أرى أن أزمتنا الراهنة في جانب من جوانبها وبعد أن كانت أزمة بلد محتل، قد تحولت إلى أزمة لغوية. نجد الماضي الذي مضى وانقضى كما يؤكد التعريف اللغوي الرسمي، قد تحول وفق وجهات نظر كثيرة ومؤثرة في حاضرنا الراكد، إلى حاضر ومستقبل. حدث تلاشي لأزمان الفعل الثلاثة. لم يعد أمامنا سوى ماضي مستمر. الأمر الذي سيهدد درساً عتيداً من دروس اللغة العربية، ذلك هو درس (قواعد اللغة العربية) المضجر.
لم يعد مستغرباً رؤية جدل حام سواء كان بالكلام أم بالسلاح، بين فرقاء ينتمون مادياً للحاضر، حول ما حدث قبل أكثر من ألف سنة وكأنه قد حدث البارحة. نراهم يستنفرون كل قواهم العقلية والجسدية، لإثبات أو إبطال دعوى من الدعاوى التي مضى عليها غبار وركام أربعة عشر قرن. وفي ذهن كل طرف من الأطراف أن اتفاق الطرف الآخر معه في هذه الدعوة إثباتاً أو بطلاناً، يعد هو الانتصار الساحق والمفصل المهم الذي منه سينطلق قطار زمنهم، بعد أن توقف كل هذه المدة الطويلة.
لكن، من مفارقات هذا التلاعب، أن مدرسي القواعد المعاصرين الذين يدرسون لغتهم بالسيف والمنجنيق والسيارة المفخخة، وكما يجهدون عقولهم وسواعدهم على جعل ما حدث قبل أربعة عشر قرناً كأنه حدث البارحة، يعمدون كذلك إلى جعل ما حدث البارحة وكأنه مضى عليه أربعة عشر قرناً. والفيصل بين المزاجين في كل الحالات ليس المنطق النحوي، بل منطق الحاجة. إذا أراد أحدهم الهروب من استحقاقات أفعال منكرة حدثت قبل سنوات قليلة أو حتى أيام وذاكرة الشعوب لم تزل طازجة بروائح دماء الضحايا، يعمد إلى جعل الحدث ينتمي للماضي الذي مضى وانقضى وما علينا إن كنا شطار في درس القواعد، سوى أن ننساه..!! لماذا..؟ لأنه ماضي. تماماً على عكس ما يفعلونه وفعلوه في الحالة الأولى. وهذا لعمري لا يمكن وصفه سوى بالفتح المبين لشعوب قد توقفت فعلياً عن السير في ركاب زمنها، أما عجزاً ذاتياً أو قهراً خارجياً.
والآن إذا كان كل هذا ضرباً من اللغو في العموميات اللغوية، دعونا نتفحص واقع الحال على الأرض وكيف طبق فطاحل اللغة المعاصرون قواعدهم ونحوهم على حاضرنا ومستقبلنا، في النهاية على أجسادنا. أمامنا معسكران كبيران، أحدهما يحاول جعل ما حدث البارحة كأنه حدث قبل دهور وما علينا سوى نسيانه تماماً. والثاني يعمل على جعل ما حدث قبل دهور طويلة وكأنه حدث البارحة وعلينا أن لا ننساه أبداً. معسكر يريد إعفاء شلل البعثيين ومن لف لفهم من عصابات الجريمة المنظمة وغير المنظمة، الدينية وغير الدينية، من كل جرائمهم تحت بند عفا الله عما سلف، رغم أن دماء ضحايا هؤلاء لم تجف بعد. وشعار هذا المعسكر؛ هو أما النسيان أو أجعلكم تترحمون على ما سلف..!! والثاني يحاول إصلاح اعوجاج قد حدث في مراسم تسلم خلافة الرسول قبل أربعة عشر قرن. كان على المسلمين في ذلك الزمان البعيد أن يقلدوا صهر الرسول وابن عمه وحامل رايته ووصيه أمر الخلافة. يقولون هذا الأمر وكأنهم يتحدثون عن خلاف برلماني قد حدث البارحة ويجب إصلاحه الآن قبل فوات الأوان..!!
لكل معسكر فقهاءه ومجاهديه والمعسكران يحملان ذات النص الديني، إنما أحدهم يقلبه على ظهره والثاني على صدره.. المعسكران ينهشان بلحومنا.. ونحن نتقلى على جمر التأويلات والتأويلات المضادة..!!
كريم كطافة
التعليقات