مرت أعوام المنفى ألقسري كدبيب النمل تارة وكالإعصار الهادر تارة أخرى، وكنٌا حفنة من الوطنيين الشرفاء، قبل أكثر من ثلاثة عقود مضت على بلد وقع رهينة بيد عصابة مستبدة ومتوحشة ودموية تعبد المال والسلطة وتبطش بكل من يخالفها الرأي أو يعارضها، نعيش معاناة هذا البلد وإرهاصاته وآلام أبنائه الذين كانوا فرائس مستسلمة بين مخالب الجلادين والقتلة يمزقون أشلائهم ويزهقون أرواحهم بشتى الطرق والوسائل والحجج حيث اعتبروا الشعب بغالبيته الساحقة عدواً quot; للثورة والحزب القائدquot;، فزجٌوهم في حروب عبثية ومؤامرات وهمية مختلقة ورموهم في غياهب السجون والمعتقلات، أما من شاءت الأقدار أن يبقى حبيس المنفى والغربة فقد كان يتنفس ذكريات العراق وتاريخه ويتلظى بحنينه وذكرياته التي ابتلعها الزمن، من بقي في الداخل أو نزح للخارج كان عراقياً حتى النخاع وكان مواطناً ممتزجاً بترابه وطنه مهما اختلفت الرقع الجغرافية وبعدت المسافات، لهم نفس الحقوق وعليهم نفس الواجبات وبين الاثنين كان يعيش المبدعون والمثقفون والعلماء والمفكرون وكذلك اللصوص والمحتالون والقتلة والمتزلفون والانتهازيون والمنافقون والسياسيون المحترفون الذين يتطلعون للسلطة والجاه وهؤلاء الأخيرين هم الذين تلقفوها وتقاسموها فيما بينهم بالرغم من ماضيهم المريب وانعدام الكفاءات بين صفوفهم فما ذنب الآخرين؟
فليس كل من بقي في الداخل كان شريفاً وليس كل من عاش في الخارج كان عميلاً، وبالتالي لابد من تهذيب ومراجعة مفهوم عراقيو الداخل وعراقيو الخارج كما طالب بذلك المرجع الديني والمرشد الروحي لحزب الفضيلة آية الله الشيخ محمد اليعقوبي في كلمته أمام العشائر العراقية مؤخراً. الكثير ممن عاش في الخارج لسنوات طويلة كان موجوداً بجسده لكن روحه غائبة عن بلد الملجأ وكان يعيش حياته اليومية كالآخرين بيد أنه ظل متقوقعاً على كينونته ومستواه ومرجعيته الثقافية والمعرفية ولم ينجح في اختراق مجتمعات الاغتراب أو تعلم لغاتها وثقافتها وبقي يحمل في داخله نمط حياته القديم بكل سلبياته وإيجابياته وتعشش فيه كل أمراضه وعقده القديمة ولم يستفد البتة من منفاه وغربته المفروضة عليه وبالتالي لا يمكن عده من أصحاب الشهادات أو الكفاءات، وهناك ممن بقي في الداخل لكنه فضل الانطواء على ألذات والابتعاد عن الأضواء والاحتكاك بذوي السلطة والقرار ليحافظ على حياته وسلامة جسده وروحه من الأذى والسجن والتعذيب أو إفساد الروح والأخلاق وممارسة العنف والرذيلة أو ارتكاب الجرائم بحق النفوس البريئة من أبناء الشعب المظلومين. وهذا النوع من الناس بقي بعيداً عن اقتناص الفرص المعرفية والتزود بالتجربة العملية والكفاءة المهنية المقترنة بالثقافة الموسوعية والانفتاح على مصادر المعرفة العالمية، وكليهما معذور لكنه غير قادر على التصدي للمسؤولية وإدارة شؤون الدولة والمجتمع ومن هنا فلا علاقة للداخل أو الخارج في تكون الفرد وكفاءته ونزاهته، أي بطلان تلك المقولة التي تناولتها وشددت عليها وسائل الإعلام والأقلام الكثيرة لغاية في نفس يعقوب. كنت أتمنى على سماحة المرجع الشيخ اليعقوبي أن يتبعد عن التعميمات لأنها غير دقيقة علمياً عندما يقول إن الساسة العراقيون القادمون من الخارج ممن شارك في مؤتمرات لندن وصلاح الدين وحلفاؤهم الأمريكان quot; أقصوا الشعب العراقي quot;الذي بقي داخل العراق ولم يغادره تحت أي ضغط وأي ترغيبquot; وهذا أمر غير ممكن فمن المستحيل إقصاء شعب كامل يعيش داخل أسوار وطنه ويعتمد الساسة على تصويته في الانتخابات وإلا فمن يمارس السلطة اليوم هل هم فقط الساسة القادمون من الخارج وهم أقلية عددية لا يمكنها أن تملأ مؤسسات الدولة وأروقة الحكم والسيطرة على الشارع. وفي فقرة أخرى نقع على نفس التعميم عندما يقول quot; كل هذا تناساه أو تجاهله العراقيون الذين غادروا العراق لأي سبب كان quot; ويتبادر للذهن فوراً أن المقصود هو كل العراقيين الذين غادروا البلد لأسباب سياسية أو إنسانية أو دراسية أو اقتصادية وهم الذين تجاهلوا إسهامات أهل الداخل، بالرغم من التنويه أنه لا يقصد المس بوطنية وصدق انتماء من أجبرته الظروف على العيش خارج العراق إلا أنهم غير مؤهلين لقيادة هذا البلد وإدارة شؤون شعبهم بل يتهمهم وبنفس الصيغة التعميمية بأنهم عمدوا إلى quot; تهميشهم لهذا الشعب المظلوم بكل ما يزخر به من كفاءات وطنية مخلصة تضاهي ما في أكثر دول العالم تقدما quot; والصحيح أن من تعرض للتهميش هم فئة من أبناء العراق المخلصين والكفوئين والمخلصين والنزيهين ممن لم تتلوث حياتهم وتاريخهم بلوثة البعث الحاكم وسلطة صدام الجائرة والفساد المستشري في جسم الوطن كالطاعون أو السرطان وهم ممن كان في الخارج وعاد ليساهم في إعادة بناء الوطن مع إخوته وأبناء وطنه الآخرين أو من بقي في الداخل واعتقد أن الفرصة باتت سانحة له ليتنفس هواء الحربة بعد التخلص من طاغية العصر المجرم وأعوانه ويعيش مرة أخرى بكرامة وعز ورفاهية يشارك مع غيره في إعادة بناء ما دمره المجرمون من عراقيين وأجانب هؤلاء هم الضحايا المهمشة من قبل محترفي السياسة وحلفائهم الغربيين.
