من حسن حظ العرب، وهو حقيقة تاريخية، أن الزمن والقدر لعب دوره في إنقاذهم من محاولات إزالة وجودهم في المنطقة، وخير دليل على هذا هو دور منقذ الإسلام السلطان العادل صلاح الدين الأيوبي الكردي الذي هب بروح الفروسية الإنسانية لنجدة العرب والمسلمين وإنقاذهم من حروب التوسع الأوربي في المنطقة بحجة حماية الديانة المسيحية وضمان الأمان للأماكن المقدسة في ديار فلسطين، ولم يكتفي القدر بهذا بل سندهم بأول نهضة في المنطقة من خلال والي مصر محمد علي باشا ومن خلال نابليون فرنسا الذي جلب لبلاد الكنانة خير علمائه ورجاله لمساعدته على تحقيق تحول حضاري في المنطقة مشابه لما كان موجودا في أوريا.
استنادا الى هذه الحقيقة، ومع توفر كل هذه الرعاية القدرية لم يفلح العرب في تحقيق أي تحول حضاري تاريخي متمدن في المنطقة، وبقيت البادية والقبلية هي الشريعة المطلقة السائدة لديهم، والتاريخ اثبت ان تكوين دويلاتهم وأماراتهم ومشايخهم ومملكاتهم ودولهم قد بنيت على أسس قبلية ولم تبنى على أسس مقومات البنية التاريخية لإقامة المماليك وفق مفاهيم الدولة والمجتمع وتحيد السلطات بينهما، لهذا لم تقام الدول العربية على أسس حضارية حديثة بل قامت على أسس موروثة بدائية تحكمت بها الضرورات القبلية والمذهبية وهي المشهودة للبيئة السائدة لدى العرب وأغلب المسلمين.
ولكن بالرغم من هذا الواقع الغير الحضاري المتمدن للعرب والبعيد عن المدنية والثقافة الإنسانية، منحهم وملكهم القدر مفاتيح أكبر الخزائن الكونية للذهب الأسود، فدخلت في جيوب البعض منهم الاف المليارات من الدولارات الأمريكية ليتحكموا بقبضة اقتصاديات أكبر منطقة استراتيجية على وجه البسيطة وهي الشرق الأوسط،، فتحولت الإمارات والمماليك النفطية العربية الى أقطاب حاضنة لكتل جبلية مالية عملاقة لا تقدر على ذوبانها لا الاحتباس الحراري ولا حرارة الشمس الساطعة.
أمام هذا الواقع المختنق بأموال طائلة لا بداية ولا نهاية لها، توفرت لأنظمة حكم عربية في الخليج والعراق وليبيا والجزائر وغيرها، كل هذه الإمكانيات المالية الهائلة مع وجود موارد بشرية كبيرة ماهرة وغير ماهرة لم تقدر على خلق منطقة منعمة بالرفاهية والخير والصلاح والسلام، بدلا منها تنعمت بعمليات إبادة بشرية جماعية لشعوب مسالمة كالشعب الكوردستاني في العراق، وبمأساة قاسية أليمة طويلة العقود للشعب الفلسطيني، وخلق حروب كارثية كالحروب العربية الإسرائيلية، الإيرانية العراقية، الغزو الصدامي البعثي للكويت، الحروب اليمنية، الأزمات الجزائرية المغربية، الحرب الأهلية اللبنانية، الابادة الجماعية للشعوب والقبائل في السودان، وغيرها من حروب وأزمات إنسانية كبيرة مرت وتمر بها المنطقة على مر قرون وعقود طوال بعيد عن تحقيق سلام وازدهار اقتصادي مشهود كالذي حدث في بعض البلدان الاسيوية في غضون عقدين من الزمن القريب.
