منذ سقوط حكومة الزعيم عبد الكريم قاسم فى شباط الأسود من عام 1963 والعراق فى تدهور مستمر. كان حزب البعث حزبا صغيرا مغمورا يتاجر بسلاح القومية العربية تحت شعار: وحدة وحرية واشتراكية. كان هم الحزب الأكبر هو الاستيلاء على الحكم بأي ثمن. اتصلوا بجمال عبد الناصر الذى لم يكن يثق بهم ولكنه كان مستعدا للاتفاق مع الشيطان فى سبيل اسقاط الزعيم, وزودهم هذا بما يحتاجونه من مال وسلاح ومعلومات أمنية لهذا الغرض. وشيعوا أن الزعيم شيوعي وسيضم العراق الى الكتلة السوفييتية. كان الأمريكان فى وقتها مهووسون فى مقاومة الشيوعية والاتحاد السوفييتي فصدقوا ما قاله لهم البعثيون, وفعلوا ما فعله ناصرمن تأييد للبعثيين.
كان بعض الضباط يكرهون الزعيم بدافع الغيرة والحسد لا أكثر, فقام أحدهم (العقيد عبد الوهاب الشواف) بالعصيان فى الموصل وحصل على تأييد كامل من عبد الناصر، ولكن الزعيم قضى عليها بمساعدة الشيوعيين العراقيين, وجرح الشواف فى اثناء هروبه الى سوريا التى كانت تحت حكم ناصر فى وقتها. بدأ الشيوعيون يتغلغلون داخل الحكومة ويتدخلون فى أعمالها مما أثار حفيظة الناس عليهم وعلى ميليشياتهم التى كانت تسمى (المقاومة الشعبية) فانقلب الزعيم عليهم وحل المقاومة الشعبية. وبدأ الضباط الكارهون للزعيم يأتمرون ضده وهم يعرفون انهم لن يستطيعوا شيئا بسبب تأييد الأغلبية الساحقة من العراقيين له.
استمرت المؤامرات وأخيرا نجح البعثيون فى يوم 8 شباط 1963, وكان أول عمل قاموا به هو تدمير 20 طائرة مقاتلة من نوع ميغ 17 وهى جاثمة على مدرج مطار معسكر الرشيد, واغتالوا قائد القوة الجوية العراقية. استعملوا السرعة والمباغتة ومنتهى العنف والقسوة التى ادت الى نجاحهم. قتلوا بعدها الزعيم وأعدادا كبيرة من أعوانه عسكريين ومدنيين دون محاكمة, أو محاكمات شكلية لم تستغرق سوى دقائق معدودات تم بعدها اعدامهم جميعا. نصبوا عبد السلام عارف رئيسا شكليا للجمهورية التى استمرت 9 أشهر فقط سالت فيها دماء العراقيين مدرارا. ثم غدر بهم عبد السلام عارف فهرب منهم من هرب وزج الباقون فى سجن رقم واحد الشهير.
قتل عبد السلام فى أحوال غامضة فى حادث سقوط المروحية التى كانت تقله بالقرب من البصرة, واختير أخوه عبد الرحمن رئيسا بدله بضغط من العسكريين. كان عبد الرحمن رجلا مسالما يكره العنف فكان من السهل على البعثيين الانقلاب عليه, وبمساعدة بعض الضباط القوميين سفر الى خارج العراق.
أستولى البعثيون على الحكم يوم 17 تموز 1968, وقد تعلموا الكثير من فشلهم فى السابق, وأخذوا يشيعون فى البداية بين الناس بأنهم سيعاملون الشعب بكل احترام ولا يفرضوا عليه اشتراكية تعسفية, وسيحافظون على الملكية الخاصة ويشجعون الأعمال الحرة والى غير ذلك من الوعود التى ثبت كذبها فيما بعد. كانوا يريدون كسب الوقت لاحكام قبضتهم على الحكم. وضعوا ضابطا من تكريت (أحمد حسن البكر) فى منصب رئاسة الجمهورية, ولكن الحكم الحقيقي كان بيد صدام الذى عاد من القاهرة ليستولى على السلطة وعين نفسه فيما بعد نائبا لرئيس الجمهورية.
صدام كان لصا وقاتلا منذ صباه, ارتكب أول جريمة قتل عندما كان فى الثانية عشر من عمره. ترك تكريت وتوجه الى بغداد حيث خاله خير الله طلفاح الذى كان ضابطا مغمورا فى الجيش معروفا بخبثه وغشه وخداعه, فكان خير معلم لصدام الذى تزوج من ابنته ساجدة. فى أثناء حكم الزعيم عبد الكريم قاسم قاد مجموعة من البعثيين القتلة لاغتياله, وهرب بعد فشل المؤامرة الى القاهره حيث استقرهناك برعاية عبد الناصر.
ولتثبيت حكمه فقد بدأ فى الأعمال التى يجيدها وهى القتل والاغتيال, فاغتال كل من شك فى اخلاصه له حتى ولو كان من أعز اصدقائه او من عائلته الأقربين. وقرب اليه كل سفاك ومجرم أثيم وأعطاهم مطلق الحرية, مما أثار الرعب والرهبة فى قلوب الناس وأصبح يخشى أحدهم الآخر حتى ضمن العائلة الواحدة. ويقال ان خمس السكان أصبحوا جواسيس لصدام يراقبون حركات وسكنات الأربعة أخماس الباقية سواء فى العراق او خارجه. استورد وصنع معدات التعذيب التى استعملها مع عشرات الألوف من الضحايا. كان كسر الأذرع والسيقان وقطع الآذان من اسهل عمليات التعذيب. أما طرق القتل البشعة فحدث ولا حرج, فقد أطلق على بعض ضحاياه الكلاب الجائعة التى انتهشتهم (ومنهم المرحوم الدكتور راجى التكريتي) أو القاهم الى التماسيح فى بركة واسعة أعدها لهذا الغرض. هذا غيض من فيض ولا يتسع المقام لذكركل جرائم الطاغية.
وفى هذه الأيام التى اشتدت فيها الأزمات من داخل الحكومة وخارجها وانسحب البعض منها لغرض اسقاطها دون التفكير بالعواقب الوخيمة والمصائب التى تتكدس على الشعب الذبيح, لا يفكر هؤلاء السياسيون الا بمصالحهم الخاصة وان تظاهر بعضهم بالقلق على المعتقلين أو تغلغل ايران, بينما البعثيون يقفون للجميع بالمرصاد وهم يملكون خبرة لا يضاهيهم فيها أحد فى الانقلابات وترهيب الناس وينتظرون اللحظة المناسبة للوثوب على السلطة, وربما بمساعدة أمريكا مرة أخرى, وهى التى قد ضاقت ذرعا بالخلافات السياسية والطائفية فى العراق المشرذم. وان نجحوا فى تخطيطهم فلن يرحموا أحدا أو يغفروا لأحد كما عودونا أيام حكمهم الأسود المباد. استفيقوا قبل أن تندموا.