فاجأني الصديق الأستاذ ( نزار جاف ) الكتاب الكردي المعروف برسالة إلكترونية يطلب فيها إجراء حوار متنوع معي، مخصص للإعلام الكردي عبر صحيفة كوردستان ريبورت التي تصدر في أربيل العراق، لبيت طلبته شاكراً وممتنناً له وللصحيفة المذكورة، وقد ترجم الحوار إلى اللغة الكردية وتم نشره في الصحيفة بتاريخ 11 / 3 / 2007، وهذه هي الحلقة الأولى من الحوار..
* الصراع الدائر في المنطقة بين النظم السياسية على تبايناتها من جهة، و التيارات الدينية المتطرفة من جهة أخرى، هو صراع قد لا يتسم بالحسم، ذلك أن النظم الرسمية هي الأخرى تتعاطى الخطاب الديني في أجندتها المختلفة، في هذا الخضم کيف تقرؤون هذا الصراع و کيف تنظرون لمستقبله؟
- ربما في هذا الصدد علينا أن نستحضر قولاً صريحاً للمفكر الراحل ( سلامة موسى ) إذ يقول : أسوء ما تصاب به أن يتحد الدين مع الاستبداد وأن يتحالف الطغاة مع الكهنة بحيث يستند الدين إلى قوة البوليس ويستند الاستبداد الى أساطير الدين..
ليس هناك أسوء في تاريخ منطقتنا من تحالف قوى الفكر الأصولي الديني مع الاستبداد السياسي، وهذا التحالف تمثل في العديد من الأقطار العربية وغير العربية وفي النهاية كانت الشعوب هي مَن تدفع ثمن هذا التحالف السياسي الحكومي الديني، ولكي تكون الأنظمة حاكمة باسم الله في الأرض لا تحتاج إلا إلى مباركة من تيارات التخلف الديني، ولكي تستحوذ تيارات التخلف الديني على الأخضر واليابس لا تحتاج إلا إلى الدعم المالي والسياسي والإعلامي من الأنظمة وأن تتغاضى عن هيمنتها الكاملة على كل شيء في البلاد، ففي الكويت مثلاً ومنذ الثمانينات من القرن الماضي والتحالف الديني الأصولي مع الحكومة قائم والشعب الكويتي عليه أن يدفع ثمن هذا التحالف، كما هو الحال أيضاً في بقية دول الخليج الأخرى وفي السودان كان التحالف قوياً بين حكومة البشير والترابي، وفي مصر السادات كان التحالف بين الحكومة والأخوان المسلمين كالسمن على العسل، وفي ايران فلا يخفى على أحدٍ مدى الارتباط والتحالف القائم بين النظام و الملالي حتى أنكَ تجد صعوبة في التفريق بينهما، ولذلك أسفر هذا التحالف والذي امتد لعقود طويلة بين التيار الديني والنظام السياسي عن هيمنة كبيرة لتيارات التخلف الديني على المجتمع وأصبح يتواجد في أكثر من مرفق مهم في الدولة واستطاع أن يتخذ له مواقع اعلامية وثقافية من خلال المؤسسات الدينية التي أنشأها برعاية الحكومة، ولم يكن مستغرباً والحالة هذه أن تجد الحكومات في الخطاب الديني رئتها السياسية التي تتنفس بها وتخرج بها إلى الناس، ولكن بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر الإرهابية، حصل تغيير جزئي في تعامل الحكومات مع التيارات الدينية ولكن بمستويات متباينة اختلفت من دولة إلى أخرى، وأصبحت بعض الأنظمة تدرك مدى تعاظم الدور الثقافي والسياسي للتيارات الدينية إلى درجة إنها أحست أي الأنظمة أن عمل التيارات الدينية أصبح يهدد نظامها السياسي، فكان أن لجأت الأنظمة إلى محاصرة تلك التيارات وتشديد الرقابة عليها ومتابعة أعمالها، وكان للضغوط الدولية أثراً في تغيير الأنطمة من تعاملها مع تيارات التطرف الديني، وفي المقابل حصل نوع من التغيير في ستراتيجية عمل تيارات الإسلام السياسي، حيث إنها رأت وخاصة بعد