قد يجادلني البعض بان القطيع لا يمتلك ثقافة،فالثقافة واكتسابها هي ميزة خاصة بالانسان، وبالاخص الانسان المتمدن والذي يعيش في خضم الحضارة الانسانية، الا انني اقول ان الثقافة هي اكتنساب مهارات جديدة لم تكن موجودة، ويميز الانسان عن مجموعة من الحيوانات او القطيع هي قدرته على تطوير المهارة المكتسبة، واظن ان القطيع قد يكتسب مهارة ما ولكنه لا يطورها، فالخراف اول ما تجمع لتوضع في قطيع اغنام، لا تدرك التصرف ولكن بمهارة الراعي يكسبها مهارة التجمع عند صفير ما والتحرك عند صفير مغاير، اذا يمكن ان نقول ان للقطيع ثقافة ولكنها هي هي منذ الاف السنين ويكتسبها من الراعي ولا ينقلها الى الاجيال التالية بل يقوم كل راعي بتعليم القطيع ما سبق وان قلناه ومنذ الاف السنين.
اذا الثقافة هي اكتساب مهارات وتطويرها ونقلها، ولكنها ايضا استنطاق هذه المهارات وجعلها تخضع لمحاكمة العقل والمنطق من منطلق المكتسبات التي يمتلكها الانسان، فالمهارة والمعلومة والخبرة لا تؤخذ بلا محاكمة عقلية واعية، اي ان الانسان لا يسلم قيادته بسهولة لكل جديد الا بعد ادراكه لفائدة الجديد ولاهميته.
بالتأكيد ان الانسانية قد تطورت ولم تبقي ثابتة وكل الشواهد تدل على ذلك، من الاثار والكتب التاريخية وما نقل الينا شفاهة، وهذا الامر ليس بصعب على الادراك، لا بل ان كل منا يشاهد ويرى التطورات الجديدة والتي يضطر الى استعمالها لانها بعد ان كانت كمالية صارت من الضروريات.
في العالم المتدمن هناك ادراك ان كل فكرة او مخترع او حركة اجتماعية فيها جوانب ايجابية وجوانب سلبية، فليس هناك شئ كله ايجابي، ولكن هناك امور تأخذ بيدك نحو المستقبل، تساعدك في توفير الغذاء والملبس والكساء وتسهل الحياة اليومية للانسان، الا ان نفس الاشيائ يمكن ان تستغل لتحقيق بعض الامور التي يعتبرها المجتمع سلبية.
في بداية احتكاك المجتمع الشرق الاوسطي وخصوصا منطقتنا المسماة الشرق الاوسط، بالغرب ومشاهدة وتعامله مع الاته وعاداته الجديدة سماها بدع وكل بدعة حرام، لان المجتمع كان ساكنا راكدا على امور وعادات لم يطورها لقرون طويلة بحيث صارت الحياة وممارسات الانسان فيها نمطية ولا تغيير فيها بين حياة الاباء والابناء والاحفاد لاجيال طويلة.
ولكن محاربة الجديد كانت محاولة لنطح الصخرة، فالجديد حفر طريقه بقدرته على طرح نفسه الضرورة للكل، واول من انحنى وتقبل الجديد كانت الطبقات الحاكمة والتي تمتلك الثروات، ولكن تقبل المجتمع للجديد وبشكل دائم بحذر شديد وشك كبير وفي الكثير من الاحيان بالتحريم والافتاء ضده، كلف المجتمعات سنوات طويلة من العمل والثبات والركود في حين ان العالم كان في كل لحظة يتقدم ويتطور ويجتاز المسافات الكبيرة نحو افاق المستقبل.
اليوم ورغم النجاحات التي حققتها النظم لسياسية الغربية باشكالها الليبرالية، اي التي وصلت الى وضع قيم ثابتة وتعتبر اساسية لاي نظام يمكن القول فيه انه الافضل من ناحية تمثيلة للشعب، وهذه القيم والممارسات هي ( الانتخابات الدورية، الحريات الفردية، فصل السلطات، القانون الشامل الجامع والذي هو فوق الجميع، المساواة بين الافراد والمجموعات بالحقوق والواجبات، نظام الحماية الاجتماعية) كل هذه الامور لا يختلف عليها بين مختلف مكونات المجتمع السياسي لهذه النظم، بل الاختلاف يكون في التفاصيل الجزئية وعلى الاغلب في كيفية توزيع الدخل ونسبته على القطاعات المختلفة.
نقول رغم كل هذه النجاحات على المستوى الداخلي والخارجي لهذه الانظمة، حيث يمكن القول بحق انها النظم التي حققت اعلى رفاهية مادية وقانونية وحريات فردية لمجتمعها ولكل فرد فيها، تبقي منطقتنا مشدودة الى الماضي واسيرة له، بانجازاته الوهمية وبقيمه التي ما عادت تؤام العصر لا بل ان هذه القيم يتم تلقينها للفئات المحرومة على الاغلب لكي تقنع بواقعها المزري، اما الطبقات العليا فامامها كل الابواب مشروع لتغرف وتتمتع بكل ما يتمتع به الانسان في المجتمعات الغربية.
