كيف نفكر؟

في الحقيقة كنت أتجنب الخوض في تفاصيل تلك المرحلة المأساوية من حياة شعبنا السوري الذي طاله قمع تلك المرحلة بكل مكوناته ومدنه وقراه، وفي كل مرة تمر ذكرى تلك الأحداث الأليمة أجد أن الكثير من الكتاب السوريين يكتبون ويعيدون إلى أذهاننا صورا من تلك المأساة. بعيدا عما يتحيه الإعلام في هذه المرحلة من نشر لكل من يريد الكتابة عن تلك المرحلة السوداوية. وبعيدا عن الدعوات لتشكيل محاكم من أجل محاكمة الجناة كما يدعو الكثير من فصائل المعارضة السورية وكتابها. أجد لزاما علينا أن نعيد التفكير في تلك الأحداث وفق سياق له حساسيته الخاصة. والذي هو سياق تفجر الوعي الطائفي في المنطقة والذي كتبنا عنه الكثير كمهتمين بهذا الشأن وككتاب وصحفيين.

لا يمكن لنا استعادة حدث تاريخي ما دون أن يكون محمولا على سياق الراهن بكل تفاصيله. والراهن الآن على ما يبدو لم يؤثر فينا كثيرا لجهة تعديل التفكير نحو البحث عن طرائق تخدم العملية الديمقراطية في سورية! لأننا نلمس في الحقيقة روحا خطابية تريد محاكمة المسؤولين عن تلك المجزرة؟ ربما تيمنا بمحاكمة الدجيل التي أودت بعنق الطاغية صدام حسين أو تيمنا بأفق انفتح على أثر تحرير العراق! أو دخولا بعد أن أقر مجلس الأمن محكمة دولية لمحاكمة الجناة في الاغتيالات اللبنانية؟ وهذا المطلب الذي يبدو أنه حق مشروع تماما من الزاوية الحقوقية والإنسانية إلا أنه يجب التفكير فيه وفق جدواه السياسية في هذه المرحلة الحساسة من تاريخ سورية والمنطقة عموما. لأنك عندما تطالب بمحاكمة كهذه إنما تطالب بمحاكمة عصر بكامله. وهذا ليس مستبعدا في التاريخ ولكنه ليس الآن هدفا مباشرا لنا كمعارضة سورية. بل نجد أن ما ميز حكم البعث في سورية والعراق هو قضية بدأت مع وصول عسكره إلى السلطة، وهذا جر معه سلسلة من المجازر الفردية والجماعية، وليس أولها بالطبع هي قيام الرفيقان: حافظ الأسد وصدام حسين إما بإعدام رفاق طريقهما نحو السلطة ـ محمد عمران في سورية حيث تم اغتياله في لبنان ـ أو بالزج بهم في السجون حتى مات قسم منهم هناك صلاح جديد نور الدين الاتاسي..الخ وهذا إن دل فهو يدل على أن المجازر بدأت بحق الشعبين العراقي والسوري منذ لحظة وصول عسكر البعث إلى السلطة. وبالتالي الحديث عن هذا التاريخ مليء بالدم وهو ما يجب أن يجعلنا نقف أمام ذاكرتنا قليلا ونعيد صياغة مشروعها وفق متطلبات اللحظة السورية الراهنة والمستقبلية. من يعوضنا نحن الذين أبقانا نظام الأسد عشرات السنين في المعتقلات؟ وهؤلاء ليسوا قلة بل هم يعدون بعشرات الألوف من الشعب السوري ومن كل أحزابه ومكوناته. ومع ذلك غالبية هؤلاء قالوا عفى الله عما مضى فيما لو انتقلت سورية نحو أفق المصالحة الوطنية والديمقراطية. ولكن النظام السوري بقي مصرا على لغة العنف والتحدي المفرط باستخدام القمع والعنف بحق الشعب السوري حتى هذه اللحظة ـ وانتفاضة شعبنا الكردي آذار 2004 تؤكد على طريقة تفكير السلطة والقائمين عليها، والقمع المستمر بحجج شتى لناشطي المعارضة وحقوق الإنسان. إن سورية يمكن كتابة تاريخها من خلال كتابة تاريخ السجون في سورية. ولو كان لجدران السجون قدرة على الكتابة لما استطاع أي إعلام استيعاب ما سوف تقوله أو تكتبه هذه الجدران اللعينة التي لا تستطيع النطق أبدا. نحن محكومون بالعض على الجراح من أجل مستقبل سورية ومستقبل أطفالها. محكومون بأن لا نعيد ثقافة السلطة إلى الحياة السياسية السورية. من تحاكم إذا كان المسؤول المباشر عن كل تلك المرحلة قد مات؟ مات رغم تركته التي لازالت ثقيلة على قلب الشعب السوري. وهذه التركة يبدو أنها لم تتعلم من التاريخ والأكثر خوفا أنها لن تتعلم أبدا ـ مقابلات السيد الرئيس بشار الأسد الأخيرة ينفي وجود معتقلي رأي في سجونه بل مجرمين: لقد تحول عارف دليلة وميشيل كيلو وفائق المير وأنور البني والقائمة طويلة إلى مجرمين؟! إزاء هذه اللغة السلطوية يجب أن نعيد الاعتبار لثقافة التسامح، وحتى لو أجزنا الحق بالدعوة لمحاكمات فلكي تكون لإعادة الاعتبار للضحايا وليس للثأر من الجناة. ومن يجري مسحا لما يجري وجرى في سورية يجد أن أكثرية الشعب السوري هم ضحايا. ضحايا النهب والتمييز السلطوي والإفقار المتعمد وإدخاله في مصير مجهول.
هل علينا قطف العنب أم قتل الناطور؟ نريدسورية ديمقراطية أم نريد محاكمة الماضي المعقد والدموي؟
إنه سؤال في الحقيقة يعبر عن مأزق أخلاقي وقيمي تعيشه سورية في محنتها؟ سؤال علينا أن نقف جميعا؟

غسان المفلح