وإذا كان سماحة الشيخ محقاً في شيء فهو في وصفه لقدرات هذا الشعب الخلاق على التضحية والشجاعة والوقوف يداً واحدة لإعادة بناء ما دمرته الحرب العدوانية سنة 1991 وإعادة بناء وترميم البنى التحتية من خطوط مواصلات واتصالات ونقل ومحطات كهرباء وتوليد الطاقة وتنقية المياه وغيرها وفي وقت قياسي رغم الحصار، الذي كان في بدايته، ولا يجب أن ننسى ذلك. أما اليوم فبالرغم من المليارات وجو الحربة والتخلص من الديكتاتورية وتكنولوجيا أعظم دولة في العالم لا توجد أية خدمات حتى في أدنى مستوياتها ناهيك عن المحافظة على ما تبقى منها وهي في أردأ أحوالها وفي كافة المجالات. والعراقي يعيش اليوم وضعاً لا إنسانياً أمام عدم اكتراث الساسة وأصحاب القرار والقوى المحتلة حيث يكده المواطن يومياً لتأمين أبسط احتياجاته من كهرباء وماء ودواء ووقود وخدمات أساسية لأية حياة كريمة.
كذلك أجدني متفقاً مع معظم ما جاء في كلمة سماحة الشيخ اليعقوبي أمام أبناء العشائر عندما قال quot; لقد أصبح مصطلح (عراقيي الخارج والداخل) متداولاً وجزءاً من الثقافة المعاصرة ولابد من التعاطي معه ولكن لا بسذاجة خشية الوقوع في الأهداف التي أراد الانتهازيون توظيف المصطلح لتحقيقها وإنما علينا أن نتعاطى معه بعد تهذيبه، إذ من عراقيي الداخل الصداميون وقتلة الشعب، كما لا نريد بعراقيي الخارج كل من هاجر إلى هناك بسبب ظلم صدام وبطشه وعاد إلى بلده بعد أن فرّج الله عنه وعايش هموم شعبه وآلامه وشاركهم في السراء والضراء وإنما نريد بهم من حمل ثقافة أهل الخارج quot; بيد أنني أود التعليق حول نقطة مهمة وهي أنه ليس كل من عاش خارج العراق لأي سبب كان أصبح غريباً عن بلده ولا يعرف ما طرأ عليه من تغيرات طيلة سنوات الحكم ألبعثي في عهدي البكر وصدام المقبورين فالمشكلة تكمن في نوعية من استند إليهم قادة العراق الحاليين لمساعدتهم في إدارة دفة البلاد وهم من الفلول الفاسدة أو غير الكفوءة وهم مسئولين بنفس الدرجة التي عليها أعوان صدام والمجرمين وقطاع الطرق والمافيات وعرابي الجريمة المنظمة والتكفيريين عن الدمار الذي حل بالبلاد وتأجيج نار النزعات الطائفية والعرقية وعمليات التهجير والقتل العشوائي وسرقة وتبديد ثروات العراق الوطنية. تحية إجلال وإحترام وتقدير لكل العناصر المخلصة والنزيهة التي تعمل بكل جهد وإخلاص رغم المخاطر والصعوبات ومن داخل العراق لإعادة اللحمة ولم الشمل بين أبنائه ومنهم من هو موجود داخل العملية السياسية ويتبوأ أرفع المناصب لكنه مقيد اليدين للأسف، وتحية للشيخ اليعقوبي على صراحته ووضوح رؤيته وإخلاصه مع الاعتذار مسبقاً إذا كان كلامنا هذا يمس سماحته لكنني أقول الحق ولا أخاف في الله لومة لائم وأتمنى للشعب العراقي وللعراق من أعماق قلبي أن يخرج من هذه الغمة ويضمد جراحه وينسى الماضي ومآسيه ويلتفت للمستقبل ليعيش حراً مستقلاً مزدهراً موحداً إلى أبد الآبدين.
د. جواد بشارة
باريس
التعليقات