تفجيرات نيويورك الشهيرة أن إقامة الخلافة الإسلامية وهلاك الشيطان الأكبر في واشنطن إنما يتم أولاً عن طريق تقويض الأنطمة المحلية، ولذلك نشطت عمليات الإرهاب الديني التفجيري في أكثر من منطقة في الخليج وفي باقي دول المنطقة العربية وكان الهدف من ورائها مرحلياً زعزعة الأمن في تلك الدول لمحاولة الاستيلاء على السلطة، وكل مَن يرى أن أجندة تيارات الإسلام السياسي إنما تقوم على تحرير القدس مثلاً أو محاربة أمريكا، فهو واهم، وذلك لأن تلك التيارات من خلال أدبياتها الدينية ومن خلال أجندتها السياسية تؤمن بأنها مسؤولة مسؤولية كبرى عن إقامة الخلافة الاسلامية، وعلينا أن نعترف بحقيقة ليست خافية على أحد تتمثل في أن التيارات الدينية في كل البلاد العربية والإسلامية تحظى بتأييد وتعاطف كبير من المجتمعات العربية والإسلامية، وإلا ما معنى أن يحتشد الكثيرون من أبناء الدول العربية والاسلامية خلف الشعارات التي يرفعها التيار الديني في كل مكان، ويتحولون إلى أداة فاعلة بيد التيارات الدينية ومنفذين بالتالي لبرامجها في التخريب والتفجير واشاعة ثقافة الكراهية والموت وغير ذلك، وبالطبع هناك أكثر من سبب في تعاطف الشعوب مع تيارات التخلف الديني، منها ما هو مرتبط بالتكوين الثقافي الوراثي الديني الذي تكون عليه عادة المجتمعات الاسلامية، ومنها ما هو مرتبط بتسيد الأيديولوجية الدينية الأصولية من خلال انتشارها في الأوساط المجتمعية وخاصة بعد أن تهاوت الأيديولوجية القومية العربية، وبالطبع هناك ربما سبب آخر يرتبط بحالة اليأس من الأنظمة العربية التقليدية فيصبح من الطبيعي أن تجد الشعوب المنهزمة اليائسة أملها في التيار الديني، وعليهِ ربما قد نجد أن هناك صراعاً أخذ يتشكل في الأعوام الأخيرة بين الحكومات من جهة وبين تيارات التطرف الديني من جهة أخرى، ولكن لنكن صريحين ونعترف أن هذا الصراع لم تحسمه السلطات العربية والاسلامية إلى الآن، وذلك أولاً لصعوبة القضاء على تيارات التطرف الديني المنتشرة بقوة واتساع في تلك المجتمعات وثانياً لعدم جدية الحكومات في التصدي لتلك التيارات وثالثاً الاستفادة من وجود التيارات الدينية لخلق توازنات سياسية معينة تكون السلطة السياسية الحاكمة بحاجة لها ورابعاً تفضيل الحكومات البقاء على حالة المهادنة والتمصلح السياسي مع التيار الديني، وخامساً الطبيعة الحرباوية التي يكون عليها التيار الديني السياسي عادةً من خلال تغيير قناعتاته السياسية من مرحلة إلى أخرى حسب ما تمليه عليه مصالحها السياسية وخاصة إذا كان للتيار الديني تواجد مكثف في الأجهزة الحكومية وفي البرلمان، وبالطبع هناك أسباباً أخرى تجعل من الصراع بين الحكومات والتيارات الدينية تأخذ طابعاً هشاً وهزيلاً ويتسم بالميوعة وعدم الجدية، ولذلك أجد أن مستقبل هذا الصراع يجب أن تحسمه الثقافة الليبرالية والعلمانية والمنفتحة في المجتمعات من خلال التأكيد المستمر على ضرورة فصل الدين عن السياسة وتوعية الناس بضرورة الرجوع للقيم الإنسانية وبث ثقافة حقوق الانسان والحريات وثقافة الديموقراطية، والعمل على تغيير المناهج التعليمية والتي أجد إنها السبب الأساس في انتشار ثقافة الكراهية والعنف، فبدون تغيير واصلاح المناهج التعليمية لن يكون هناك اصلاح ثقافي واجتماعي وسياسي..
