يتميز بيننا بملامحه الأوروبية، فشعره أشقر بعض الشيء، وعيناه خضراوان، وقد أعطته هذه الملامح وسامة في الوجه، وجلبت إليه أنظار المعجبين والمعجبات على حد سواء، صاحب ضحكة مميزة ومعهودة، تستطيع أن تميّز ضحكته من بين عشرات الضحكات الأخرى، حيث تبدأ بايقاع قوي ومرتفع وتنتهي بنغمة مخفضة ذات ايقاع موسيقي رنّان، يتحدث بحماس مطلق ويسترسل في حديثهِ كالسهم ولا يحب المقاطعة، وهذا الحماس يرافقه في أي حديث يخوضه، سواء أكان حديثاً خاصاً أم عاماً، عادياً أم مهماً، وبمجرد أن يبدأ عمله في القسم حتى تنهال عليه الاتصالات الهاتفية تباعاً لا تتوقف، الهاتف المباشر يطلبه، والهاتف الداخلي أيضاً يطلبه، علاوة على الاتصالات التي تأتيه من الهواتف النقالة، ويملك طاقة عجيبة في الرد على كل تلك الاتصالات والتحكم فيها إلى درجة أنه يتكلم مع أكثر من شخص في وقت واحد، وأمام زخم هذه الاتصالات المتواترة أصبح ( سالم ) يفكر بصورة جدية في إدخال خدمة التراسل الالكتروني عبر شبكة الانترنت، لكي يستطيع أن يلبي كافة الاتصالات والطلبات..

ملتزم ومواظب جداً في الحضور والانصراف، لا يتأخر إلا نادراً، ويكره الخروج من العمل إلا في الحالات الضرورية جداً، أتى إلى قسمنا بعد فترة طويلة من تعيينه في الإدارة، حيث كان يعمل سكرتيراً للمدير العام السابق، بعدها انتقل لقسم الكمبيوتر، وانتهى به المطاف إلى قسم الملفات مسؤولاً عن جهاز الكمبيوتر، وبما أنه من النوع الأليف فسرعان ما يتأقلم مع المحيطين من حوله وهم بدورهم أيضاً يتأقلمون معه سريعاً، والحق يقال فهو صوت زملاءه في العمل، يعبر عن آمالهم وآلامهم واحتياجاتهم، وإذا ما ألمّت بأي واحد منا مشكلة فأنه يهب للدفاع عنه وحل مشكلته بكافة الطرق، لذلك رشحوه ليكون الناطق الرسمي باسمهم..

استحق بجدارة أن ينال لقب الخدوم صاحب الصدر الواسع والحنون، فما أن يطلّ علينا المراجع حتى يتلاقفه ( سالم ) بالأيدي والابتسامات وبالترحيب الحار، يعرفهُ أو لا يعرفهُ، رجلاً كان أم امرأة، مع إنـه يقدم النساء على الرجال تمشياً مع القول الأوروبي المشهور السيدات أولاً، ولا ينتهي الأمر إلى هنا، بل يجلسه بقربه ويقدم له الشاي ويتبادل معه بعض كلمات الترحيب، بعدها يشرع في استلام معاملته مع شرح مستفيض ومسهب لملابسات المعاملة ولا يتركه ( سالم ) إلا وقد انتهت معاملته على أكمل وجه، عندها يصبح المراجع زبوناً دائماً لديه، حتى أنكَ تود كثيراً أن تكون هناك نسخة طبق الأصل عنه في كل وزارة وإدارة لتسير معاملتك بصورة سريعة وسلسة تتفادى الروتين والانتظار الطويل، أما إذا كان المراجع عن طريق الهاتف فأيضاً يعامله بنفس الطريقة وبنفس الخدمة الفندقية، وإذا استعصى على المراجع الفهم فأنه يفهمه بكل الطرق مستخدماً معه كافة الوسائل التقنية الحديثة..

وفي بعض الأحيان يتكالب عليه المراجعون كالنمل، فيكلم هذا ويجلس ذاك ويجعل الآخر على قائمة الانتظار والرابع يجلسه على مقاعد الاحتياط، والخامس يتأهب للدخول عليه، والسادس في الطريق يأتي مسرعاً، والسابع يكون على خط هاتفه، أما الثامن فيكون على جهاز المناداة الخاص به، وهكذا أصبح ( سالم ) قِبلة المراجعين الثالثة..

