هنالك خطاب إعلامي مزدوج غير منطقي وغير مقنع وعديم الإتزان والمصداقية وربما يقصد الإضرار بالمصلحة الوطنية العليا للعراق تبنته بعد 9 نيسان 2003 ولاتزال الكثير من القوى السياسية التي سيطرت بعد هذا التأريخ على الساحة السياسية العراقية بل ويتبناه اليوم بعض سلاطيننا الجدد ووعاظهم من المثقفين تجاه بعض الدول العربية والجامعة العربية من جهة وتجاه إيران من جهة أخرى.. ففي مقابل خطاب هجومي يمتاز بالعدائية والإستفزاز موجه ضد الدول العربية وحكوماتها والجامعة العربية وأمينها العام يتهمهم ليل نهار بالتدخل في شؤون العراق من دون تقديم أي أدلة أو إثباتات نلاحظ وجود خطاب مُجامِل ومُؤدب جداً تجاه إيران وساستها يتجنّب أنتقادهم أو حتى الإشارة الى تدخلالتهم في شؤون العراق بأي شكل من الأشكال رغم تَوَفُّر مئات الأدلة والبراهين على مثل هذا التدخل السلبي والسافر.. فالدول العربية دائمة مقصرة ولاتقوم بما يجب عليها القيام به تجاه العراق!! أما إيران فهي دائماً صاحبة فضل وتفعل ماعليها وأكثر تجاه العراق!!
إن من أبرز مايمكن أن نُسميه المعطيات التي يستند إليها هذا الخطاب المتناقض هي مايَصِفه هؤلاء بموقف الدول العربية وإيران تجاه التغيير الذي حصل في العراق بعد 9 نيسان 2003 بالإضافة الى طبيعة وجنسيات الإرهابيين الذين دخلوا الى العراق منذ ذلك التأريخ وأوغلوا في قتل أبنائه وتدمير بناه التحتية.. فمرة تُهمَز الدول العربية بعبارة quot; هنالك بعض الدول التي تخشى من الحرية والديموقراطية الموجودة في العراق وتخاف أن تصل لأراضيها وتهدد حكوماتها quot; وهو كلام حق لكن يراد به باطل فمن تخشى من الحرية والديموقراطية هي ليست الدول العربية المحيطة بالعراق خصوصاً وإن أغلبها بإستثناء واحدة أو إثنتين دول برلمانية بل إن التجربة البرلمانية الديموقراطية في الأردن والكويت ومصر تعتبر من التجارب المتميزة في المنطقة وسابقة للعراق في هذا المجال لذا فمَن يخاف من الحرية والديموقراطية هي دول أخرى تخشى من زوال أنظمتها الشمولية التي تعلم جيداً بأنها ( واكفة على كف عفريت ).. ومرة تُلمَز الدول العربية بأن أغلب جنسيات الإرهابيين الذين يُلقى عليهم القبض في العراق عربية وهذه أيضاً حقيقة ولكنها غير كاملة إذ أن ذلك لايعني أن حكومات الدول التي يحمل هؤلاء الإرهابيين جنسياتها هي التي تُرسِلهم الى العراق خصوصاً وإن الجميع يعلم بأن هؤلاء الإرهابيين هُم ضِد حكوماتهم بل ويُكفِّرونها وقد شارك الكثير منهم بعمليات إرهابية ضد مباني حكومية ومرافق سياحية في دولهم قبل مجيئهم الى العراق والعديدين منهم لايزالون مطلوبين لهذه الحكومات وملاحقين من قبلها حتى هذه اللحظة على خلفية أحكام بالسجن المؤبد والإعدام صدرت بحقهم من قبلها بالمقابل هنالك حكومات تستضيف الآن هؤلاء الإرهابيين وقياداتهم علناً وتتستّر عليهم وتحميهم وتُسهّل لهم التسلل الى العراق عبر حدودها بل وتمُدّهم بالقنابل والصواريخ والمتفجرات التي يستعملوها في قتل العراقيين وبالتالي فهي تستغل جهلهم وتطرّفهم وطبيعة جنسياتهم لتصفية حساباتها مع أمريكا والعراق بل ومع حكوماتهم بواسطتهم وبدون أن تُضَحّي بجندي واحد من جنودها.. وهذا يقودنا الى الكلام الذي يتردد بين الحين والآخر على لسان بعض الساسة العراقيين عن أن هنالك بعض الدول في المنطقة تعمل على تصفية حساباتها مع أمريكا على أرض العراق والسؤال هو من هي هذه الدول فكلنا نعلم بأن أمريكا لم تأتي الى المنطقة للإستجمام