في أحد أيام شهر ديسمبر من العام 2003، كنتُ على متن باخرة عملاقة في رحلة بحرية امتدت سبع عشرة ساعة متواصلة من ستوكهولم إلى العاصمة الفنلندية هيلسنكي..

لم أستطع أن أخلد إلى النوم طوال تلك الرحلة سوى ساعتين، حيث كنتُ أقضي معظم الوقت جالساً في صالةٍ كبيرة مجهزة بمقاعدَ مريحة في مقدمة الباخرة، أشاهد البحر مباشرة عبر حاجز زجاجي، مستمتعاً بزرقةٍ باهرة، انفردت السماء والبحر بصناعتها في تلاحم ٍ حميميٍّ رائع، وكانت تجلس على بُعد أربعة مقاعد مني فتاة شقراء، غارقة بكل كيانها في وحدتها العميقة، كأنها تنهلُ من ملكوت التأمل صمتاً مقدساً، ولم أكن أمتلك الجرأة الكافية لكي أسألها عن سبب تعرضها الدائم للبحر والوحدة..

أحسستُ أني بحاجةٍ إلى بضع ساعاتٍ من الاسترخاء فتوجهتُ إلى أعلى الباخرة حيث يقع حمام السباحة والجاكوزي والسونا والبخار، ومن حسن حظي أن المسبح كان يخلو من ( الشقراوات ) لأني لم أكن في وضع ٍ يسمح لي بالتعرض لمزيدٍ من الجبهات القاتلة التي تتقن إنشاءها النسوة الغربيات من حولنا نحن معشر الرجال على الرغم من أني أتسلّح بأخلاق الرجل الشريف الذي يكبتُ أية ( بصبصةٍ ) شهوانية قد تبرز تجاههن..

الناس في هذه الباخرة العملاقة جداً، كأنهم في مدينةٍ صغيرة يعرفون بعضهم بعضاً، يرقصون ويغنون ويشربون ويأكلون ويتسامرون ويضحكون ويلعبون ويتبضّعون..

وحينما دخلت الباخرة طقوس الليل، كان هناك في المسرح الضخم استعراض فني غنائي في غاية الروعة للأطفال، تابعتُ عرض الأطفال بمتعةٍ كبيرة وكنتُ ( أدندن ) معهم كلمات الأغاني وإن كنتُ أجهل معظم معانيها وقد تلمستُ عمق المحبة التي كانت تلف الحاضرين تجاه الأطفال..

بعد ذلك العرض التلقائي الجميل للأطفال بدأت الموسيقى الكلاسيكية تملأ أرجاء المسرح بنغماتٍ حيّة تبعث في النفوس صفاءً ورونقاً أخّاذاً، وبدأ العشاق والمحبّون والمتيّمون والحالمون بالنزول إلى أرضية المسرح، وبالتواطؤ مع الموسيقى الأخّاذة، دارت حلقات الرقص الكلاسيكي والذي يعتبر من أسعد اللحظات الرومانسية في سهرات أهل الغرب..

مكثتُ قليلاً، فلم أكن أستطيع تحمل جرعات الموسيقى الرومانسية التي كانت تتدفق بعذوبة ورقة، تملأ صدور العشاق بالآهات والوله والذكريات والعذابات المنسيّة، ففضّلتُ العودة مجدداً إلى مكاني المحبب في مقدمة الباخرة، وهذه المرة كان الليل يغرسُ في البحر حلكته البهيّة ليمارسا في ثنائيةٍ فريدة جمالية اللهو البري..

وأخيراً رست الباخرة في ميناء هيلسنكي في تمام العاشرة صباحاً حسب التوقيت المحلي لفنلندا، وأعترفُ بأني لا أعرفُ عن هذه المدينة شيئاً سوى إنها تصدر للعالم هواتف الـ ( نوكيا ) ومشهورة بالسمك ونساؤها في غاية الجمال..

