كانت البداية فى الساعة الثالثة صباح يوم 17 كانون الثاني (يناير) عام 1991 عندما بدأ القصف الجوي الأمريكي بعد غزو صدام حسين للكويت وتهديد المصالح الأمريكية فى المنطقة ورغبة من حكومات الخليج بالتخلص منه. كانت أمريكا قد هددت بضرب العراق وقصفه (واعادته للعصر الحجري) على حد قول بوش الأب اذا لم ينسحب صدام من الكويت. ولكن صدام رفض ان يصدق ان يقوم أصدقاؤه بالأمس بضربه اليوم، ولم يفد معه لا نصح ولا تهديد بل أصر على البقاء فى الكويت وعلى نظريته (عودة الفرع الى الأصل(، ولم يفكر بعواقب الحرب على شعب العراق الذى اكتوى بنيران حربه الحمقاء مع ايران التى لم يكد يمر على انتهائها ثلاث سنوات و استغرقت ثمانى سنوات أحرقت خلالها الأخضر واليابس وكبلت العراق بديون هائلة، وسببت فى هجرة مئات الألوف من العراقيين خوفا من بطشه وجبروته.
استمرالقصف الجوي الوحشي للعراق 43 يوما وبدون انقطاع ليلا ونهارا، ونفذ بوش تهديده الذى لم يصدقه صدام ودمر العراق تدميرا مريعا. وفى يوم 24 شباط (فبراير) 91 بدأ الحلفاء (35 دولة) ومن بينهم الأمريكان والبريطانيين والفرنسيين والسعوديين والمصريين والسوريين فى الهجوم البري فى الساعة الرابعة فجرا. أوقف الأمريكيون القتال بعد أربعة أيام من بدئه (28 شباط)، وقبل العراق رسميا ايقاف القتال يوم 6 نيسان (ابريل) وتوقف رسميا اطلاق النار يوم 11 نيسان.
كانت حصيلة هذه (المجزرة) كما سماها الأمريكان بالنسبة للعراق كالآتي:
أكثر مئة ألف جندي قتيل، 8000 جندي عراقي دفنتهم الجرافات الأمريكية فى الرمال. ودمر القصف الجوي 26000 هدف صناعي ومدني (حتى ان الطيارين الأمريكان أبلغوا قادتهم بأنه لم يبق فى العراق ما يستحق القصف). أما القتلى من المدنيين العراقيين فعددهم يتراوح بين 125 الفا و 300 ألف قتيل. ولا يقل عدد الجرحى والمصابين نتيجة القصف عن المليون انسان. وبالمقابل خسر الأمريكيون 136 جنديا قتيلا و 467 جريحا.

أما خسائر الجيش العراقي المادية فهي: 3700 دبابة من أصل 4280 مع 2400 عربة مدرعة، و17 سفينة و ست سفائن اصيبت بأضرار شديدة. كما أخذ الأمريكيون 71204 جنود عراقيين أسرى غالبيتهم استسلموا بدون قتال، سلموهم الى السعودية. وأسقط الأمريكيون أو دمروا 110 طائرات عراقية وهربت 137 طائرة الى ايران . هذه الأرقام كلها من مصادر أمريكية وبريطانية لتعذر الحصول عليها من مصادر أخرى.