أو للسياحة بل لتنفيذ مخطّط ستراتيجي يشمل تغيير بعض الأنظمة في المنطقة والتي كان من ضمنها النظام العراقي السابق والنظام الإيراني الحالي بإعتبارهما مُصنّفَين أمريكياً ضمن محور الشر الذي يضُم بالإضافة إليهما كوريا الشمالية ولما كان النظام العراقي السابق هو الحلقة الأضعف ضمن هذا المحور مقارنة بكوريا الشمالية وإيران فقد بدأت أمريكا به وكان مقرراً في حال لو سارت الأمور على مايرام في العراق التحول بعده الى النظام الإيراني الذي يصف أمريكا في أدبياته السياسية بـ( الشيطان الأكبر ) لذا كان لزاماً على هذا النظام القيام بشيء يمنع أمريكا من التحول إليه ونظراً لما هو معروف عن السياسة الإيرانية من دهاء فقد قرر أن يتغدّى بأمريكا على أرض العراق قبل أن تتعشّى هي به على أراضيه وذلك عبر دعم جميع أشكال التمرد المُسلّح ضد القوات الأمريكية في العراق بغض النظر عن توجهاتها.. بالمقابل فإن أغلب الدول العربية المحيطة بالعراق هي دول حليفة ستراتيجياً وليس فقط مرحلياً لأمريكا وهي ليست مُصنّفة أمريكياً ضمن محور الشر ولاتعتبر أمريكا ( شيطاناً أكبر ) أي إن أمريكا لم تأتي الى المنطقة لإسقاطها وبالتالي لاحسابات لها مع أمريكا لتصفيتها.. لذا فإن مَن يصفي حساباته مع أمريكا على أرض العراق هو نفسه الذي يسعى لسقوطها في المستنقع العراقي وإنسحابها أو على الأقل تأخيرها في تنفيذ الخطوات التالية من مشروعها الستراتيجي الذي جائت من أجله أصلاً الى المنطقة؟
أنا أنصح أصحاب هذا الخطاب وكل الذين يريدون معرفة الحقيقة أن يسألوا ويبحثوا.. أين وفي أي دولة كان الزرقاوي يعيش للفترة من 2001 حتى 2003 في نفس الوقت الذي كان فيه محكوماً بالإعدام وملاحقاً ومطارداً من قبل السلطات الأردنية؟.. وأين وفي أي دولة يقيم ويسرح ويمرح اليوم كل مِن سعد ومحمد أبناء أسامة بن لادن وسيف العدل المصري والحكايمة وأبو حفص الموريتاني وسليمان أبو غيث الكويتي وغيرهم من قيادات القاعدة المطلوبة جميعها للقضاء في دولها والملاحقة وأتباعها في هذه الدول ليل نهار من شارع لشارع ومن بيت لبيت؟.. وأين هرب الزرقاوي وإختفى لأيام وفي أي دولة أثناء المعارك التي خاضتها القوات الأمريكية العراقية معه ومع أتباعه في محافظة ديالى قبل أن يعود منها ويُقتل بمساعدة أجهزة الأمن الأردنية التي كانت تلاحقه وأتباعه عبر الحدود وكان لها الفضل الأكبر في القضاء عليه وتخليص العراقيين من شروره؟.. ومن أين وعِبر أي دولة يتسلل الإرهابيين يومياً وكان ولايزال يأتي الدعم المادي والعسكري واللوجستي لهم في داخل العراق؟.. وماهو منشأ صُنع الإسلحة والمتفجرات التي يستخدمها الإرهابيون في قتل العراقيين؟
أما عن مواقف الأردن ومصر والإمارات والكويت والسعودية مما حدث ويحدث في العراق فالجميع يعلم بأن أغلب حكومات هذه الدول كانت قلباً وربما قالباً مع تغيير النظام العراقي السابق في حين كانت دول أخرى ضد إسقاطه.. كما إن الأردن والكويت ومصر كانت من أول الدول في العالم وليس في المنطقة فحسب التي إعترفت بالنظام الجديد بل وكانت الأردن ومصر سباقتان في ذلك من بين جميع دول العالم عبر فتح سفاراتهما في العراق والتي كان نصيبها ونصيب منتسبيها الإختطاف والقتل والتفجير على أيدي جهات باتت معروفة لاتريد للدول العربية حضوراً قوياً ي العراق.. والأردن والإمارات كانتا من أكثر الدول التي قدمت الدعم المعنوي والمادي للدولة الجديدة من تجهيزات خدمية وأموال وسلاح خصوصاً في ساعات المحنة