ما أن خرجتُ من الباخرة حتى رأيت مدينةً تنام تحت البياض، حيث الثلوج كانت تتساقط بكثافة، وتصورتُ للحظة أن الناس في هذه المدينة المتورطة بالثلوج الغزيرة لا يخرجون من بيوتهم ولا يزاولون أعمالهم ولن أشاهد في شوارعها سوى الأشباح، فعلى العكس تماماً مما كنتُ أتصور، كانت الحياة وسط تواتر الثلوج تضج بحركة الناس والسيارات وكل شيء، وكنتُ في طريقي للباص المخصص لنقل السواح في جولة سياحية حول أهم المعالم السياحية والتاريخية لمدينة هيلسنكي، استقبلتني المرشدة السياحية عند مدخل الباص بحفاوة فنلندية وسألتني عن اللغة المتداولة في بلدي، فقلتُ لها: العربية، علت شفتيها ابتسامة مهذبة ثم قالت: أوكيه يا سيدي، نتفق على الإنجليزية إذن، فقلتُ في نفسي: سأحاول التركيز لكي أفهم ( القليل ) من كلامها..

لم يكن في الباص سوى أربعة أشخاص غيري، رجل من السويد مع زوجته ورجل من كندا مع زوجته، وكانت المرشدة تتحدث بحماس وطني عن مدينتها، تارةً باللغة الفنلندية فكما يبدو أن الاثنين من السويد يفهمان لغتها، وتارةً أخرى تتحدث بالانجليزية لي وللزوجين من كندا..

مررنا بالقرب من إحدى رياض الأطفال، رأيناهم يلعبون ويمرحون في ساحة الروضة غير مبالين بحالة الطقس..!! فقالت المرشدة في نبرةٍ تنمُّ عن تصميم عميق لحب الحياة: لا نكترث بالثلوج ولن تعيق حركتنا وحياتنا بل نتصالح معها، في بلدي ولو افتراضاً، من سابع المستحيلات أن أشاهد أطفالنا يذهبون إلى مدارسهم وسط هذا الكم الهائل من تساقط الثلوج، فكان المشهد بالنسبة لي على المستوى الشخصي، استثنائياً وفريداً من نوعه..

بعدها توقف بنا الباص عند جبل ضخم فقالت المرشدة: في جوف هذا الجبل ترقد ( كنيسة ) تاريخية وهي فرصة جميلة لمشاهدتها والتقاط الصور الفوتغرافية..

نزلنا جميعاً، فقلتُ للرجل الكندي على سبيل المزاح والذي كان ودوداً معي للغاية: أفهمُ أن الناس تنحت من الجبال بيوتاً ولكن أن ينحتوا من الجبال كنائسَ، فهذا أمر عجيب، ضحكَ الكندي ثم قال لي: هيا يا صديقي لنرَ ما في الداخل ونلتقط الصور التذكارية، وحينما عرفَ أني قادمٌ من هجير الصحراء، سألتني زوجته بتودد: ماذا تفعلون مع طقس تصعد الدرجة فيه إلى الخمسين مئوية..؟؟

فقلتُ لها مبتسماً: بالضبط كما تفعلون أنتم مع درجة تهبط إلى الثلاثين تحت الصفر، فضحكنا جميعاً..

وانطلق الباص بنا مجدداً وكنتُ أشاهد ( الجرافات ) وهي تكنس الثلوج المتراكمة فوق الأرصفة وفي الشوارع وأمام المنازل، فكل شيء يجب أن يكون مهيئاً للناس، لذلك كانت الجرافات تعمل على مدار الساعة..

