتعاطى معها، عبر quot;فلتر سياسيquot;، وذلك بتشطير الحق الواحد، إلى حق وشبيهه، أو حق ونصف حق، ومن ثم مواجهة الحق الواحد بأكثر من حق، والباطل الواحد بأباطيل.
والأرجح أيضاً، هو أنه يرفض التوقيع على عقوبة إعدام من يريدهم، ربما quot;أصدقاءً للأيام الآتيةquot;، لا لأنه يريد الإنتصار للعراق القانون، وإنما لأنه يريد الإنتصار للعراق الذات(ذاته)،كرسياً مستمراً، ومستغرقاً، في رئاسته، إلى ما يشاء الله.
هو، لا يوقع، على حكمٍ للإعدام، لا لكي يخرج العراق من quot;كتاب الإعدامquot;، ولا لكي يدخل العراق إلى quot;كتاب القانون العالميquot; المناهض لquot;القانون الوحشquot;(الإعدام)، وإنما لكي يدخل العراق، كعادته التي لا تستقر على كتابٍ، إلى أهواء quot;كتاب البازار السياسيquot;، ورياحه المتقلّبة، من أقصاه إلى أقصاه.
هوشنك بروكا
التعليقات