كما حدث أيام حكومة الدكتور أياد علاوي.. كما إن الجميع يعلم بأن الأردن والكويت والسعودية تُمسك حدودها بيد من حديد منعاً لتحرك الإرهابيين من والى العراق في حين أن حدود دول أخرى باتت منذ 4 سنوات ممراً لدخول عشرات الإرهابيين يومياً من أفغانستان وباكستان الى العراق.. والأردن كان سباقاً في تدريب وتجهيز أجهزة الشرطة والأمن والجيش العراقية الجديدة أما دول أخرى فتقدم المال والسلاح لمن يقتل منتسبي هذه الأجهزة من العراقيين وبقايا القنابل والمتفجرات والعبوات الناسفة التي يعثر عليها يومياً في العراق وفي شوارع بغداد خير دليل على ذلك.. وحكومات الأردن ومصر والإمارات والسعودية كانت ولاتزال تتغاضى عن النهج الطائفي لبعض أطراف الحكومة العراقية وإستقبلت ولاتزال تستقبل كل شخصياتها وقياداتها السياسية بكل ود وترحاب بدون إستثناء وبغض النظر عن إنتمائاتهم الطائفية والعرقية على الرغم من إتهاماتهم المستمرة لها وهي تدعوهم دوماً الى الوحدة ونبذ الخلافات وتغليب المصلحة الوطنية العليا للعراق وشعبه أما حكومات دول أخرى فلديها قوائم سوداء لظباط وطيارين عراقيين شاركوا في الحرب العراقية الإيرانية وأخرى حمراء لسياسيين عراقيين ممنوع عليهم حسب رؤيتها أن يتولوا قيادة العراق وشعبه.. وقد شهدت الأربع سنين الماضية مواقف عملية مُشرِّفة لهذه الحكومات منها على سبيل المثال موقف الحكومة السعودية التي دعت الى مؤتمر مكة الذي تمخّض عن وثيقة شرف لم يلتزم بها أي من الموقعين عليها من أصحاب العمائم البيضاء والسوداء العراقيين وكذلك موقف الحكومة المصرية التي إستضافت بالتعاون مع الجامعة العربية مؤتمرَين مُهمّين حول العراق أحدهما للمصالحة والثاني لدعم العراق بالإضافة لعشرات المواقف التأريخية لحكومة جلالة الملك عبد الله الثاني ملك الأردن.. وأخيراً وليس آخراً لا أعتقد بأن أي عراقي مُنصِف وله ضمير سينسى الموقف التأريخي المبدأي والإنساني لرموز ثقافية عربية كثيرة كأحمد الربعي ووحيد عبد المجيد وحازم صاغية وعبد الرحمن الراشد وشاكر النابلسي وأحمد أبو مطر وصحف عربية كإيلاف والشرق الأوسط والحياة من قضايا العراق وشعبه سواء في الماضي أو الحاضر في مقابل الصمت المطبق لمثقفي دول أخرى غير عربية أمام مثل هذه القضايا.
لقد جُيّشت الفضائيات وشُحذت الأقلام الطائفية عندما تحدث الملك عبد الله الثاني عن الخشية من ولادة هلال شيعي في المنطقة يمكن أن يزعزع إستقرارها وهو طبعاً لم يعني بهذا الكلام عموم الشيعة كطائفة دينية وكأتباع لأهل بيت النبوة خصوصاً وأن القاصي والداني يعلم بأنه سليل هذا البيت بل عنى به التشيع السياسي الذي تُمثله دول وأحزاب إسلامية والذي يمتلك اليوم أجندة سياسية معروفة ويأخذ من المذهب والطائفة سبيلاً للوصول الى تحقيقها.. وهذا لايعني أنه لايمتلك نفس الخشية وربما أكثر من التسنّن السياسي الذي تُمثله اليوم أحزاب وتيارات إسلامية لها أيضاً أجندتها المعروفة منتشرة في المنطقة وبالتالي من ولادة هلال سني بدليل إن آخر الأخبار قد ذكرت بإن المحادثات التي جرت قبل أسبوع بين جلالته والرئيس مبارك حول الأحداث الأخيرة في فلسطين وماسبقها من أحداث في لبنان تحمل نفس البصمات تناولت ما أسمته quot;هواجس منطقية quot; تكونت لدى القاهرة والأردن خلال الفترة الماضية من إحتمالية نشوء مايمكن وصفه بـquot; إمارة حماس الإسلامية quot; في واحدة من أكثر بقاع المنطقة التهاباً محذرة بذلك من إمكانية إمتدادها إقليمياً فضلاً