أعلنتُ قبل فترة عن زيف الادعاء بالصراع بين اقليم كُردستان وتركيا في بيان حمل مضمون العنوان اللذي ازعج بعلاً من الجانب الكُردي، وعليه لم يزدهم بياني إلا انكارا، واني كلما فتحت عليهم دلائل وبراهين، زادوا فوراناً ونفورا، واتهموا صاحب المقال كدأب آل الظلم والفساد عجزاً وتشهيرا.
القومية اعتكافاً وممارسة تتجلى في مفهومنا بانتماء ثقافي، وجمالية إنسانية على مستوى خلقي رفيع. انه امر جميل ان يكون الإنسان كُردياً. ولكن الجمال نفسه يظهر حين يكون الإنسان عربياً أو تركياً أو امازيغياً او فرنسياً او ما الى ذلك. والامر لا يدعو الى افتخار، فلم نختر نحن انتماءاتنا، بل هو ازدهار طبيعي لواهب الحياة في تنوع جميل.


الأمر في المنحى المذكور ليس كمثله في السياسة، وخصوصاً في منطقتنا بالشرق حيث المسألة القومية لم تزل ملتهبة.


مبدئياً حق الكُرد في تشكيل دولتهم الوطنية هو الحق نفسه للقوميات الأخرى منها مالكة دول وحكومات، ومنها راكضة وراء الحصول عليها. ولكن إذا اخذنا الأمر كصراع بين الكُرد والقوميات المجاورة لهم، يأخذنا الكسل، بالتعويل على المتوارد والتقليد، والتبسيط في التفكير الى اقتناء مفهومات جاهزة ازاء القضية القومية تشبه في الصورة النهائية كجرّ الحبل بين فريقين.
إذا سلّمنا ان الدولة القومية تعني التحرر من الظلم والعدوان، وذلك نسبياً واقع، فان ذلك يقضي بتلزيم الحدوث رخاء الناس وسعادتهم.


لا بأس في البيان، ولكن لجماً للغو، واجتناباً للشطط البحثي والجدلي، لن نثير السؤال عن مدى سعادة الفرد التركي داخل دولته القومية، او العربي داخل دوله القومية او الفارسي على شاكلتهما. بل نطرح في تسليمنا ذاك ولزوم القومية في سرجها للسعادة الى ابنائها، مغزى معاناة الكُرد وعذاباتهم في ظل حكومتهم القومية باقليم كُردستان المشارفة على عقدها الثالث بعد نيف وعامين.
منذ ولادة هذا الكيان اللذي واجه انكاراً مليئاً بالجبن وعقدة النقص والرفض الهيستيري من قبل الدول الاقليمية/القومية لدول الطوق الرباعي، يعاني الكُردي باستمرار الظلم والعدوان بيد مسئولين وحكام أكراد لا غيرهم.


الحكام والمسئولون الأكراد يتمتعون قبل وبعد ولادة الاقليم كحكومة، بعلاقات لوجستية ونفعية واستراتيجية واسعة مع مراكز الدول الاقليمية/القومية المفترض كونها عدوة ورافضة للوجود الكُردي.
قواد الأكراد يملكون ما لا يمكن عده واحصائه من مصالح واملاك في ايران وسوريا وتركيا، فضلاً عن الغرب. هناك حسب اقرار رئاسة الوزراء الكُردية وجود اكثر من خمسمائة شركة تركية في الاقليم، فضلاً عن شبكات تجسس للمخابرات التركية داخل اجهزة الاقليم اقرّ بحقيقتها احد الساسة المشهورين في كُردستان، السيد نوشيروان امين، في جلسة خاصة حضرها كاتب هذه السطور.


اذا كان الصراع القومي كما هو مشاع لدى الطبقات الدنيا اللتي تدنو من الطبقات الحاكمة امراً حقيقياً، فان وجود المصالح بين قادة اكراد وقادة اتراك يصبح في كينونة المستحيلات. وعليه فان الوجودين اللابسين للهويتين المتضادتين ينكسران على مواجهة ثنائية في مباراة حاسمة لا تقبل التعادل إلا بفصل الفريقين الى ضفتين لا يجمعهما إلا الافتراق والابتعاد.


ولكن من الجري السلطوي للقومية الكُردية في ظل حكم قومي، يضطهد أكراده، نستشف العلل ونفتح كنوز الاجوبة والبيان في وضوح وصفاء. فالحكم الاقليمي الكُردستاني القومي هو رديف الحكم الاقليمي القومي العربي والتركي، يعتاش على القومية ظاهراً ويعمل بمفاهيمها، ويدمرها باطناً بجهد حثيث وغير مبال بارضية القومية ودائرتها ومصيرها. منذ ما يقارب عقدين والسلطة الكُردية تنهش لحم القومية الكُردية وكتفها، حداً قطع ما كان يتعرض له الكُرد على يد القوميات المضادة، في الصراعات اللتي فسرت بمحتواها المزيف.


القيادة الكُردية اللتي تتمتع بعلاقات متينة بالقيادة التركية، تجارة واقتصاداً ومصلحة تخبرنا هي والقيادة التركية وجود صراع ثنائي لا يزيدنا نحن ابناء القوميتين، قبل الصراع وبعده إلا فقراً وبؤسا. نعم هناك صراع معين لم يفض الى مخرج في سبيل، لكنه ليس متجوهراً في المحمل المراد له من قبل قيادة الفريقين.
فلو كانت القيادة الكُردية تصبو الى اقامة دولة قومية كان عليها ان تسرع في جرّ الجيش التركي الى داخل الاقليم، جرّاً كان من شأنه تحويل تركيا الى يوغسلافيا ثانية او عراق آخر. فالاجتياح على النحو اللذي قيل، كان مرفوضاً على الصعيد الدولي رفضاً قاطعاً. وكان من شأنه انهاك الاقتصاد التركي ودفعه نحو جرف هار. وفوق هذا وذاك كان الامر قاب قوسين او ادنى من تدويل القضية القومية الكُردية في اقليم كُردستان بتركيا على غرار ما حدث في العراق.