نزلنا بالقرب من أحد النصب التذكارية لأحد فلاسفتهم ولا أتذكر اسمه ولكني فهمتُ من المرشدة أنه أحد أهم الفلاسفة في تاريخ فنلندا، فطلبتُ من الرجل الكندي أن يلتقط لي صورة بجانب التمثال المعدني لهذا الفيلسوف الفنلندي لعلّ بركاته الفلسفية تنزل عليّ في يوم من الأيام وتسارع الحكومة الكويتية بعد ذلك بصنع تمثال لي وتضعه في ساحة الصفاة، ومررنا بعد ذلك بجانب مبنى البرلمان ومبنى مجلس الوزراء، وتوقفنا طويلاً بالقرب من ( قاعة فنلنديا ) المبنى الرمزي، وبناه المعماري الفنلندي الفذ ( الفار التو ) في الستينيات من القرن المنصرم ويشاهده الآلاف من الأوروبيين والسواح كل عام كتحفة فنية باهرة التصميم وهو مغطى بالكامل بألواح رخامية إيطالية ناصعة البياض، وفهمتُ من المرشدة إن المبنى حالياً يدور حوله جدل معماري طويل من حيث أن الرخام لا يناسب طقس فنلندا القارس البرودة فيصيبه التقوس والتشقق، على العكس من الحجر الجرانيتي الأبيض الذي يصمد أعواماً طويلة جداً في وجه البرودة الشديدة، ثم قالت: لم يتوصل المعماريون الفنلنديون إلى حل بخصوص هذا الجدل إلى الآن، بسبب أن البعض من المعماريين يقولون أن المبنى يجب أن يظل كما أراد له ( الفار التو ) أن يبقى، فقلتُ في سرّي: والله الجدل سيبقى قرناً آخر مادامَ الأمر يتعلق بروح فنلندا المعمارية، وانتهينا مجدداً بعد تلك الجولة الجميلة إلى قلب مدينة هيلسنكي حيث كانت انطلاقتنا الأولى، فقالت لنا المرشدة: الآن أنتم أحرار، بإمكانكم التجول في مركز المدينة، ومَن منكم يفضّل العودة إلى الباخرة فنحن في خدمته، قلتُ في نفسي التجول متعة كبيرة وخاصة أني بحاجة ملحّة لكوب من ( الكابتشينو ) الدافيء، والتعرف عن قرب على أحوال الفنلنديين، ولكن في الوقت نفسه، السير وسط هذه الثلوج الكثيفة ضرب من الجنون، خاصةً لواحدٍ مثلي لم يعتد في حياته مطلقاً، المشي فوق الثلوج وتحتها..

البقية عقدوا العزم على النزول من الباص والتجول وكان صاحبنا الكندي أكثرنا تحمساً فتحمستُ معه للفكرة، وبمجرد أن نزلنا من الباص تفرقت بنا الطرق وكل واحد منّا اتخذ جهة معينة، وبينما أنا أمشي كنتُ أزيح الثلج الذي كان يتكوّم بسرعة فائقة وبكثافة فوق شعري، وما أن أنتهي من ذلك حتى أجدني منصرفاً إلى وجهي وإلى معطفي وإلى الشيء الذي أحيط به عنقي ولا أعرف ماذا يُطلقون عليه في اللغة العربية..

أما ما كانت تفعله ندف الثلج المتساقطة بكثافة في حذائي الثمين، فكارثة ٌ أخرى، وهكذا كلما كنتُ أمشي بضع خطوات كنتُ أقوم بعمل ( الجرافة ) على كامل جسدي، والمشكلة أن الثلوج لم تكن تهدأ لحظةً واحدة ولا تترك لي مجالاً لالتقاط الأنفاس، لذلك كنتُ أحتمي بين كل مسافةٍ وأخرى بأحد المجمعات التجارية، وعلى الرغم من أن الثلوج الفنلندية كانت ( تعفسني ) وتلحق أضراراً فادحة بأناقتي و( وسامتي ) إلا أني كنتُ أجد فيها متعة لا توصف وذكرى جميلة استحضرها كلما أردتُ التحدث لعائلتي وأصدقائي عن ( بطولتي ) المطلقة في ذلك الفيلم الهيلسنكي المثير..

يتبع...

محمود كرم

كاتب كويتي [email protected]