عما قد تخلفه من تأثيرات على طبيعة الصراع العربي الإسرائيلي وما لذلك من نتائج قد تزيد احتقان الوضع المعقد أساساً في الشرق الأوسط وهو دليل قاطع على أن الرجلين لايتحدثان ويطلقان تصريحاتما من منطلقاتات طائفية كما يحاول أن يصور البعض بل من منطلق الحرص على إستقرار المنطقة وسلامة شعوبها.. بل لقد تجاوز الموقف أحياناً شاشات الفضائيات وصفحات الجرائد والإنترنت الى تنظيم التظاهرات المُسيّسة والمفبركة التي تدعوا لها بين الحين والآخر بعض دكاكين المجتمع المدني التي إفتتحت حديثاً في الكثير من دول الغرب والتابعة لبعض أحزاب الحكومة العراقية والتي تتجه دائماً في تظاهراتها صوب سفارات الدولً العربية ولم نراها يوماً تتجه في أي عاصمة غربية بإتجاه السفارة الإيرانية مستنكرة تدخل حكومتها في شؤون العراق كما حدث قبل عام عندما قامت مجموعة صغيرة من العراقيين لاتمثل سوى نفسها بتظاهرة مفتعلة ومفبركة أمام السفارة الأردنية في إحدى العواصم الأوروبية خرج فيها بعض المشاركين من الطائفيين عن أبسط قواعد اللياقة والأدب والأخلاق عندما تطاولوا بالسباب والشتائم على جلالة الملك عبد الله الثاني في حين لم نر هؤلاء أنفسهم في يوم من الأيام يخرجون ولاحتى لخمس دقائق للتظاهر أمام السفارة الإيرانية ولو تظاهرة صامتة من دون كلام ليعبروا لها عن إستيائهم من تدخل حكومتها في شؤون العراق والعراقيين.. كما لاننسى الإشارة الى ( حملات ) التواقيع التي تطالعنا بها بين فترة وأخرى بعض المواقع العراقية والتي يُنظمها ويُروج لها بعض المثقفين تدين وتستنكر التصريح الفلاني أو الموقف العلاني للجامعة العربية ورئيسها( والذي لايتعدى دعوة للحوار بين جميع الأطراف العراقية أو لقاء مع بعض الشخصيات العراقية المعارضة للعملية السياسية الحالية بدافع تقريب وجهات النظر بين الفرقاء العراقيين ) بدعوى إنه تدخل في الشؤون العراقية إلا أن الغريب هو أن هذه المواقع ومثقفيها لم يطلعوا علينا يوماً ولاحتى بـ( حُمَيلة ) ولانقول حملة يستنكرون فيها التدخلات الإيرانية في الشؤون العراقية.. عجيب!!
إذاً هنالك إزدواجية مكشوفة ومفضوحة تُصِر الكثير من شخصيات وأحزاب الحكومة العراقية ومثقفيها على إعتمادها تجاه دول الجوار تتنافى مع مانسمعه ونقرأه ونراه من معطيات وإثباتات وأدلة حول هذه الدول بل إن هنالك إمعان ومبالغة مقصودة من قبل البعض في الإستمرار بهذه الإزدواجية لدرجة باتت فيها العلاقة مع الدول العربية وقياداتها جريمة وسُبّة في حين أصبحت العلاقة مع إيران وقياداتها مفخرة.. فالسياسي العراقي الذي يزور الدول العربية ويعمل على إقامة علاقات طيبة وأخوية معها ومع قياداتها ويدعوها للوقوف مع العراق لإخراجه وشعبه من حالة الإنهيار والدمار التي هو فيها يوصف بأنه خائن ومن دعاة التآمر والإنقلابات أما السياسي العراقي الذي يمتلك علاقات ستراتيجية حميمية جداً مع إيران ويزورها بين الحين والآخر و( مسويها خِرّي مِرّي ) ويعتبر تدخلها في الشأن العراقي أمر مشروع لدرجة الترحيب بجلوسها مع الولايات المتحدة للتباحث حول العراق فيوصف بالوطني ومن دعاة السلام والديموقراطية..والهدف هو خلق حاجز بين العراقيين ومحيطهم العربي وجعلهم ينفرون من الدول العربية وشعوبها وحكامها وتصويرها لهم على أنها العدو الأول والأوحد وبالتالي دفعهم الى التقوقع طائفياً وعرقياً ليسهل توجيههم وإنقيادهم الى جهات وأطراف أخرى والله أعلم.
مصطفى القرة داغي
[email protected]
التعليقات