ان الاصرار العجيب والغير المنطقي القائم على اجترار الماضي وقيمه رغم مخالفته لقيم العصر وما فيه من وسائل الحياة وادواته لهو بحق تطبيق لثقافة القطيع، فمن الناحية هناك اثبات متكرر للبقاء في ما انتج ماضيا وعدم تجاوزه، وكل تجاوز لما انتج في الماضي هو حرام ومروق من الدين وبدعة وكل بدعة حرام، ومن ناحية اخرى تكرارا لما تم ممارسته في كل السنوات التي اعقبت انقلاب 23 تموز (يوليو) في مصر من السير خلف المهرجين الشعبويين، والذين استسهلوا اغداق الناس بهدايا او بالاصح برشاوي (مثل دعم السلع والذي يستفاد منه الاغتياء قبل الفقراء، وزيادت الرواتب من خلال بيانات الانتصار وليس على اسس اقتصادية، والدعوة لزيادة النسل بشكل عشوائي) على حساب اقتصاد بلدهم.
واذا كانت قبل نصف قرن او اكثر العملية مقتصرة على رؤساء البلدان، فاليوم الظاهرة تشيع في كل البلدان وكل يخرج بفتاوي مستندا الى من افتى وكتب قبل اكثر من الف سنة ينتشر صيته ويصبح فجأة احد منقذي العباد وتلتلف حوله الجماهير والاتباع مناصرين باذلين الغالي والرخيص لاجل القائد الجديد والذي تسبغ عليه صفات الله سباحنه لا يدعيها.
ولو اردنا الامثلة من حياتنا اليومية ومن ايران الى المغرب لوجدنا مئات التنظيمات التي تنسخ نفسها وباسماء مختلفة وايدولوجيات عديدة تكرر الخطاب الانقاذي والحلاصي في اناس قتلهم الجوع والمرض ولم يعد يهمهم من العالم غير خلاص الذات من واقع مزري وليذهب العالم الى الجهيم.
ثقافة القطيع تجعلنا نردد جمل القادة وخطاباتهم المملة والمكررة صيغة ومضمونا، خلفهم دون ان تخطع ولو عقليا للتفحص والنقد، فكل الانقاذيين هم اخر المخلصين ومن بعدهم الطوفان والدمار والانحلال، ولم يقل لنا احدا لماذ تعيش اسرائيل مثلا في بحر من الاعداء ولكنها تغير ساستها وقيادتها تقريبا كل عقد من الزمان ولا زالت تتطور وتتقدم؟، لماذا يحدث هذا في الغرب ولا يزال يتطور ويتقدم؟، ولماذا وبحجة التطور والتقدم ومنافسة الغرب الاستعماري يتملك احدهم ويسحبنا الى حروب وقتال اهلي شرس ودكتاتورية لا مثيل لها، نسلم له القيادة بكل خشوع وخوف ورعب، ولكننا نتراجع في كل الميادين، فالديون الغربية تزداد علينا، والفقر يقفز بدرجات عالية في سلم النسبة المئوية، والتضخم ياكل مدخراتنا، والناس تهرب من اوطاننا ولو تعرضت لمخاطر كبيرة قد يكون نتيجتها الموت كما هي حال الغرقي في مياه المتوسط من بحر ايجا ولحد جبل طارق. انها ثقافة القطيع تلك التي تجعل الجميع يشتركون في تجارب متكررة للفشل والتدمير الذاتي، لان المشتركون لا يعون التجارب السابقة لكونهم ببغاواة تردد ولا تعيش التجربة.
ان الراعي يامر والرعية تطيع فالراعي منزل عليهم هبة من الله فالا يدعي انه يحميهم من قطيع الذئاب، ولكن راعينا يعمل باصرار وباقتدار على خلق ذئاب مفترسة وجروح تسيل دمائها لكي تلهب مشاعر الذئاب ويسيل ريقها على الهجوم مستبقا لاي انقلاب للرعية عليه، قائلا فلتنقلبوا ولتدركوا قيمتي بعد ذهابي، فانكم الان متروكون لتنهش فيكم الذئاب من كل حدب وصوب.
وهذه الثقافة، ثقافة القطيع، تجلعنا نبكي على من سلب حريتنا،على من جعل وطننا سجنا كبيرا، على من وسع وجدد الشروخات في مكونات شعبنا، لاننا اسلسنا له قيادتنا واستسهلنا تحقيق منجزات كلها اكاذيب وادعات وانتصارات على الاخرين وفي تصورنا ان وضعنا سيتحسن بعد ان ننتصر على الجميع ونخضعهم لارادتنا ونتمتع بما سينجبرهم على عمله
لنا، انها ثقافة القطيع هذه التي تسهل كل الامور لنا، ولم تقل لنا وهل سيقبل من ناضل وقدم التضحيات لكي يصل الى ما وصل اليه لنا لكي نلتهمه ونجعله عيدا مطيعا.
[email protected]