بمناسبة تأديته القسم لولاية دستورية ثانية مدتها سبع سنوات القى الرئيس بشار الأسد في السابع عشر من تموز الماضي خطاباً امام مجلس الشعب.اتسم خطابه هذه المرة بالدبلوماسية والمهادنة،وخلا من لغة التحدي والتصعيد مع المجتمع الدولي الذي خفف بدوره من ضغوطه السياسية على دمشق،حيث استقبلت في الاسابيع والأشهر القليلة الماضية العديد من الوفود الرسمية الأمريكية والأوربية.طبعاً من غير أن يعني بالضرورة ان ثمة تحول مهم في السياسة الخارجية لسوريا أو حصول تغيير نوعي في طريقة تعاطيها مع الملفات الساخنة في المنطقة.اذ اكد الرئيس الأسد في خطابه على تمسك سوريا بخياراتها السابقة وبثوابتها الوطنية والقومية،قال:((..لقد أكدت تطورات الاحداث.. صوابية رؤيتنا.. ومشروعية مواقفنا.. وزادتنا تمسكا بنهجنا وثباتا على مبادئنا.. لقد جعلتنا أكثر اصرارا على المقاومة نهجا وخيارا لاحقاق الحقوق وعودة الارض وصيانة الكرامة..)). بالنسبة للشق المتعلق بالوضع الداخلي من خطاب الأسد، وهو الأهم بالنسبة للشعب السوري، بدا جلياً ان الرئيس من جملة ما توخاه، من خطابه، التخفيف من حدة اليأس والتململ في الشارع السوري الناتج عن سوء الأوضاع المعيشية وتفاقم مشكلة البطالة في البلاد.كما اراد تطمين السوريين وعقد آمالهم على ولايته الثانية، بعد أن خابت في الأولى، فيما يخص معالجة العديد من القضايا والملفات الداخلية الموضوعة على الطاولة تنتظر الظرف والوقت المناسبين،ملف الاصلاحات،قانون الأحزاب وآخر للاعلام، ملف الفساد،ثم ملف المحرومين من الجنسية، وقد تطرق الأسد ولأول مرة عن تعقيدات وحيثيات هذا الملف.تطمينات الرئيس الأسد للشعب السوري جاءت من خلال تأكيده مجدداً على ان مسيرة الاصلاح والتحديث في سوريا مستمرة حتى تحقق كامل اهدافها بالرغم من الصعوبات والعقبات التي تعترض طريقها والتي تعود،بحسب ما جاء في خطاب الأسد، بشكل اساسي الى العوامل والضغوطات الخارجية المتزايدة على سوريا والى توتر الأوضاع الأمنية في المنطقة التي جعلت من (الأمن والاستقرار)، في مقدمة أولويات السياسة السورية،قال: ((.. حيث أعاقت ظروف عديدة بعض التوجهات السياسية التي كنا نرمى الى انجازها.وقد كانت الغاية العليا بالنسبة لنا.. وسط الفوضى العارمة.. التي يصدرها البعض الى منطقتنا.. وباتت تحيط بنا..الحفاظ على الامن والامان الذى يعيشه مواطننا وضمان الحياة المستقرة التي ينعم بها شعبنا..)).في الحالة السورية، كما هو حال معظم الأنظمة الشمولية، لا فصل أو لا فرق بين أمن النظام وامن الوطن.
بالرغم من التراجع الملحوظ في الضغوط الخارجية على دمشق، يرى العديد من المراقبين والمحللين السياسيين ان ثمة مخاوف وقلق لدى القيادة السورية من المستقبل ومن ما قد تحمله المرحلة المقبلة من تطورات واحداث وصفها الرئيس الأسد بالمصيرية،قال: ((هذا العام وربما اشهر من هذا العام ستحدد مصير ومستقبل المنطقة وربما العالم كله)).طبعاً،من غير أن يحدد الأسد ماهية وطبيعة هذه المرحلة المصيرية.هل هي مرحلة حروب مدمرة ستنفجر في المنطقة على خلفية الملفات الساخنة(لبنان،فلسطين،العراق،ايران)؟.أم انها مرحلة تسوية وسلام دائم وشامل، ينهي الصراع التاريخي بين العرب واسرائيل؟.لهذا ترك خطاب الأسد المواطن السوري في حالة ترقب وانتظار لما قد تحمله الأشهر القادمة من احداث مصيرية.ربما نجح الرئيس بشار الأسد الى حد ما في ايصال ما توخاه من خطابه الى الشعب السوري وتقديم الاعذار للتأخير الحاصل في تحقيق مشروعه الاصلاحي،لكن ترك السقف الزمني لانجاز الاصلاحات المنشودة مفتوحاً ومرتبطاً بالأوضاع السياسية الاقليمية والدولية أثار علامات استفهام وتساؤلات كبيرة في الشارع السوري، وربما شكوك حول جدية الحكم في تحقيق الاصلاحات المطلوبة،خاصة السياسية منها،وفي قدرته على تحسين الأوضاع المعيشية الى المستوى المطلوب أو المعقول.لهذا يتوقع الشارع السوري مزيد من التأخير والتأجيل لمشروع الاصلاحات، وقد لا ترى الاصلاحات المنشودة النور، طالما انجازها مرتبط بالأوضاع الاقليمية والدولية والظرف السوري المثالي الذي ينتظره النظام.فالشعب السوري بات له عقود طويلة من الزمن وهو يسمع حكوماته وهي تبرر سوء الاوضاع الاقتصادية وازمات المجتمع السوري واستمرار حالة الطوارئ في البلاد بالظروف الاستثنائية وبالمؤامرات الخارجية على سوريا والعرب.