* الاصلاح الذاتي أو الاصلاح على الطريقة العربية، والاصلاح الامريکي المشهور کسيف ديموقليس على نظم المنطقة، کلاهما قد لا يکونان قريبي المنال، هل من طريق ثالث؟
- لا أعتقد أن هناك حديثاً أخذ جانباً كبيراً من الجدال والتساؤلات والاستفهامات في العالم العربي والإسلامي كالحديث عن الإصلاح، وتحول الحديث عن الإصلاح والإصلاحات في مجتماعتنا ووسائل الإعلام إلى جدل عقيم ومناقشات تشنجية محتقنة، تحولت في معظم الأحيان إلى اعتلالات مرضية ذهنية وثقافية استوطنت تلافيف العقلية الإسلامية، وأصبح كل مَن يدعو إلى ضرورة تبني الإصلاحات يُتهم لا محالة بالتخوين والعمالة والتغريب وقائمة طويلة من التهم التي لا حصر لها، وراح معظم المتحدثين من الكتّاب العرب والمسلمين وعامة الشعوب الإسلامية يلقون بتبعات التخلف والأوضاع المأساوية وثقافات الكراهية ومظاهر العنف والتفجير على الظروف أو على استعماريات الأجنبي للمنطقة في العقود الماضية أوعلى محاولات ( الآخر ) المستمرة لغرق الأمة الإسلامية في متاهات الفساد والميوعة والعولمة والضياع.. ولم يتوجهوا أبداً إلى نقد الداخل وتفكيك المفاهيم التراثية والدينية والتخلص من استبداد أبوية المرجعيات التاريخية وصنميات ثقافة الرمز، ومحاولة فهم العالم من حولهم بطريقة عقلانية ومنهجية، وتغافلوا متعمدين عن فهم تطورات العالم المعاصر، بل ازدادوا تمسكاً بأبجديات الخطاب الماضوي المتشنج وبالشعارات اللاهبة للحماس الديني الفارغ وبالحماسات العروبية القومية، ولم يكتفوا بهذا الحد بل اتجهوا إلى الالتفاف على المشكلات الداخلية بالحديث المراهق عن الاحتلالات الأمريكية للعراق وأفغانستان، والوقوف بدون حياء أو خجل حتى من الضمير الإنساني المتوجع من أعمال العنف والتفجير مع عتاة الإرهاب الديني ودعاة التفجير والقتل والعنف، ولم يتعلموا شيئاً من درس التاريخ من حيث أن الأمة التي لا تحاول أن تبحث عن أسباب مشكلاتها بنفسها ولا تستشعر أزماتها الداخلية وخطورتها، أمة تعيسة وستعاود الخطأ في كل مرة وتبرر فشلها دائماً بأعذار قبيحة وأوهام مريضة وأقاويل ساذجة، وأخذوا يتباكون على القيم الإنسانية المهدورة هنا وهناك، بينما في واقع الحال إننا وعبر أفعالنا البربرية والهمجية واللاخلاقية الفاقدة لقيم الإنسانية تعاملنا مع العالم والشعوب من حولنا، ومن الغرابة أن أكثر شعوبنا العربية والإسلامية واقعة تحت قبضة الإستبداد الديني والسياسي والثقافي ولكنها لا تتألم أو تتوجع من هذا الوباء الفتاك، والأدهى إنها تنادي بالحريات وهي راضية بالاستبداد الداخلي وربما مستمتعة به، والأنكى أن المسلم حينما ينادي بالحرية فأنه في المقابل لا يريدها لغيره أو يستكثرها على أحد سواه ولا يطيق أن يجدها عند غيره، وأكثر الأقوال سذاجةً في هذا الشأن ما تتناقله باستمرار التيارات القومية والإسلامية عن أن الإصلاح ليس الهدف منه سوى تذويب هوية الأمة والتطاول على مقدساتها الدينية والتراثية، وتناسوا حقيقة واضحة وهي أن محاولات الإصلاح في عالمنا المنكوب بالتخلف والعاهات كانت قد بدأت من الداخل وليس من الخارج مع رواد النهضة والتغيير في الربع الثاني من القرن التاسع عشر على يد محمد عبده والأفغاني والطهطاوي وغيرهم حينما استشعروا فداحة الفجوة التي تفصلنا عن العالم الحديث والمتطور، طبعاً مع الأخذ بالاعتبار بأن الدعوات الإصلاحية التي دعى إليها أولئك الإصلاحيون