لكن قادة الأكراد في العراق اللذين ضحوا كما كانوا بمكنونات القومية، دفعاً للاجتياح ومنعه، لم يكن موقفهم خوفاً من مكتسبات الشعب الكُردي والسهر على راحته، بل الارتعاد من انقلاب الموازين ضدهم وضد مصالحهم. فالشعب الكُردي منذ عقدين تقريباً يعاني الحرمان والظلم ناهيك عن وجود مكتسبات وهمية. ولو ان السياسة فن الممكن فضلاً اذا كانت تنطلق من اجل مصالح قومية استراتيجية، كان الفصل في اتيان الحدث فرضاً ووجوبا هو فتح المجال امام العسكر التركي اجتياح الاقليم وليس منعه. ولكن، ولكن ليس من اهتمامات قواد الأكراد المصالح القومية العليا للشعب الكُردي فضلاً عن عجزها وافتقارها لفهم السياسة، بل واكتساب ثقافة تؤهلهم استيعاب الأحداث ومعاملتها.


والسبب الرئيس في ذلك هو الزيف في الدعوة القومية اللتي ليست سوى متجر كبير يدرر الدولار والرفاه الشخصي، على هذا النطاق وذاك، ولو كان الجوع والمعاناة والعذاب تفتك بالطبقات الدنيا كما فتكت الكوليرا بها قبل فترة لم تزل بعد تعاني آلام المرض.


وعليه فان السلطة الكُردية بعثت بوفد سياسي ( اشبه بوفد عبدالمطلب لدى ابرهة طالباً ابله) تاركاً امر الشعب الكُردي في شمال كُردستان لرب يحميهم، وشعب كُردي في الجنوب لسلطة كُردية تتولى أمر تذليلهم وافقارهم ودفعهم الى اجتياح الغرب لاجئين على متن العبّارات والشاحنات والطائرات خلسةً، من اجل لقمة العيش.
وخلسةً تجتاح دولارات السلطة وهي فردية/عائلية/ قبلية (على غرار اقوام الجوار) دول الغرب نفسها لتستقر في البنوك، ويدير جزء منها مطاحن دولنا القومية/الاقليمية: ضحاياها الفقراء والمساكين. وفي الجانب التركي هناك عوامل ووقائع مماثلة لما يحدث باسم القومية الكُردية، في هلوسة قومية أخرى على مدار قرن بتركيا حزين.


لكن السذاجة الكُردية المشتركة بين قواد الأكراد والشعب الكُردي، أولئك لفقر ثقافي وانشداد نحو الشهوة والطغيان الشخصي، وهؤلاء لانعدام الحياة فيهم ولهم، تفتح المجال طويلاً امام اجتياح اضخم وهو استمرار المعاناة والعذاب طويلا في تلك المنطقة الحزينة.


واللبس والالتباس في القومية التركية وهي سبّاقة في الزيف في شرقنا، ينطلق قوادها في انفاق السياسة اللتي ايأست المجتمع التركي تصويغ شأن مستقر فيها للوطن والمواطنة. فلو ان قواد الاتراك يهمّون بالقضاء على حزب العمال الكُردستاني، والقضاء عليه ليس من طاقة دول الطوق الرباعي، لبادروا اولاً القضاء على مؤسسيه اوجلان اللذي يسكن سجنهم ويدير حزبه وقضيته، بل وعلى رأي صحافي تركي مشهور محمد علي بيراند، يدير اوجلان شؤون تركيا ايضا.


هذا لو لم نفتح سجلات قواد تركيا المشهورين اللذين دفعوا الجزية لحزب العمال عن يد وهم صاغرون. فديميريل، يلماز، تشيللر، اربكان فضلاً عن جنرالات تركية من اصحاب التجارة والارباح دفعت للحزب المذكور مبالغ من وزن الفيل.


والامر حتماً كان مقروناً بالخوف والوعيد، وهو ما يدفع اصحاب التجارة الاتراك في اوروبا دفع الضرائب دون تردد اتباعاً لأئمتهم القواد القوميين. وإذا كانت تركيا عاجزة عن تنفيذ حكم الاعدام بحق اوجلان خوفاً، فكيف تتدعي انها تذهب بجيشها الى جبال كُردستان (لم تستطع قوة في التاريخ السيطرة عليها) للقضاء على مقاتلي حزب العمال المتمرسين وذوي البأس الشديد؟! إذن القضية ليست كما فسرت في ظاهرها اعلامياً. هناك ابعاد داخلية وخارجية كثيرة للهلوسة المشتركة بين الجانبين، كنا اشرنا اليها في مقال سابق بعنوان تركيا على محك الانتحار والمجهول.


ولكن لماذا يفعل بنا قواد الجانبين وقواد دول الشرق كل هذه المحن والمصائب؟
البساطة تنطق في بيان ووضوح ان رفاهيتهم لا تقوم إلا على سذاجتنا نحن الشعوب وعصبياتنا وعنصرياتنا الفارغة. وفي الحدث الأخير خرج الأتراك اغبياء ولكن بوزن اثقل جيرانهم من الأكراد، في سبب مشترك جعل قواده يبتسمون في قصورهم وهم يتنعمون بالرفاه الممنوع شعبياً.

علي سيريني