كان الرئيس المصري جمال عبد الناصر يرى أن مجتمع الدول يشبه مجتمع الأفراد من حيث العلاقات التي تربطه والعناصر المؤثرة فيه.
وقد كانت تلك الرؤية تبدو غريبة الى حد كبير، باعتبار أن الدول تتعامل بطريقة دقيقة لا مجال فيها للمزاج، إنما المصلحة هي التي تحدد مواقفها، وظل عبد الناصر متمسكاً بهذه النظرة طوال فترة حكمه، فأقام تحالفاته وعلاقاته مع المعسكر الشيوعي، ومد نفوذه الى الدول العربية، وحدد أصدقاء مصر وخصومها وفق هذه النظرة.
بعض منظري السياسة إعتبروا ان فكرة عبد الناصر تسطيح للعلاقات الدولية التي تتحرك وفق أسس أعقد بكثير مما يمكن مقارنته بعلاقات الأفراد، لكن عند رصد مشاهد السياسة الشرق الأوسطية على الأقل نلاحظ أنها لا تخرج عن الصورة التي رسمها عبد الناصر، فالمزاج والرغبة والخزين الشخصي له أثره البارز في تحديد سياسات الحكومات، وهذا ما نلاحظه في الموقف من العملية السياسية في العراق، فالرئيس مبارك صرح قبيل سقوط نظام صدام، أن من الخطأ تطبيق النظام الديمقراطي في العراق، لأنه سيأتي بالشيعة الى الحكم، لقد إندفع مبارك في رفض مستقبل عملية سياسية كاملة، لأنها لا تنسجم مع قناعته الشخصية بالشيعة.
كما نلاحظ ذلك مثلاً في موقف دولة اخرى من العراق، حين أزمت علاقتها معه لأن رئيسها لايحب المالكي.
شواهد كثيرة يمكن أن نجدها في الكثير من المواقف التي تتحدد في سياسة دول الشرق الأوسط، إنها عملية شخصنة للموقف السياسي، مع أن الأشخاص يتغيرون والدول باقية، لكن هذه الحقيقة لا يراد التعامل معها على الإطلاق.
الوضع السياسي العراقي في مفاصله الأساسية يخضع لهذه النظرة أيضاً، فتحالف الأحزاب والكيانات تخضع للجانب الشخصي عند الكثيرين، أكثر من المصلحة الوطنية.
كنت أتحدث ذات مرة مع رئيس حزب سياسي عراقي في البرلمان، وكان متحاملاً على حكومة الجعفري، وعلى سير العملية السياسية في العراق، فتدخل أحد النواب ليقول له أنني سمعت الدكتور الجعفري يذكرك بخير، أثار الكلام إنتباهه، وأستفسر من النائب كيف عرف ذلك، وعندما تأكد، غير رئيس الحزب موقفه في تلك الدقائق السريعة، ثم طلب مني أن أرتب له لقاءاً مع الجعفري.
لقد غير الرجل موقفه من الحكومة والعملية السياسية، وهو الذي ينتهز أية فرصة ليدلي بتصريحات نارية تضج بالشكوى واليأس والقنوط..
لم تكن المواقف إذن منطلقة من رؤى سياسية ثابتة، إنما من رغبات وأمزجة ومشاعر، شأنها شأن أية قضية شخصية أخرى.
مع بقاء الشخصانية في المواقف، علينا أن لا نتوقع تغيراً مؤثراً في العملية السياسية، وعلينا أن نعرف أن الأمور ستتحرك ببطئ شديد، ريثما يغير البعض مواقفه الشخصية من الآخرين، وريثما يعيد البعض الآخر قائمة مصالحه، ليقرر مع أي طرف تتحقق. وهذا يعني أن المصلحة الوطنية ستبقى مؤجلة حتى حين.
د. سليم الحسني
التعليقات