على أغلب الظن، أنه كان في تقدير المراهنين على الحلف العوني، خلال إنتخابات quot; المتن quot; الأخيرة، ما سيعقبها من تلبد الأجواء بين الموارنة والأرمن. هؤلاء الأخيرون، كما هو معروف، إختاروا صبّ أصواتهم في خانة الجنرال، ووفقا لحسابات تخصّ لعبة التحالفات، المعقدة، في بلد يمور بالتجاذب السياسي والإحتقان الأمني والتدخل الإقليميّ. الآن، وقد إنقشعت تلك الغمامة، العابرة، بإنطواء صفحة الإنتخابات الجزئية، سيكون من المفيد، والضروري، تسليط الضوء على إشكالياتها وعِبَرها ؛ وتحديداً، ما يخصّ العلاقات المارونية ـ الأرمنية. إذ شاء بعض المتصيدين في الماء الآسن، في داخل وخارج لبنان، التعويلَ على ذلك الإشكال الطاريء، الموصوف، بهدف إدامة جوّ التوتر في منطقة quot; المتن quot;، بل والإقليم المسيحي برمته. فكان أن خرج علينا هؤلاء، عبر الوسائل الإعلامية المختلفة، بخرافة quot; العنصرية اللبنانية quot; ضد الأرمن ، وأنّ من تجلياتها ما ورد على لسان هذا الزعيم الكتائبي أو ذاك القواتي من إنتقادات شديدة اللهجة لممثلي تلك الطائفة، وخصوصاً حزب quot; الطاشناق quot; المتحالف مع المحور العوني.
تاريخياً، الهجرة الأرمنية إلى لبنان لم تبتدأ، كما يزعم، إثر quot; فرمان quot; الجينوسايد العثماني لعام 1915 ؛ بل هي أقدم من ذلك بكثير. فالكنيسة الأرمنية، العريقة، كان لها تأثير مهم في السلطنة خلال تاريخها في سورية الطبيعية، والتي كان جبل لبنان، الجميل، أحد أغنى ولاياتها. وحينما إعتمد الباب العالي تقسيم الولاية تلك، إثر حوادث 1868 بين الدروز والنصارى، وجعلها سنجقين يتبعان مباشرة سلطته، كان مما له مغزاه أن يعهد لأرمنيّ إدارة السنجق المسيحي. بيد أنّ الوجود الأرمنيّ في موطن الأرز، شهد توسعاً كبيراً، إعتباراً من العقد الثاني للقرن العشرين، بعيد نزوح عشرات الألوف من أبناء ذلك الشعب المنكوب آنذاك بفرمان الإبادة، الموسوم آنفاً. في سورية، كما في لبنان، هبّ السكان لإستقبال أولئك النازحين، الفارين بأرواحهم من الهمجية التركية، فتمّ تأمين المسكن والكساء والقوت لهم. ويسجل التاريخ للشيخ بيير الجميّل ـ الزعيم المارونيّ ومؤسس حزب الكتائب ـ مبادرته لمنح الأرمن النازحين الجنسية اللبنانية ؛ وهي المبادرة، التي يحاول البعض تجاهلها الآن على خلفية معركة المقعد الماروني في quot; المتن quot;.
من المعروف، أنّ النظام اللبناني دستورياً مبنيّ على ما يسمى بـ quot; صيغة 1943 quot;، التوافقية، والتي أنجزت في أواخر العهد الإنتدابي الفرنسي، لتكون ضمانة لحقوق المسيحيين بشكل خاص. هذا النظام، المتعيّن وفقه إحقاق العدل والمساواة بين الطوائف اللبنانية، ما كان مثالياً بطبيعة الحال. وإذ وجد الكثير من أبناء الجماعات الأثنية، النصرانية، من طريدي الأنظمة الغاشمة ـ كالأرمن والآشوريين والسريان ـ ملتجاً لهم في موطن الأرز وحصلوا من ثمّ على حقّ حمل جنسيته ؛ فبالمقابل، حُرم من هذا الحق، المشروع، أولئك المهاجرون المنتمون لطوائف إسلامية ـ كالأكراد بشكل خاص. كذلك الأمر بالنسبة للفلسطينيين، المقيمين في مخيمات البؤس ، والذين تمّ إستثناءهم دوماً من قانون التجنيس بحجة الحفاظ على ما يسمى بـ quot; حق العودة quot;، مما فاقم من مرارتهم ودفع العديد من منظماتهم بالأخير إلى الإرتهان لهذا النظام العربيّ أو ذاك في سعيه لتقويض التجربة اللبنانية، الديمقراطية، وصولاً إلى إحتلال البلد عسكرياً. إذا كان أكراد لبنان، وبعد عقود طويلة، مريرة، من الحرمان والغبن والتجاهل، قد تمكنوا من نيل حق المواطنة الكاملة ؛ إلا أنّ الإصرار على حجب هذا الحق عن الفلسطينيين، والعودة إلى الأسطوانة السقيمة المعنونة بـ quot; التوطين quot;، إنما سيعمّق حالة اللا عدالة، الموسومة، في النظام اللبناني. فضلاً عن إدامة الحالة النفسية، المحبطة، لدى سكان المخيمات والتي هي بمثابة برميل بارود قابل للإشتعال في كل مرة ؛ كما في أحداث quot; نهر البارد quot;، المندلعة اليوم.
