ونحن نعيش أجواء يوم الشرطة في عدد من الدول العربية، من اللازم ونحن نتقدم بالتهنئة لكل مخلص فيها أن نستعرض طبيعة العلاقة بين الشرطة ومواطنيها ومدى التطور الذي لحق بفلسفة العمل الأمني وذلك من خلال النقاط التالية التي تدور في فلك موضوعنا هذا:
بدايةً فإن جهاز الشرطة يسعي جاهداً للحاق بركب التطور العلمي من حيث التسليح وتكوين شبكة معلومات متصلة بالحاسبات الإلكترونية، مع رفع المستوي المعيشي والتدريبي والثقافي لأفراد الشرطة. لكن مع ارتفاع نسبة الأمية وانخفاض مستوي المعيشة فإن العديد من رجالها لا يمكن استيعابه في التكنولوجيا المتقدمة أو البرامج التدريبية، وبالتالي فإن القاعدة المتوفرة فعلاً والقادرة علي استخدام أحدث ما وصل إليه العلم ستتركز في غالبية الضباط وبعض الأمناء، وهم عددياً قلة. ونتيجة لمركزية نظامنا السياسي والحكومي ستتجمع أو quot;تتكومquot; كل الأنشطة المتقدمة علمياً في القاهرة. ومعني ذلك أن سائر المحافظات خاصة في الوجه القبلي ستكون بعيدة عن أي تكنولوجيا حديثة من حيث الأفراد والأجهزة مع عدم وجود البنية التحتية الملائمة لاستخدام شبكات المعلومات، وأهم أسسها شبكة تليفونات حديثة وقادرة.
كانت الشرطة، فيما سبق تاريخياً، وسيلة الحاكم للقضاء علي معارضيه. ويذكرنا تاريخ الخلافات الأموية والعباسية والفاطمية والمملوكية والعثمانية بالزنزانات في الأقبية وبتعذيب المعارضين وتجويعهم حتي لو كانوا من صفوة العلماء. وقد استمر حتي الآن بمنطقتنا هذا النهج العتيق، وبه تدين العديد من الأنظمة بحياتها لجهاز الشرطة. لذا فمن المنطقي أن تنعزل الشرطة عن الشعب باعتبارها وسيلة قمع وليست جهاز أمني، وهو ما لابد أن يؤدي لاستشراء العنف والفساد؛ فالشرطة قد حادت أو أبعدت عن وظيفتها الحقيقية وتفرغت لوظيفة أخري، حماية الحاكم والاصطفاف له. لكن العجيب أن تلك الفلسفة المنقرضة لم تجد أساساً لها في مجتمعات أخري ليست ببعيدة مكانياً أو اجتماعياً عن الأنظمة العربية.
ففي أسيا وأوروبا الشرقية، لم تنقلب الشرطة علي مواطنيها ولم تصوب بنادقها نحوهم، بل التزمت الحياد، فالوطن هناك لا يملكه حاكم، وتم بالفعل تغيير الأنظمة السياسية بدون الانقلابات العسكرية التقليدية وبدون أن تلطخ سمعة الشرطة أو الجيش بدماء المواطنين. من المؤكد أن هذه التطورات تعكس في المقام الأول وعياً راقياً لدى جهاز الشرطة خرج به من أسر الحاكم إلي عالم المواطنة.