كان الأمريكان قد فرضوا الحصار الاقتصادي على العراق بعد أيام من غزو الكويت، وبدأ الشعب يشعر بنقص كبير فى الغذاء والدواء وباقى المواد الضرورية للحياة. وكان عراقيو الجنوب أكثر تضررا من الباقين لقربهم من ساحة المعركة، ولأن الجنود الهاربين من الكويت دخلوا مدنهم وقراهم، منهم من باع سلاحه لقاء وجبة طعام ومنهم من استخدم السلاح لأخذ ما يريد بالقوة، وعم الأضطراب وضربت الفوضى بأطنابها المنطقة وخاصة (البصرة) وقام بعضهم بقتل الضباط والجنود البعثيين المنسحبين من الكويت وهم فى طريقهم الى بغداد لحماية صدام. وفى يوم 2 آذار (مارس) هجم بعض الأهالى على مخازن الطعام فى معسكرات الجند، وأخذوا ينتقمون منهم جراء ما حصل لهم من قائدهم صدام، ولم تكن الحركة منظمة وانما اختلط الحابل بالنابل وقتل البريء والمذنب معا.
قبل بدء الهجوم الأمريكي كان بوش قد وجه انذارا شديدا لأيران بعدم التدخل وكانت الأقمار الصناعية والطائرات الأمريكية ترقب حركاتهم، ولم يتحرك الايرانيون للتدخل خوف العاقبة. وبعد ايقاف القتال قال بوش ان الغرض من الحرب هو انقاذ الكويت وليس استهداف صدام أو حكومته، وان الباقى مرهون بارادة العراقيين اذا ما أرادوا تغيير الحكم. فسر العراقيون ذلك على ان أمريكا ستسرع الى مساندتهم لازاحة صدام فشجعهم ذلك على قتال أعوان السلطة فى الجنوب والشمال. ثم بان غدر الأمريكان عندما سمحوا للصداميين باستخدام طائرات الهيليوكوبتر التى قامت بحصد الثوار حصدا. ويقال ان القتلى نتيجة القصف الجوي يزيد عددهم عضلى مئة ألف قتيل، وقصفت هذه الطائرات حتى العتبات المقدسة فى كربلاء والنجف. عذب الكثيرون ودفن الكثيرون وهم أحياء مع الأموات فى مقابر جماعية. دامت الانتفاضة أقل من عشرين يوما ثم قضى صدام على الحركتين فى الشمال والجنوب بمنتهى الخسة والقسوة، فمسح آلاف البيوت بساكنيها من الوجود. وليجعل قتل الثوار طائفيا فقد وضع ضباطا من الموصل وتكريت فى قيادة قواته فى الجنوب، وقد أيد لى ذلك اثنين من أصدقائى من الموصل وهما ضابطان برتبة كبيرة فرا من العراق بعد انتهاء تلك المجازر. كما ان المقبور حسين كامل (زوج رغد) الذى عينه صدام قائدا للحملة قتل بنفسه ضابطا من الموصل برتبة مقدم كان يقود كتيبة من الدبابات فى كربلاء لرفضه قصف الحرم الحسيني الذى يعتصم فيه النساء والأطفال والعجزة، وخاطب الامام الحسين بقوله المشهور: أنت حسين وانا حسين وسنرى من ينتصر!!!. ولما سئل عن ذلك فى مؤتمر صحفي فى عمان عام 1995 قال ان كل شيء مباح اثناء الحروب!!

ولينتقم صدام أكثر من أهل الجنوب بدأ يجفف الأهوار التى هي المصدر الوحيد لمعيشة سكانها، وكانت النتيجة ان هربوا الى ايران لقربها من اماكن سكناهم وهرب معهم الكثير من سكان الجنوب خوفا من انتقام صدام. لم يلق اللاجئون الى ايران ما كانوا يتوقعونه من خير من الايرانيين بل استعمل هؤلاء معهم منتهى القسوة والشدة، وقد برر الايرانيون ذلك بخشيتهم من تسلل اعوان صدام من بينهم. أما ما يقوله البعض من أن الايرانيين هم الذين قاتلوا صدام وعادوا الى بلادهم فهو قول مردود، فقبل الحرب كان الجيش العراق منتشرا على طول الحدود الايرانية، ثم جاء تهديد بوش لأيران بعدم التدخل، بالاضافة الى مراقبة الطائرات الأمريكية والأقمار الصناعية، فكيف تسنى للايرانيين اختراق الحدود والدخول الى العراق؟ ثم ان توقف بوش عن الزحف الى بغداد والاجهاز على حكم صدام لم يكن الا حماية لدول الخليج من ايران.
بعد 12 سنة، كرر صدام غلطته وظن مرة اخرى ان الأمريكان لن يحاربوه. وفى الوقت الذى كان فيه العراقيون يتضورون جوعا كان صدام يبنى القصور المنيفة ويضع العراقيل أمام المفتشين الدوليين. ولكن الأمريكان شنوا الحرب فى 20 آذار2003ودمروا ما بقي من العراق، وقتل مئات الألوف من العراقيين، وتشقق العراقيين طوائفا وأحزابا متناحرة، ودخل الدين فى السياسة ، وظهر على المسرح ممثلون جدد منهم من فاق صدام بدكتاتوريته وحمقه وهدره للمال العام. وها قد مرت أكثر من 4 سنوات على سقوط صدام والأمور تسير من سيء الى اسوأ، وهاهم العراقيون يعيشون أحلك أيام تأريخهم، يقتل بعضهم بعضا ودول الجوار تمد المتقاتلين بالمال والسلاح والبهائم الأنتحاريين فيزيد ذلك فى مصائبهم ومحنهم، وليس هناك ما يدل على انفراج قريب.