كانت تعاني من خلل واضح في بعض جوانبها من حيث إنها روجت لمفهوم عقيم يجد أن الغرب تطور وتقدم لأنه قلّد المسلمين وسار على نهجهم وهو كلام ينطلق من آفة مزمنة لا نزال نعاني منها ومتجذرة في ثقافتنا تعتمد على تقديس الذات الإسلامية وتنزيهها عن الخطأ والتقليل من قدرات الآخرين وانتاجاتهم المعرفية والحضارية، وبالإضافة إلى ذلك كانت محاولات الإصلاحيين الأوائل تنطلق من آفاق ضيقة ومحصورة في الأغلب في القوالب الدينية والقومية ذات الهويات العربية والإسلامية الخاصة ومنطلقة فقط من هذين المسارين تحديداً، بدلاً من الانطلاق من رحاب الأفكار والمعرفيات الإنسانية الكونية الخلاقة والفاعلة ومن تموجات المدارس الفلسفية الحداثية، ولذلك فإن أية عملية للإصلاح والتجديد في مجالات الفكر والسياسة والاجتماع والدين بحاجة أولاً إلى الإحساس العميق بوجود أوضاع مأزومة خانقة ومشكلات حقيقية تعاني منها الواقعيات المجتمعية في بلادنا، ومن غير الإدراك بوجود المشكلة فإننا نبقى نجتر المقولات ذاتها من إننا أمة فاضلة ونتستر على كل تلك العاهات والهنات والأوبئة بأردية النرجسية الذاتية والثقافية ونتمترس خلف التراثيات والقداسات الثقافية في العقلية المتقوقعة القابلة بالفكر الدوغمائي وبمرجعيات ( الثابت ) في الوعي التاريخي الإسلامي، ونعيد انتاج المفاهيم البالية والتهويمات الطوباوية ذاتها المتسمة بالسطحية لكي نقنع أنفسنا إننا لسنا بحاجة إلى تصحيح المسارات وتنقية المنقولات النصيّة ومعالجة الأوضاع المتردية البائسة، وحينما يتم كل ذلك فمن الطبيعي أن تتداول مجتمعاتنا مقولة أن الإصلاحات مفروضة من الخارج والهدف منها تخريب وتغريب وإفساد أمتنا ( العتيدة )، بينما في واقع الأمر يجب أن يتنامى الشعور بضرورة الإصلاح والتجديد على المستوى الذاتي أولاً وقبل كل شيء، وحينها نعرف أنه من الخطأ الاعتقاد أن عمليات الإصلاح مفروضة من الخارج، ولذلك أرى أن الطريق الثالث في رأيي المتواضع يتمثل في حاجتنا الماسة والضرورية لثقافة حية جديدة تصاحب بناءات التغيير والإصلاح، ثقافة ناهضة تستفز الذات وتدعوها إلى التطلع الدائم نحو الأحسن والأفضل والأميز وتتشكل في هوية خلاقة تتخذ من عملية الإصلاح عنواناً رئيسياً لها، وتتقصد هذه الثقافة المتينة تنمية الوعي كأحد أهم المقومات الفاعلة في قضية الإصلاح، لأن من أهم ما تحتاجه الحداثة بالإضافة إلى آلياتها، مسألة إيمانها العميق ببلورة ثقافة ناطقة خلاقة تتجذر في المستويات الإجتماعية وتتحول إلى واقع حقيقي يتلمس عمق المشكلات وله تأثيراته الفعالة ومؤثراته المباشرة، وتتمثل الثقافة المصاحبة للإصلاح في أهم مكوناتها المعرفية الإيمان الكامل بمبدأ الحريات في كافة المجالات المتعلقة بحياة الإنسان، فلا يمكن أن نبدأ بالإصلاح من غير توفر المناخات المشبعة بالحرية كثقافة وكمبدأ أساسي يؤمن بها الأفراد والسلطة السياسية على حد سواء، واعتماد منهج الفصل بين ما هو ديني وما هو سياسي ومدني في السياسة والإقتصاد والتعليم والمجالات الأخرى، لأن هيمنة الديني المتخم بالمثاليات الماضوية والقداسة التاريخية يعيق أي بناء إصلاحي تهدف إليه التجارب الإنسانية القائمة في الأصل على مباديء العقلانية والفكر الحر والبعيدة عن التعصب الطائفي والهويات الضيقة والمفاهيم الاستلابية لروح الحرية الفردانية..
كاتب كويتي
[email protected]
- آخر تحديث :
التعليقات