بعد توقف الحملات الانتخابية للأحزاب التركية للفوز بمقاعد المجلس التشريعي، تشير استطلاعات الرأي الى تقدم واضح للرئيس الوزراء رجب طيب أردوغان وحزبه المعتدل الذي حقق لتركيا تقدما ورخاءا ملموسا في جميع الحياتية خاصة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية منها، ولا أن هذه التوقعات ليست نابعة من أرضية هشة أنما نابعة من مقومات ميدانية حقيقية أخذت نفسها الى الحضور من خلال البرامج والممارسات السياسية الحكيمة لأردوغان وحزبه المسيطر على الحكومة، فمن المتوقع ان يفوز بأغلبية ساحقة في البرلمان التركي لتمرير برنامجه الإصلاحي.
ضمن هذا المنظور، فان الأعمال الإصلاحية المميزة التي تدخل ضمن الإنجازات السياسية المتحققة لأردوغان على ساحة الدولة التركية التي تتكون من قوميتين رئيسيتين الترك والكرد، قد وفرت واقعا جديدا في تركيا من خلال توفير رخاء اقتصادي واجتماعي لأغلب أفراد الشعب، وكذلك من أعماله التي تستحق التقدير اعترافه بالمشكلة الكردية في تركيا وإقراره أنها بحاجة الى حل جذري ومنح حكومته لبعض التسهيلات الثقافية والاجتماعية للكرد كحق من حقوق المواطنة وكحق من حقوق التنوع الثقافي والقومي للمجتمع التركي، استجابة لمطاالب الأسرة الأوربية كشروط على تركيا للدخول الى السوق الأوربية المشتركة.
ولكن بالرغم من هذه التحولات المحسوسة، لم يتمكن أردوغان وحزبه وحكومته من التقليل من سيطرة المؤسسة العسكرية على الشؤون الاستراتيجية التركية، ومنها القضية الكردية، حيث لم تبادر هذه المؤسسة الى طرح حل يتسم بالحكمة لمعالجة قضية الحقوق القومية للكرد، بل على العكس دائما تبادر الى اختيار الحل العسكري بدلا من الحوار، والمشكلة ان إصرار الدولة التركية على حل القضية الكوردية فيها بالخيار العسكري بحجة محاربة حزب العمال الكردستاني والقضاء عليه طيلة العقود الأخيرة لم يتكلل بالنجاح بل زادتها تعقيدا، و الخيارات المطروحة من هذا الطرف تبدو أنها غير مجدية لحل قضية سياسية وقومية متسمة بالمطالبة الشرعية لنيل الحقوق الثقافية والسياسية للشعب الكردي الذي يقدر عدد نفوسه بأكثر من 30 مليون نسمة وهو القومية الثانية الرئيسية فيها بعد الترك.
والواضح للعيان أن هذه المعضلة هي المدخل الذي يمكن عن طريقه لتركيا الدخول الى الاتحاد الأوربي من خلال تطبيق المعايير الأوربية في منح الحقوق القومية والثقافية والسياسية للقوميات التي تتكون منها الدولة التركية، ولكن من خلال قراءة الواقع التركي تبدو أن المؤسسة العسكرية التركية لا زالت بعيدة عن تفهم المطالب الأوربية لفسح المجال أمام الدولة للدخول الى السوق الأوربي المشترك، ولا زالت هي بعيدة عن تفهم المرونة التي يبديها أردوغان لحل المعضلات السياسية والقومية في تركيا ومنها مسالة حزب العمل الكردستاني، ومرونة رئيس الوزراء تعتبر من محاسن الأمور في دولة تركيا التي تسيرها حزبه الإسلامي المعتدل، والإصلاحات السياسية التي ادخلها رئيس الحكومة ضمن منهاج مسار التحسن لتنفيذ المعايير الأوربية في مجال الحقوق السياسية والديمقراطية والثقافية إحدى الحلول المطروحة لحل المعضلات على الساحة السياسية التركية.
لهذا تأتي المعركة الانتخابية الحالية لأردوغان وحزبه، للفوز بفترة ثانية، من الضرورات الملحة لصالح الترك والكرد في الدولة التركية، لتكملة مشوار الإصلاح السياسي والقومي والاجتماعي، لوضع لبنات أساسية لحل المشكلة الكردية فيها، ومن الخيارات المطروحة ضمن هذا المجال هي الأصوات الحكيمة التي برزت في الفترة الأخيرة التي تطالب بتطبيق النظام الفيدرالي لحل مسألة القوميات، وهو حل يحمل معه معالجة جذرية للمشاكل السياسية والقومية والثقافية للأقليات والقوميات التي تعيشها هذه الدولة العلمانية الإسلامية، وهو يحمل في عين الوقت حكمة وعقلانية كبيرة في مكامنها لغرض ضمان الاستقرار والأمن والسلام في دولة تتسم بعلمانية معتدلة لإبعاد مخلفات التركة الثقيلة للإسلام المتشدد وشبح الحروب المذهبية والدينية عن الدولة التركية.