وفي اطار الأخذ بـ(نظرية المؤامرة) وجعل من الغرب مشجب تعلق عليه كل اسباب التخلف والتأخر العربي، وصل الأمر برئيس الوزراء السيد (ناجي العطري) للتغطية على التقصير الفاضح لحكومته في تأمين حاجة سوريا من الطاقة الكهربائية،الى الاستخفاف بعقول السوريين،ذلك بتحميل الرئيس الفرنسي السابق (جاك شيراك) مسؤولية أزمة الكهرباء التي تشهدها سوريا منذ بداية هذا الصيف.فقد اتهم العطري شيراك بالضغط على شركة (الستون) لثنيها عن التعاقد مع الحكومة السورية لبناء محطات توليد جديدة للطاقة الكهربائية،وكأن لم يبق في العالم شركات لانشاء محطات توليد الطاقة سوى شركة(الستون).تجدر الاشارة هنا الى ان في جلسة حامية قبل ايام جمعت وزير الكهرباء مع أعضاء لجنة التخطيط والإنتاج في مجلس الشعب، حملت اللجنة الوزير مسؤولية ازمة الكهرباء و طالبه البعض بالاستقالة.فيما يخص قضية المعتقلين السياسيين التي غابت عن خطاب الرئيس بشار الاسد، خابت آمال المعارضة السورية وآمال اسر المعتقلين التي تأملت، على ضوء ما تردد وأشيع في الشارع السوري عشية الاستفتاء، أن يصدر عفواً رئاسياً عنهم بمناسبة تجديد ولايته، خاصة عن ما تبقى من معتقلي ربيع دمشق الدكتور (عارف دليلة) ومن الموقعين على اعلان(بيروت دمشق) الكاتب ميشيل كيلو والناشط الحقوقي أنور البني ومحمود عيسى وحبيب صالح وآخرون. سيما وان ما صدر عن هؤلاء المعتقلون من مقالات وتصريحات أو اعلانات و بيانات كأفراد أو كمجموعات لا يتعارض مع مبدأ حرية الراي والتعبير كحق يكفله الدستور السوري، كما انه لا يتناقض مع دعوة الرئيس بشار الأسد ذاته في معظم خطاباته جميع السوريين للمشاركة في اغناء مناخ الحرية والديمقراطية وممارسة دورهم في بناء المجتمع السوري،جاء في خطابه الأخير: ((لدينا الارادة الاكيدة.. لتطوير تجربتنا السياسية.. انطلاقا من قناعتنا بضرورة افساح المجال واسعا أمام الجميع لممارسة دوره.. واغناء لمناخ الحرية والديمقراطية..لدينا الآن ألف تصور لاصلاح سياسي واحد... لا يجوز أن يعتقد كل شخص بان هذا الاصلاح هو العمل الوطني..وكل اصلاح آخر لا يجوز..)).ألا يعطي مثل هذا الكلام لرئيس الدولة الضوء الأخضر والتغطية السياسية لعمل احزاب المعارضة السورية ولمختلف الناشطين في المنظمات واللجان الاهلية والحقوقية التي اعلنت عن نفسها صراحة على الساحة السورية وتتنشط عليها بشكل سلمي وديمقراطي؟. أم أن المجتمع السياسي والمدني المعارض في سوريا هو خارج دائرة الحوار الوطني الديمقراطي وخارج هذا الكل السوري الذي خاطبه رئيس البلاد؟. والا لماذا لا تتعاطى السلطة السياسية والأمنية مع طروحات وأراء المعارضة السورية والنشطاء السياسيين في ضوء كلام الرئيس عن حرية الراي والتعبير؟!.لا جدال على أن سوريا تنعم بالأمن والاستقرار، لكن من الخطأ أن يعد النظام هذا الأمن المحقق (منة) على الشعب السوري لأن (الأمن والاستقرار) هما من الوظائف والواجبات الاساسية للدولة،فلا معنى أو لا مبرر لوجود دولة عاجزة عن توفير الأمن لشعبها.وحيال مرحلة مصيرية وصعبة، كما وصفها الرئيس الأسد، يفترض ان تخطو السلطة خطوات ايجابية تجاه المعارضة بالافراج عن معتقلي الراي والضمير والانفتاح على جميع القوى والأحزاب السياسية المتواجدة على الساحة السورية والقبول الايجابي بالتعددية القومية والثقافية،كحقيقة تاريخية وموضوعية وكظاهرة حضارية يتصف بها المجتمع السوري الذي يضم الى جانب العرب، آشوريين(سريان/كلدان) واكراد وارمن واثنيات اخرى صغيرة،مثل الشراكس والتركمان.فمن شأن هكذا خطوات ايجابية أن تحصن الجبهة الداخلية وتزيد اللحمة الوطنية في مواجهة التحديات الخارجية، فضلاً عن أن استمرار الاعتقال السياسي يضر بسمعة ومكانة سوريا في المجتمع الدولي.وقد تأخذ بعض القوى الدولية المهيمنة، من الاعتقالات ومن تردي وضع الحريات وحقوق الانسان، ذرائع اضافية لفرض مزيد من الضغوط والعزلة على سوريا في هذه المرحلة الدقيقة والمصيرية،خاصة واننا نعيش في عالم جديد لم تعد فيه قضية حقوق الانسان والشعوب شئناً داخلياً خالصاً كما كانت في السابق.
كاتب وناشط سوري
[email protected]