لديه نزعة قيادية واضحة ربما اكتسبها أيام ما كان عسكرياً في الجيش، وقد تحققت له هذه النزعة بحذافيرها حينما خرج ( صلاح ) باجازة دورية، فترشح ليستلم مهام رئاسة القسم بدلاً عنه بشكل مؤقت، وجاءت رئاسته للقسم وبالاً عليه، أرادها راحة فتحولت إلى ( نياحة )، حيث تراكم عليه البريد الذي لم يتوقف أبداً، ومن جهة ثانية لم يجد الوقت الكافي ليمارس متعتـه الحقيقية في خدمة المراجعين الذين يتهافتون عليه من الجنسين، ومن جهة ثالثة عمله الأساسي بالكمبيوتر قد تـكـدس عليه هو الآخر، وغير ذلك الهاتف الداخلي الذي لم يتوقف عن الرنين دقيقة واحدة، يطلبون الملفات منه وباصرار شديد، وأمام كل هذا الضغط اليومي كان يقف ( سالم ) منزعجاً، متأففاً، صارخاً في أرجاء القسم: لقد سئمتُ وتعبتُ وبحَ صوتي، لا من ناصر ولا من معين، وهكذا كانت رئاسته للقسم عصراً خشبياً بالنسبة له، تذكرهُ بالمرارة والقسوة والضغط وبكثير من الاكتئاب..

ينزعج كثيراً من الجو الحار، ويستأنس منتشياً بالهواء البارد الذي تطلقه المكيفات، وبما أنه يجلس في زاوية بعيدة عن الهواء المباشر للمكيفات أصابه ذلك بالتململ والحساسية والحكة الصيفية، فكتبَ كتاباً يطالب فيه الإدارة بتركيب وحدة تكييف جديدة يزرعها بقربهِ لتمدهُ بالهواء مباشرة، ووقعنا جميعنا على هذا الكتاب برغبة شديدة منه وبرغبة منا أيضاً، وذهب الكتاب ممهوراً بتواقيعنا المزركشة يتبختـر بين مكاتب الإدارة، ولكن كان حظه كحظ غيره ممن سبقوه، النسيان التام والتجاهل المطلق، بعدها فكر ( سالم ) بطريقة ثانية، يجلب من خلالها وحدة تكييف جديدة وكان هذا شغله الشاغل ومحور حديثه طوال اليوم، حيث تناهى إلى سمعه أن هناك وحدة تكييف تقبع كالأرملة في مخزن الإدارة، فراح يفتش عنها إلى أن عثر عليها وأزاح أكوام التراب المعشعش عنها، بعدها أمر الفراشين بحملها كعروسة تتهادى إلى عريسها، وإذا بها قديمة جداً تعود إلى العصر الحجري، ولكن لم ييأس ( سالم ) إنما راح يردد المثل الشعبي المشهور ( العوض ولا القطيعة )، بعدها أجرى الاتصالات الواحدة تلو الأخرى بالقسم المختص لكي يقوموا بتركيبها وتثبيتها بجانبهِ مباشرة، وتم ذلك بعد محاولات جاهدة من قِبلهم لبث الروح الجديدة فيها، وما أن أحس ( سالم ) بنسمة الهواء الأولى تدغدغ مشاعره الخارجية وليس الداخلية، استرخى على مقعده منتشياً مستمتعاً بالهواء البارد مردداً: الحمد الله..

يشكو كثيراً ومراراً من الشمس التي تسطع عليه من خلال النافذة التي يجلس خلفها مباشرة، فهي عارية تماماً من أية ستارة ما جعلته عرضة لأشعة الشمس الحارقة، وعلى حد زعمه فأن الأشعة تلك تشوش عليه الرؤية العينية لشاشة جهاز الكمبيوتر، فسحبَ ورقةً ناصعة البياض مدوناً عليها مطالبته بتركيب ستارة ذات لون جميل، وراحت الأيام تدور وتوصل في النهاية إلى قناعةٍ مفادها أن كتابه ذهبَ أدراج الرياح، وبعد مشاورات فنية عديدة مع زميلنا ( أحمد ) استقر أخيراً على شراء ورق لاصق من النوع الذي يباع في مكتبات القرطاسيه، ليقوم بتركيبه على النافذه وتنتهي بذلك مأساته ومعاناته المريره مع أشعة الشمس..