استنادا الى هذا الواقع الجديد الذي أخذ يفرض نفسه بصبر وتأني على الساحة التركية، من خلال قراءة السياسة الإصلاحية لرجب طيب أردوغان، فان التوجه الجديد لهذا القيادي الإصلاحي الشرق الأوسطي لدمج التيارات العلمانية والماركسية والليبرالية في حزبه واختيار ممثلين من هذه التيارات لتمثيل حزبه في البرلمان، يشكل خطوة حكيمة جدا لتجديد قيادات حزبه وتغذيته بمنابع جديدة لتيارات فكرية معاصرة تستند في رؤيتها الى معطيات حديثة وإنسانية ودمجه بالتيار الإسلامي المعتدل لحزبه، ويشكل خطوة بارزة لإرساء بنيان فكري وتنظيمي عملي يساعد على القيام بإصلاحات أكثر جوهرية وأكثر عمقا داخل نسيج المجتمع وداخل نسيج بنيان الدولة التركية التي أقيمت على أسس حان لها أن تتغير وان تتجدد لتلبي متطلبات العصر الذي نعيشه الذي يتسم بتحولات سريعة مرتبطة بالعولمة وحقوق الإنسان والانفتاح الدولي العام في القضايا السياسية والاقتصادية والتجارية، لإخراج الدولة من أزماتها السياسية والقومية والاجتماعية والاقتصادية التي تعاني منها من عهود طويلة، وهذا التوجه يشكل دعوة حكيمة للبحث الجاد في إيجاد وسائل ضامنة حقيقية لمعالجات القضايا الأساسية من جذورها للوصول الى إرساء أركان تأسيس الدولة وفق معطيات جديدة لصالح مصلحة الأمة التركية للحفاظ على الخصوصية القومية والثقافية المتنوعة لدى مكونات هذه الأمة التي تتركب من قوميتين رئيسيتين هما الترك والكرد.
من هذا المنطلق يتبين ان فوز رجب طيب أردوغان بفترة ثانية، خمس سنوات، لإدارة الدولة التركية، يشكل قاعدة أساسية لاستمرار النظام الإصلاحي الذي طرحه وقام به هذا القيادي المتجدد، الإصلاح الذي يمكن من خلاله إيجاد المنفذ الأساسي لحل القضية الكردية في تركيا، من خلال تقوية النظام الديمقراطي لإدارة المقاطعات أو الولايات أو المحافظات الكردية التي تمنح سكانها الحق الشرعي والدستوري للمطالبة بحقوقهم الطبيعية، وهذا ما يساعد على إقامة وإرساء حكومة وإدارة محلية تتسم بالشفافية والإدارة الناجحة لتحقيق مطالب المجموعات السكانية الممثلة لها حسب مناطقها ووحداتها، والميزات أساسية في الهياكل التنظيمية والمؤسساتية لإدارة الدولة وفق هذا السياق، تلبي رغبات الشعب وتساعد على تحقيق مطالبه، لأنها تستند الى نهج ديمقراطي مثبت في الدستور العلماني للدولة، لهذا فان هذا النظام الإصلاحي لإدارة الحكم يشكل قاعدة أساسية لحل جوهري لكافة القضايا الأساسية التركية ومنها القضية الكردية.
لهذا نجد ان إعادة انتخاب رجب طيب أردوغان تشكل الحجر الأساسي لتواصل الإصلاحات المتحققة على الساحة التركية لصالح الكرد، وإسنادا الى ما متوفر في واقع الأمر من نماذج متنوعة في مشهد النظام الديمقراطي لهذه الدولة، نجد أن أردوغان من أفضل الخيارات التركية المتاحة على الساحة لصالح الشعب الكردي، للاستناد اليه والتفاهم معه لحل القضايا القومية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية المرتبطة بالواقع الكردي المتسم بالصعوبة والقساوة نتيجة محاربة الدولة التركية لهم وممارسة سياسة القمع ضدهم طيلة العقود الماضية منذ تأسيس الدولة التركية الحديثة.
ووفق الحسابات الحالية والاستناد الى قراءة البرامج السياسية التي تطرحه الأحزاب التركية، نجد أن برنامج أردوغان يشكل مدخل جوهري بحكم ما هو متاح وفق حسابات الأمر الواقع لإرساء بداية جيدة لحل القضية الكردية، وعلى هذا الأساس يمكننا القول أن أردوغان يمكن حسابه أفضل صديق للكرد في تركيا في ظل المعطيات المتوفر على الساحة السياسية، لضمان أمل كبير لإرساء حلول جذرية لمعالجة الواقع الكردي وإرساء نظام إداري سياسي مرن لإدارة المقاطعات الكردية ليشكل رؤية حكيمة لتهيئة المقومات الأساسية التي سترتكز عليها بناء الدولة التركية الحديثة لتلبية تطورات الحاجات الحاضرة والمستقبلية للأمة التركية بتركها وكردها لضمان مستقبل زاهر، وانطلاقا من هذا المنظور فإن توجهات رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان لتجاوز الآثار المتخلفة عن الحروب والأزمات القائمة عليها، لإرساء نموذج جديد لإدارة دولة حديثة قادرة على النهوض بالترك والكرد تشكل ضمانة أساسية لرسم حاضر مشرق ومستقبل زاهر لتركيا الحديثة.


د.جرجيس كوليزادة
[email protected]