لا تزال الخلقية البيئية والثقافية في تركيبة رجال الشرطة عندنا تحتاج لتعديل. فمن الواضح أن تعاملهم مع quot;مواطنيهمquot; يتسم بفظاظة وتعال، يزيدان من الفجوة بين جهاز الشرطة والمواطنين، وهو ما يضر بجهاز الشرطة في المقام الأول؛ فبدون تعاون المواطن لا يمكن أن يكون هناك أي إنجاز أمني. هذه الفجوة، هي ميراث تاريخي ناتج عن الفلسفة المنقرضة التي تعرضنا لها في النقطة السابقة؛ والتي كانت تقوم علي اعتبار الشرطة جهازاً في يد الحاكم للقمع لا للحفاظ علي الأمن. يجب أن يكون أسلوب معاملة المواطن بعيداً عن الفظاظة لفظاً وفعلاً، فمن الضروري عدم إغفال أن مخاطبة ضابط شرطة ولو كان متواضع الرتبة أو حتي أحد أمنائها مغامرة قد تخرج عن السيطرة؛ فلم نصل بعد إلي مرتبة الحفاظ علي كرامة المواطن بما يمنع التعدي عليه بدنياً أو بتلفيق تهمة أو بلفظ جارح. ألا يؤكد ذلك الرأي مقتل بعض المواطنين برصاص الشرطة خلال انتخابات مجلس الشعب الأخيرة دون مساءلة من أصدر الأوامر بذلك؟
مجندو الشرطة، مناظرهم رثة، الجوع يغلب عليهم، يلقون معاملة لا إنسانية في جهاز الشرطة ومن المواطنين. يتركون في الشوارع لساعات طوال بلا واق من مطر أو ريح، شمس أو قيظ، سحابة سوداء أو شبورة. وظيفتهم من لوازم الديكور بلا هَش و لا نَش. صورتهم غير حضارية، تُذكر بعصور السخرة وتؤكد أنها لا تزال موجودة علي الرغم من المواثيق الدولية التي تم التوقيع عليها. يُنادون من رؤسائهم quot;روح يا ولةquot; quot;تعالي يا زفتquot; مع استخدامهم في أحيان عدة بدلاً من خدم المنازل، أما إذا أراد مواطن تجربة شخصيته المريضة فليس أمامه سوي هؤلاء المساكين.
ممارسات بعض رجال الشرطة، خاصة من المساعدين والأمناء تفتقر إلي التعفف والوعي. يمدون أيديهم بلا خجل أو يفرضون إتاوات بلا وازع. مجالهم الرحب المواطن البسيط الذي لا يعرف حقوقه، وسائقي الأجرة والنقل. من السهل عليهم المتاجرة بما تحت أيديهم من ملفات أو أوراق أو حتي ذخيرة. شق أساسي في ضعف أدائهم يرجع إلي انخفاض المستوي المعيشي الذي أصاب المجتمع المصري، فألحق الضرر بالعديد من أنشطته الحساسة ومن بينها جهاز الشرطة.
لا يزال جهاز الشرطة مصدراً للعديد من المخالفات التي يقوم بمعاقبة المواطن علي ارتكابها، فسيارات الشرطة كثيراً ما تتجاوز السرعة المحددة قانوناً، تسير عكس الاتجاه، تستخدم للأغراض المنزلية وتوصيل الأبناء للمدارس، تعلق ملصقات دينية. الثقة المطلوبة بين الشعب وجهاز الشرطة تكون بإزالة تلك المخالفات، حتي لا يكون للقانون وجهان، وجه شرس مكفهر للمواطن العادي وآخر خجول أحمر الوجنات لرجال الشرطة وكبار المسئولين في الدولة!!
يتحمل جهاز الشرطة وحده عبء إخفاق العديد من سياسات الدولة وأجهزتها. فلا يوجد سوي الحل الأمني إذا ثار التوتر نتيجة لتأخر صرف مرتبات أو حوافز، أو لإغلاق مصنع، أو بسبب إزالة عقار، أو لمواجهة عمليات إرهابية أفرزتها الأوضاع الاقتصادية المتردية. مهام يعتبرها المواطن سيئة السمعة، تنحي بجهاز الشرطة عن الحفاظ علي أمنه إلي مجرد حماية نظام الحكم.
واجهة الشرطة أمام الإعلام بحاجة لمراجعة شاملة، فهي تسئ لأي مجهود مخلص بتشنجها وتوزيعها الاتهامات علي محاوريها ودفاعها الباطل عن تجاوزات بعض رجال الشرطة. غياب المنطق أمام الإعلام، أمام الناس، هو إفلاس الحجة وتأكيد عزلة جهاز الشرطة عن شعبه، ملاذه الوحيد ولو نسي.
من الأساسي ألا تكون فلسفة الحكم جهاز شرطة قوي لإرهاب الشعب، وجيش ضعيف لا يخيف الشرطة؛ ومن الحيوي ألا يقطع أي مواطن إصبع له إذا خشية أن يكون ضابطاً بالشرطة. متي تنتهي، رمزاً كانت أو حقيقة، العلاقة الأزلية بين قفا الإنسان المصري ويد رجل الشرطة الغليظة القشِفة؟ كل عام ومصر كلها بخير، ومع كل التمنيات الطيبة لأفراد الشرطة الذين يجافيهم دفء النوم حتي في فراشهم، الذين تسهر عيونهم والكل نيام، الذين يقفون شامخين في القيظ والزمهرير وفي مواجهة عواصف الرمال والأمطار.
ا.د. حسام محمود أحمد فهمي
التعليقات