عقد حزب الدعوة الاسلامية اول مؤتمر له في العراق بعد سقوط نظام صدام حسين، وقد بدا للمتتبع ان الحزب يحاول ان يستعيد عافيته بعد الانقسامات التي المت به، قبيل العودة الى العراق، من خلال التحضير لمرحلة جديدة، يرى قياديو الحزب من امثال المالكي والجعفري والاديب انها تتطلب استرتيجية تخرج الحزب من الاطار التقليدي الذي وجد نفسسه فيه، او اوجدته ظروف ما، وايا كان الحال فالحزب الآن مطالب بالخروج من هذا الاطار والانطلاق الى الحيز الارحب لمستقبل العراق، الذي يتوقع له ان يدخل الى عالم الديمراطية المعاصر بكل ما يحمله من متناقظات الماضي، وهذا في غاية الخطورة لانه سيضع جميع الاحزاب الاسلامية، بما فيها حزب الدعوة الاسلامية، الذي يتميع بدور كبير ومؤثر على صعيد الساحة السياسية والفكرية في العراق، امام مهام ليست يسيرة على الاطلاق، من اكثرها الحاحا مهمتان تفرضان على القيادة الجديدة للحزب، المنبثقة عن مؤتمره الاخير الاستعداد للاضطلاع بهما:
الاولى مهمة متعلقة بالعراق، فالمرحلة السياسية في عراق ما بعد صدام حسين تضع حزب الدعوة الاسلامية امام استحقاقين خطيرين هما:
1 ـ استحقاق العمل في الحكومة بعد ان امضى الحزب زمنا طويلا بالعمل في المعارضة فقد كان حزب الدعوة، وكما يعلم الجميع لامعا على مستوى المعارضة، وكان رجالاته السياسيون لامعين على مستوى الحكومة ايضا، ولكن هناك امر بدأ يقض مضاجع الدعاة هو ان فاعلية الدعوة على مستوى السلطة اقل بكثير من فاعليتها على مستوى المعارضة، وكنا قد اسلفنا في مقال نشر في البيان، الجريدة الرسمية لحزب الدعوة الاسلامية، القول في ان الدعوة على مستوى المعارضة كانت قد تحولت آنذاك الى طريقة في العمل، اخذ بها جميع الاسلاميين الذين يعارضون صدام، واعتقد ان صداما نفسه كان قد ساهم في تكريس هذه الحال عندما لاحق كل متدين بتهمة انه داعية بهدف اجتثاث الفكر الديني الحركي، وهو فكر كان للدعوة الدور الاكبر في تاصيله على صعيد الواقع العراقي، وقد ادى هذا الى ان ترتسم الدعوة في وجدان العراقيين بحجم مثالي هو اكبر بدون شك من حجمها الواقعي، و ما كان القلق الذي ساور الدعاة الا احد النتائج المترتبة على هذا التفاوت، وكان الدعاة ينحون باللائمة في ما يخص القصور المذكور على قيادة الدعوة، التي استهلكت، وكما يرون، معظم طاقتها في السياسة فانعكس الامر سلبا على الفاعلية الجماهيرية للحزب، وما اعتقده ان هكذا مهمة مطروحة على مؤتمر الدعوة، الذي قد يجد ان تنفيذ هكذا استحقاق يكون اما في زيادة عدد اعضاء القيادة، او زيادة نسبة المتفرغين للعمل الحزبي فيها، وقد اخذ المؤتمر بالاثنين معا.