هذه الأحداث المأساوية الكبيرة التي مرت وتمر بها منطقة الشرق الأوسط وبلدان العرب، لم يكن للكرد يد أو دور فيها، ولم يكن لهم دور لتتسم المنطقة والعرب والمسلمين بتشوهات سياسية ومذهبية دينية واجتماعية واقتصادية وثقافية لا تشرف أي إنسان ان يفتخر بها لسوء سمعتها وشدة ماساتها وجسامة أضرارها، والعمل الإجرامي الإرهابي في تفجير برجي مبنى التجارة العالمية في الولايات المتحدة الأمريكية لزهق أرواح أكثر من أربعة الاف إنسان بريء من مختلف الجنسيات والقوميات والأديان ألا تمثل نموذج بمنتهى السوء والشيطنة لأفراد محسوبين على العرب والمسلمين، والنماذج الفردية الشيطانية التي تقتل وتفجر بأرواح أناس أبرياء وتحولهم الى أشلاء منثورة في بغداد وبعض مدن العراق والمغرب والجزائر وإسرائيل والسعودية ولبنان وفلسطين، الا تعتبر أعمال إبادة جماعية بشرية لأسمى مخلوق لرب العالمين على هذا الكوكب النابض بالحياة، هذه النماذج المارقة ألا تعتبر أعمال مشوهة للعرب والمسلمين ومشوهة للإسلام ومذاهبها خاصة وأنها صادرة بأفكار وأيديولوجيات مذهبية دينية تراكمت عليها غبار أزمان غابرة وغائرة في بحر من الظلمات.
أجل كل هذه التشوهات البارزة والقائمة لم تقدر العقول العربية والمسلمة لحد الآن على حل أسرارها وفك ألغازها، للبحث عن معالجات جذرية لها لإبعاد العرب والمسلمين عن آثارها وأضرارها الجسيمة، واليوم نجد ما يذهب إليه البعض من أقلام غير حريصة بعيدة عن المسؤولية، برمي التهم جزافا على الأكراد، الشعب الكوردستاني، من ضمنها مقال الكاتب خضير طاهر في إيلاف الموسوم quot;البرزاني كشف مخططات الأكراد لتشويه سمعة العربquot;، يشكل بادرة غير سليمة لا مبرر لها لنثر بذور أفكار غير سوية لتبرير وتفسير الواقع المؤلم للعرب العراقيين والتأثير على العلاقات الأخوية المصيرية التي تربط بين الشعبين الكردستاني والعراقي خاصة بعد تحقيق الاستحقاق الدستوري لإعادة الأمور السياسية والاقتصادية الى نصابها العادل لحل القضايا القومية والوطنية التي تعرضت لها الأمة العراقية طيلة القرن الماضي في ظل أنظمة حكم جائرة لم تريد للعراق غير الخراب والدمار وسحق وقمع شعوبها وطوائفها ومذاهبها، وكذلك احتواء المقال أيضا على توجهات غير صائبة لنثر بذور الخلاف والعقد السوداء على العلاقات والأواصر العربية الكردية التي ترجع مدادها الى حاضر متواصل وأزمان تاريخية طويلة لوجود علاقات مشتركة بينهما منها التعايش المشترك المتجاور والدين، وبهذه المناسبة فان أقل ما يمكننا ان نذكر به الزميل الكاتب هو القول البليغ للسيد عمرو موسى الأمين العام للجامعة العربية الذي عبر بكل ثقة وقناعة عربية أصيلة أن الشعب الكردي ليس جزءا من المشكلة إنما هو جزء من الحل، وأما كلام الكاتب عن استغلال الكرد للعراق وأمته وخزينته غير مزحة كتابية أراد بها الكاتب جمع عدد كبير من التعليقات حول مقاله خاصة وان مقالاته تتسم بعناوين ومضامين مختارة بذكاء صحفي لتحقيق جذب آني لأكبر عدد من قراء إيلاف الأعزاء.
لهذا بعيدا عن أي تأثير مقصود، وإيمانا بالحيادية والموضوعية والمسؤولية الملقاة على الصحافة المستقلة بمحرريها وكتابها نرى من باب الحكمة، الا يلج كتاب إيلاف الأكارم وخاصة الزميل الكاتب خضير طاهر في مثل هذه الأمور الحساسة بشأن القضية العراقية لأنها تزيد الطين بلة، وتساهم في خلق مجادلات عقيمة لا مبرر لها نحن في غنى عنها، والإسناد الى القول القائل الكلمة الطيبة صدقة، والى الحكمة الكردية القائلة إذا لم تكن وردا فلاتكن شوكا، لنثر أي فكر أو جهد مخلص لخدمة العراقيين من كردستان الى البصرة، خير ما يمكن ان نختم به مقالنا لضمان حاضر مستقر آمن متسم بالعيش الكريم ومستقبل زاهر للأمة العراقية.
د.جرجيس كوليزادة
[email protected]
التعليقات