quot; إغتيال الديمقراطية بالعنصرية! quot;. بهذا العنوان العريض، خرج علينا صاحبُ إحدى أهم الصحف اللبنانية، اليسارية، في إفتتاحيته المخصصة لتقييم نتائج الإنتخابات الجزئية على مقعد quot; المتن quot;. هذه الصحيفة، لا تخفي تعاطفها مع المعارضة اللبنانية، المرتهنة قلباً وقالباً للأجندة السورية ـ الإيرانية. وها هي الإفتتاحية، ملخصة هنا في الجملة التالية، الواردة في متنها: quot; ففي خطب وتصريحات وكلمات متلفزة عبّر بعض قادة الخاسرين عن عنصرية بغيضة لم تصب الأرمن وحدهم، بل هي أصابت اللبنانيين جميعاً، بما في ذلك quot; الموارنة الطبيعيون quot;، الذين يرون أنفسهم كما سائر إخوانهم من اللبنانيين أبناء شعب واحد، وإن إختلفت الإنتماءات الدينية والمذهبية، وحتى quot; القومية quot; كما بالنسبة لأصول الأرمن خاصة وبعض الأقليات التي إكتسبت الجنسية اللبنانية في ظروف مختلفة قد تتصل بظروفهم حيث كانوا quot;. ربما أنّ هذه الخلاصة، المعنية، لتلخص مجمل ردّة الفعل لدى فريق المعارضة اللبنانية، فيما يمكن وسمه بـ quot; الحالة الأرمنية quot; الناتجة عن تلك الإنتخابات. وإذ أثرنا، منذ مستهل المقال، مسألة تعويل البعض على تلك الحالة، الموسومة، فلنقل أنّ هؤلاء قد تمادوا في إثارة الضغائن في الإقليم المتنيّ، حدّ الزعم بأنّ الأرمن قد أخرجوا من لبنانيتهم ومن مسيحيتهم، بل وطولبوا العودة إلى بلادهم الأصلية quot; أرمينية quot;! ليس في وارد مقالتنا هذه، مناقشة أفكار تلك الإفتتاحية. إلا أنه لا يمكن تجاهل ما فيها من تناقض وقلب للحقائق رأساً على عقب. فكيف يمكن زعم الدفاع عن الأرمن اللبنانيين، فيما أنّ بديهية تمايزهم، القوميّ، توضع ضمن هلالين من الريبة والمظنة؟ ـ كما يمكن ملاحظته فيما سلف من الفقرة المستلة من تلك الإفتتاحية. وربيبو النظام البعثيّ، أنفسهم، يغضون الطرف أيضاً عن حقيقة أنّ أرمن سورية، مثلهم في ذلك مثل بقية مكونات الوطن، مدرجون ضمن الصفة quot; العربية quot; ومحرومون بالتالي من معظم حقوقهم الثقافية والسياسية. هذا، دونما تكرار الحقيقة الاخرى، الصارخة في فضيحتها، عن مئات ألوف المواطنين الكرد السوريين، المحرومين من حق المواطنة. وهو الحق نفسه، الذي لا يجد الرئيس القائد حرجاً في المساومة عليه، الرخصة، في سوق المزايدات العروبية تمويهاً من جهة لصفة نظامه الطائفيّ ، البغيض، وكسباً من جهة اخرى لعواطف الجارة تركية ( عدوة الأرمن! )، التي مُنحت مجاناً الحق السوريّ، التاريخيّ، في لواء إسكندرون، وتشجع الآن على إلحاق كركوك بخريطتها العشولئية، العنصرية.
يقيناً أنّ الديمقراطية بخير، ما دام حاضنتها، موطن الأرز، بعيداً عن وصاية النظام السوري ـ الإيراني، الديكتاتوري. أما العنصرية، فهي صفة هذا النظام، الأبرز، بعد صفته الطائفية، الوخيمة! هذه الحقيقة، الساطعة في دلالاتها، يتناساها أولئك اللبنانيون، المطبلون في جوقة المقاومة والممانعة والجهاد المقدس. علاوة على حقائق اخرى، ليس أقلها أنّ خطابهم العروبيّ، الشوفينيّ، الذي أكل عليه الدهر وتقيأ، هوَ من يضرب مقتلاً في الديمقراطية اللبنانية، وليس هذا التصريح الإنتخابيّ، العابر، أو ذاك. وعطفاً على تلك الجملة، المقتطعة من إفتتاحية الصحيفة الثورية، ليرى المرءُ أنّ مصطلح quot; الموارنة الطبيعيون quot;، يعاد الآن بعثه من رقدته، بعدما تمّ دفنه مع آثار الحرب الأهلية. هذا المصطلح، بحسب منطق الطرف العروبيّ (أو اللا منطق، في واقع الحال!)، ما كان له إلا أن يقف بمواجهة مصطلحهم الآخر quot; الموارنة الإنعزاليون quot;. لقد نظر دوماً لأدوات التدخل الإقليميّ في شؤون لبنان، من الموارنة خصوصاً، على أنهم الورثة المخلصون لرسالة أهل النهضة، التي آهلت في نهاية القرن التاسع عشر، وكان النصارى من أهم حملتها. فيما أنّ الواقع، كان على العكس من ذلك تماماً: فأهل النهضة أولئك، كانوا قد نشطوا في تأسيس الصحف والنوادي والأحزاب المناوئة للإستبداد العثماني، وبمعونة فعالة من القنصليات الغربية ؛ وخصوصاً، الفرنسية والبريطانية والأمريكية! وهذا ما يواصله، اليوم بالذات، أحفاد أهل النهضة اللبنانية، الموصوفون بـ quot; الموارنة الإنعزاليين quot; ؛ حينما تضطرهم التدخلات الخارجية، الفظة، للمحور الإيراني ـ السوري ، إلى الإستنجاد بالمجتمع الدولي لمواجهته وللحفاظ على إستقلال البلد ونظامه الدستوري الحرّ.
التعليقات