قبل ثلاثة أشهر، أعلنت quot;حماسquot; انتهاء ما أطلقت عليه حملة التطهير وانطلاقة quot;التحرير الثانيquot; والأخير لقطاع غزة.. منذ ذلك الحين، وسكان القطاع يعيشون حالة من الرعب والهلع، وصاروا يتلمسون quot;طلبنةquot; المنطقة..فقد منعت جماعات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حفلات الأفراح، بإعتبارها غزوا فكريا من فتح، لتخريب عقول وضمائر المواطنين المسلمين المنضوين تحت راية الاسلام الحمساوي.. ثم ظهر عليهم الضيق من استخدام الساحات العامة، التي كانت مرتعهم في الماضي القريب، لإقامة الصلاة فيها.. بعد ذلك انطلقوا لمعاقبة الصحافيين الين ينقلون للعالم صورة المحررين الجدد!!، واثبتت الأحداث أن المسألة لا علاقة لها بتحرير الارض، ولا استعادة القدس، ولا المطالبة بعودة اللاجئين. المسألة ببساطة شديدة: صراع على الحكم!
المثير للسخرية، هو أن quot;حماسquot; قامت بإتقلاب دموي على نفسها، ونجحت في هزيمة فكرها المعلن، الذي كانت تخدر به عقول العامة. كانت حكومة الأستاذ اسماعيل هنية، تمثل وحدة وطنية وهمية، وكان ndash; من خلالها - بمقدوره أن يلقي بمتاعبه على كاهل الإسرائيليين، ويواصل الاستمتاع بزيارات الى أقطار عربية حاولت عبثا أن تجعله يدرك أن العالم لا يدار عن طريق الأدعية والخطابات الحماسية، ولكنه أكثر تعقيدا، واشد غموضا.
الأكثر إيلاما، هو أن الغنائم التي استولت عليها حماس في غزوتها quot;المباركةquot; لم تعد كافية لتوليد الطاقة الكهربائية ولا إطعام المواطنين، ولا ارى أن القوة البحرية الجديدة التي دشن أعمالها الأستاذ هنية، ستستطيع فك الحصار المفروض علي الأراض المحررة من فتح. أخطأت حماس الطريق، وأثبتت سطحية في اسلوب عملها، وظن قادتها أن ربط الأشرطة على الرؤوس، والاكثار من الدعاء، كاف لدحر الجوع والفقر والظلام... وطالما أن قادة quot;حماسquot; يعتبرون انفسهم الاكثر إيمانا والأكثر حرصا على تعاليم الأسلام، فما عليهم إلا الاعتذار الى شعبهم، والى الشعوب العربية الذين خدعتهم بشعاراتها البراقة، والى الحكام العرب الذين أضاعوا الكثير من الوقت والجهد، تحت وهم أن قادة حماس راغبون في خدمة مواطنيهم، بعيدا عن مؤثرات وضغوط الرفاق وآيات الله.
ما تتناقله الأخبار عن خطوات quot;طلبنةquot; القطاع، مخيفة، ولا تخدم قضية الشعب الفلسطيني، الذي عانى في آن واحد من قهر وصلف وعدوان الإسرائيليين، ومن اولئك الذين لم يخجلوا وأثروا على حساب القضية، وبنوا القصور التي اثارت حنقا لدى الذين شاهدوا فخامتها وجمالها، بجوار مخيمات اخوانهم المحاصرين.
لا أحد يمكنه أن يبرئ بعضا من قادة quot;فتحquot;، ولكن الأمر لم يصل الى حد التصفية المهينة والمذلة، التي مارستها quot;حماسquot; بإسم التطهير والتحرير. لقد اعتدنا في الماضي أن نشاهد مصرع الفلسطينين بأيد فلسطينية، ورأينا دماءا زكية تراق برصاص quot;المقاومةquot; داخل وخارج المخيمات.. وظن الجميع أن الأمر سيقف عند هذا الحد، بعد البدء في الحديث عن مشروع الدولة الفلسطينية، وأن الجميع سيجتمعون على كلمة سواء.. ولكن كيف يمكن للعربي أن يُعمل العقل في تصرفاته التي تفصلها مسافات ضوئية عن كلماته.
في البدء ترك ابو عمار الساحة مشرعة أبوابها، لقتلة يمارسون قانون الغاب، ويلقون تهم العمالة والخيانة دون سند ولا برهان، ورأينا شبابا يُعدمون داخل المخيمات وعلى أرصفة الشوارع.. كانت تلك نقطة الانطلاق لانفلات الشارع الفلسطيني.. لا محاكمات، ولا محامين، ولا مدعين، ولا جمهور، ولا قانون ولا شريعة ولا قضاء... واحد يقضي وأخرون ينفذون، وفلسطينيون يُعدمون بالرصاص.الفلسطيني. حدث ذلك وأبو عمار محاصر وعاجز، وبعض أعوانه غير عابئين بما يجري، لأنشغالهم بقضاياهم خاصة، ومصابون بداء التخمة، ومنهكمون في تدوير أموالهم بين المصارف ومحافظ الاستثمار.
عندما مات أبو عمار، مسموما أو مريضا، ذرف الكل دموع التماسيح عليه، وأنبرى الكل متحدثا عن مناقبه، وخصوصا اولئك الذين أشبعوه، في حياته، لعنا وسبا وقذفا وتخوينا. ووضح اليوم، أن quot;حماسquot;كانت تعد العدة لأم المعارك الفلسطينية، وأدمت قلوبنا ونحن نشاهد مصرع الأشقاء على يد أشقائهم، وجرهم في شوارع المدينة دون خجل او حياء.
من سيصدق بعد اليوم، أن تحرير القدس سيكون على يد هؤلاء؟ ومن سيقبل أن يصافح يدا امتدت لذبح أخ وصديق؟ ومن ستطاوعه نفسه لمساعدة قاتل آثم ومساندته؟..
أعلم أننا أمة بلا ذاكرة، وأعلم أننا نعفو عما سلف، وأعلم أننا أعتدنا على أن نوجه سلاحنا الى صدور أشقائنا قبل أعدائنا، وأعلم أننا لم نعد نفزع لمقتل شقيق على يد شقيقه.. لذلك فإن ما فعلته حماس، بإسم التطهير والتحرير، سيمر دون حساب ولا عقاب، وأجزم أن قادتها لن يهتموا كثيرا بما سيعانيه شعبهم جراء ما اقترفته مليشياتهم، فالابتسامات لا تفارق شفاههم، والدعاء بالنصر القريب والفتح المبين مستمر، وما على المتضررين إلا أن يتقبلوا ما كتبه الأشاوس لهم.
أتمنى ألا يضيع القادة العرب وقتهم في محاولة الجمع بين الفريقين، وأن يتركوهما الى ان يثوبا الى رشدهما. وحين يعترفا بالكارثة، وعلى الشعب الفلسطيني المغلوب على أمره أن يثور ضد قاتليه قبل أن يطالب برحيل محتليه، فقد أثبتوا أن الاحتلال كان نعمة على بعض الشعوب قبل أن تحل عليها نقمة الاستقلال، والأمثلة كثيرة.