2 ـ استحقاق توسع قواعدة الحزب من خلال اعادة النظر بالمواصفات المطلوبة في الداعية على كل المستويات، واعتماد معايير جديد في التقويم، وهذه مهمة تنظيمية غير ذات علاقة لصيقة بالفكر، ولكن خطورتها قد تكون في احتمال اختلال التوازن بين متطلبات العمل الميداني وبين الاسس المعتمدة كثوابت، ومن ثم فان هذا الامر قد يخلق ازمات، من اشد هذه الازمات محتملة الوقوع، هي العلاقة بين الثابت والمتغير، التي قد تخلق هوة قابلة للتوسع الى حد القطيعة بين حركة الدعوة الميدانية ومنطلقاتها النظرية، اضافة الى ما ترتبه هكذا خطوة من اثر بالغ على صعيد اختيار القيادة ـ فقد حرصت الدعوة على الحضور الثقيل و الكثيف لقيادتها ـ ولكن التوسع المطلوب كواحدة من استرتيجيات التعامل مع واقع العراق الجديد و المنسحب من ادنى المستويات الى اعلاها قد يقلل من لمعان القيادة على مستوى الواقع الموضوعي العام، وبالمقابل يجعلها اكثر فاعلية على مستوى الدعوة الذاتي، وبالنتيجة فان مردود هذه الخطوة اكثر تاثيرا على مستوى قواعد الدعوة من حيث التوسع المطلوب منها على مستوى القيادة.


الثانية مهمة متعلقة بالحزب نفسه، هذه المهمة ترتكز على مبدا ان السياسة فن المتغير ومن ثم فهي فن المناور الحذق، الذي يستطيع ان يخوض التجربة متناسقا مع محيطه دون التفريط بذاته، واعتقد ان القيادة الجديدة للدعوة معنية بهذه المهمة، بل ويجب ان تكون مؤمنة بوجودها، ومن باحثة عن السبيل الى الاضطلاع بها على احسن حال ممكنة، ولكن العقبة الكؤد التي تقف امام تادية هكذا مهمة، وبالشكل المطلوب، تنطلق من الاشكالية، التي يفيدها سؤال الدعاة: كيف لنا ان نوفق بين ثوابت الحزب الاسلامية ومتغيرات المرحلة القائمة على اسس الديمقراطية والحرية، وما الى ذلك من المفردات السياسية؟ وهي بطبيعة الحال مفردات من انتاج الفقه السياسي الغربي، اذ لسنا ببعيدين عن تعريف الدعوة الذي ورد في احدى نشراتها، والذي نص على ( إن اسم الدعوة الإسلامية هو الاسم الطبيعي لعملنا والتعبير الشرعي عن واجبنا في دعوة الناس إلى الإسلام. ولا مانع أن نعبر عن أنفسنا بالحزب والحركة والتنظيم، فنحن حزب الله، و أنصار الله، وأنصار الإسلام، ونحن حركة في المجتمع وتنظيم في العمل. وفي كل الحالات نحن دعاة إلى الإسلام، وعملنا دعوة إلى الإسلام)، اما التعريف الذي ورد في النظام الداخلي المقر من قبل المؤتمر الاخير فهو ( حزب الدعوة حزب سياسي يمثل الاسلام مرتكزه الفكري، ويشارك في الحياة السياسية العراقية ضمن الاسس و المباديء المعتمدة في النظام الداخلي للحزب )، فثمة فرق جوهري بين التعريفيين، فان التعريف الثاني، وهو الاقرب عهدا، قد تضمن امرين هامين يفيدان بلورة الخيار السياسي الحزبي الذي غاب وراء الخيار الفكري الطاغي للحزب، الامر الاول هو اشارة عامة افادت المشاركة في الحياة السياسية، والامر الثاني هو اشارة خاصة افادت الاعتماد على النظام الداخلي، وهذا بدون شك مترتب على واقع الدعوة الآن كطرف فاعل في الساحة السياسية و الحزبية في العراق.