بارع جداً في وصفه للأكلات بجميع أنواعها، وهذا الفاصل الإعلاني يأتي به ( سالم ) قبل نهاية الدوام بوقت قليل، تكون فيها معدته قـد استبد بها الجوع، وهذا الفاصل يكون مجانياً بالطبع، يصاحبه موسيقى تصويرية صاخبة منه إذا كانت الأكلة من النوع الدسم، أما اذا كانت خفيفة فالموسيقى تكون هادئه كلاسيكية، ولا يصف الأكلة فقط إنما ما يرافقها من رتوش جمالية ومقبلات واضافات تحسينية وما تستلزم من قواعد الجلوس والاسترخاء والراحة، واذا كانت الأكلات بحرية فأن وصفه لها يكون حماسياً للغاية، وكأنكَ تشاهد فيلماً سينمائياً حياً من النوع الأكشن..

يتفقد أحوال أسرته كل يوم في بداية الدوام باكراً من خلال الهاتف عن طريق ( جنترا ) خادمته الخاصه، حيث نتصورها هكذا: تنام بقرب الهاتف وبمجرد أن يرن فإنها تقف من فورها متأهبة، فإذا كان ( سالم ) يطلبها فالدم يتجمد في عروقها وترتعد فرائصها من الخوف، الويل لها إن كانت الأمور لاتجري حسبما يريد أو إنها تأخرت في الرد على الهاتف، يسألها بلهجةٍ عسكرية حادة عن أبنائه واحداً واحداً، ويردد عليها جملة من التنبيهات والأوامر والتحذيرات ويقفل الخط متنرفزاً على أن يعاود الاتصال بها مرة ثانية وبنبرةٍ عسكرية أقلّ حدة من الأولى، ولا يتركها هذه المرة إلا والأمور قد توضحت عنده كاملة..

أمـا ( سعيد ) سائق بيته الخاص فهو القناة الثانية، التي من خلالها أيضاً يتفقد أمور أسرته، وسعيد هذا لم نره أبـداً ولكن إسمه يتردد باستمرار على الهاتف، نتخيله لحوحاً وثرثاراً بعض الشيء، وحسب ما يصفه لنا ( سالم ) فأنه من النوع الذي يعمل كل شيء بالإضافة إلى عمله الأصلي، يصبغ، ويمسح، ويركب البلاط، ويفهم في الكهرباء، ويعمل في الصحي، ويطلبه ( سالم ) بشكل متواصل ويضع كل مشاويره وتحركاته تحت المراقبة الدائمة، واذا تسبب بمشكلة كبيرة أو صغيرة فالويل له كل الويل، أما وصاياه العشر المعهودة فيختص بها أم أولاده فقط كل صباح وأيضاً عن طريق الهاتف..

وفي محاولةٍ منه لتحسين أوضاعنا المعيشية داخل القسم، اقترح علينا شراء ثلاجة صغيرة، وتمّ ذلك بعد أن كلفَ ( أحمد ) بشرائها وقام بالفعل بتقديم عروضه عنها له، فرست المناقصة على أحد المعارض الصغيرة في شارع تونس، وجاءوا بها وأسكنوها بقربي بهية آمنة، فجهزها على الفور ( سالم ) بشتى أنواع الشوكولاته والمياه المعدنية والمشروبات الباردة واستثنى بالطبع المشروبات الثمينة ذات النكهات الخاصة، ثم أقفلها بالضبة والمفتاح ودسَ المفتاح في علاقة مفاتيحه الخاصة، وحدد موعداً معيناً لفتحها كل يوم والاستمتاع بما تحتويه، وفي كل مرة يفتحها يرجع يقفلها جيداً ليتأكد من أن الأيادي الطويلة والعابثة والدخيلة لا تمتد إليها..

وبين الفينة والأخرى يجد وقتاً مستقطعاً ليزودنا ببعض الأخبار الطازجة عن السياسة والاقتصاد والناس وأسعار السمك وهذه الأخبار بالطبع يستقيها من ( الديوانيات ) التي يتردد عليها كل ليلة ويجد فيها هوايته الوحيدة وحبه الكبير، وقبل نهاية الدوام بوقت قصير يكون فيه المراجعون قد انفضوا من حوله والهواتف توقفت عن الرنين في طلبه، يشرع ( سالم ) في تشكيل حلقات حوارية مصغرة يطرح فيها ما فاتته من أخبار أو ما تستجد من أمور ومقترحات خفيفة، وهذه الحلقات الحوارية عادة ما تكون سريعة وخاطفة لانه يتأهب للخروج من العمل مدّخراً ما يتبقّى لديه من طاقات إبداعية يجد لها في الخارج وقتاً كبيراً..


محمود كرم
كاتب كويتي
[email protected]

لقراءة مقالات اخرى في ايلاف