اعود الى موضوع الديمقراطية، فعندما اطلق على الديمقراطية وصف المنتج الفقهي السياسي الغربي، دون ان ادخل في تفاصيل النشاة و التطور، قد لا اجد معترضا على ما اقول، ولكن الامر بالنسبة الى الحرية مختلف فهي مفهوم اسلامي، وهي في الوقت نفسه مفهوم غربي، ولكن انتاج الحرية كمفهوم داخل المنظومة الاسلامية قد جاء وفق سياقات مختلفة عن تلك التي انتجته في الغرب، فالحرية في الاسلام، وكما يعرفها الطاهر بن عاشور في المقاصد، تاتي بمعنيين، الاول بمعنى ضد العبودية، وهو ان يكون تصرف الشخص العاقل في شؤونه بالاصالة تصرفا غير متوقف على رضى احد اخر، و الثاني ضد الضرب على اليد والحجر، وهو تمكن الشخص من التصرف في نفسه و شؤونه كما يشاء دون معارض، اذ ليس هناك حرية خارج هذين الحدين اللذين اوردهما بن عاشور فالاختلاف اذاً بين مفهوم الحرية في الاسلام و مفهومها في الغرب ذو طبيعة معيارية، اي متعلقة بموضوع عقدي وخلاصة القول ان الفقه السياسي الاسلامي لم ينظر لهذه المفاهيم بالشكل المطلوب داخل منظومة القيم الاسلامية، لاسباب لا استطيع ان اعرضها في هذه العجالة، ولكن يمكن لي ان اوجز القول في هذا الخصوص بانها لم تكن جزءا من مشروع الحكم الاسلامي، و لم ترد ايضا في الفقه السياسي، سواءا القديم منه او الحديث، وعليه فان الفعل السياسي المرتقب من حزب الدعوة نفسه، في ما يتعلق بهاتين المفردتين على وجه الخصوص، هو صياغة او المشاركة في صياغة نظرية انطلاقا من الثابت الاسلامي لمعالجة هذا الموضوع، و من ثم فان فعل الدعوة على مستوى المرحلة يمكن ان يوصف بالقول: هو تطبيق بامس الحاجة الى نظرية، وارجو ان لا يفهم كلامي هذا على انه محاولة للاجهار بتعجيز حزب الدعوة، او التحدي له بانتاج هكذا فقه، ولكن ما اريد ان اقوله في هذا الخصوص ان حزب الدعوة الاسلامية هو الاقدر على الاضطلاع بهكذا مهمة عسيرة، لما يتمتع به من تراث فكري هائل قابل للتوظيف في انتاج فقه سياسي اسلامي يمكن ان يجيب على العديد من الاسئلة المؤجلة.


ثمة هناك مشكلة اخرى تقف في الطريق، وهي كيف لحزب الدعوة ان ينظر لمشروعية قضية الديمقراطية، التي قد اخذ هو نفسه بها، قبل ان يتحدد الموقف الاسلامي فقهيا منها؟ هناك مخرج واحد لهذا الاشكال، هو القول بان الديمقراطية المعمول بها على صعيد الدعوة ما هي الا آلية، و لكن بشرط ان لا يقف عند حدود القول بان الحزب نظر الى الديمقراطية كآلية وكفى، وكانه قد اجاب على السؤال، وفصل الامر، كما هو وارد على صعيد عموم الخطاب الاسلامي في هذه الايام، بالقول ان الديمقراطية ليست سوى آلية لتداول السلطة، وهذا كلام غير صحيح، ذلك لان الديمقراطية منظومة من الفكر والحركية، نشات وطورت وفق رؤية ايديولوجية تصوغ نسقها الفكري في قطيعة مع اي نسق ايماني، بفعل الصدام الحاصل بين الكنيسة والدولة، وهو صدام دخل في صياغة المنظومة الديمقراطية بحيث لا يمكن الاجابة عليه بالقول ان تلك القطيعة لم يكن لها وجود على صعيد الاسلام والدولة مثل ما كان لها وجود على صعيد النصرانية والدولة، فان هكذا قول ينطوي على مجازفة بالغة الخطورة قد تصل الى حد تسطيح الفكر.

حسن العاشور

العراق