الإعتقاد السائد في الأوساط اللبنانية هو أن نبيه برّي داهية في السياسة. والعامة لا تدرك الفرق بين السياسة كعلم مواز لعلم الاقتصاد وبين مسائل العلاقات العامة التي ترتكز على نعومة التعامل مع الآخرين وكسب ثقتهم لسبب أو لآخر. وليس أدل على ذلك من حقيقة أن دهاة السياسة الذين عبروا في التاريخ عرفوا بفظاظة استثنائية. ونحن هنا نستدل على أن السيد برّي ليس له من علم السياسة نصيب كبير يوازي نصيبه من الكعكة الوطنية، نستدل على ذلك من مبادرته التي عرضها في المهرجان المخصص لذكرى غياب الإمام موسى الصدر، مؤسس حركة أمل.

تقضي مبادرة نبيه بري بتنازل المعارضة التي يرأسها ظاهرياً هو نفسه عن مطالبتها بتشكيل حكومة quot; وحدة وطنية quot; ـ ولو قبل نصف ساعة من انتخاب رئيس الجمهورية كما أكد حزب الله، القائد الفعلي للمعارضة ـ مقابل تنازل الأغلبية عن احتمال انتخاب رئيس الجمهورية بالأغلبية المطلقة أي بأصوات 65 نائباً فقط وبالنصاب ذاته خلافاً لشرط المعارضة بألا يتم انتخاب الرئيس بنصاب أقل من الثلثين.

يتشاطر نبيه بري ليوقع المعارضة في فخ مكشوف لا يفوت على أعمى. يعرض بري مبادلة حق دستوري للأغلبية بانتخاب رئيس للجمهورية بالأغلبية المطلقة (65 ) بمخالفة دستورية تهدد المعارضة بتنفيذها من خلال تواطئ رئيس الجمهورية إميل لحود بتشكيل حكومة غير شرعية موازية للحكومة الشرعية القائمة، حكومة فؤاد السنيورة التي ما زالت تتمتع بثقة ممثلي الشعب في مجلس النواب. مبادرة بري لا تختلف بشيء عن مبادلة عملة مزورة بعملة أصيلة من محلات الصرافة.

من باب التشاطر يرش بري حبات من الفستق كي تأتي الأغلبية على قدميها لفخه المكشوف واعداً بالمحاورة حول شخص الرئيس القادم. الحوار حول شخص الرئيس القادم قضية مطلوبة بحد ذاتها، بل الحوار حول كل القضايا أمر له انعكاساته الإيجابية على الحياة اللبنانية. أما أن تتنازل الأغلبية عن حقها الدستوري في انتخاب الرئيس مقابل مجرد قبول المعارضة بعقد الحوار فهو أمر غير مقبول بمختلف المقاييس بل إنه غير شرعي وينطوي على مخالفة قانونية مفضوحة. لقد أنتخب النواب أصلاً من أجل المحافظة على تطبيق الدستور سواء عن طريق التشريع أو مراقبة أداء السلطة التنفيذية. ولا يجوز بحال من الأحوال أن يتنازل نواب الأغلبية عن حق كرّسه الدستور وإلا خانوا الوظيفة التي أنتدبوا للقيام بها. ولا يجوز أيضاً لفؤاد السنيورة أن يعقد إتفاقاً من وراء ظهر الشعب فيتنازل عن تكليف الشعب لوزارته بإدارة السلطة التنفيذية؛ هذا حق لصاحب الثقة الذي هو الشعب ممثلاً بنوابه وليس للمكلف بها وهو فؤاد السنيورة وحكومته.

المعارضة وبسبب إرتباطها بالخارج تخرق الدستور صباح مساء والخرق الأخير هو مبادرة بري. تتهم المعارضة الأغلبية بموالاة أمريكا لكن السفير الأميركي لا ينفك يؤكد على أن تطبيق الدستور بكل أحكامه هو ما يسترعي إهتمام الولايات المتحدة. تدعي المعارضة زوراً أن نصاب جلسة انتخاب رئيس الجمهورية يجب أن يكون ثلثي عدد أعضاء المجلس، أي (86) عضواًً. الدستور واضح ومعروف بكل مواده ومختلف بنوده، لم يقل الدستور بهذا على الإطلاق. ما قاله الدستور هو.. quot; ينتخب رئيس الجمهورية بالاقتراع السري بغالبية الثلثين من مجلس النواب في الدورة الأولى ويكتفى بالغالبية المطلقة في دورات الاقتراع التي تلي quot; هذه العبارة التي تعتمد عليها المعارضة في تحديد النصاب لجلسة انتخاب رئيس الجمهورية لم تقارب النصاب من قريب أو بعيد بل عنيت بتمثيل رئيس الجمهورية لأوسع طيف من أطياف الشعب اللبناني ولو كان الأمر كما تشترط المعارضة لحدد المشرع النصاب في الدورات التي تلي الدورة الأولى حيث ينجح الرئيس بأصوات الأغلبية المطلقة. نصاب الجلسات محدد بالمادة (34) التي نصت.. quot; لا يكون اجتماع المجلس قانونياً ما لم تحضره الأكثرية من الأعضاء الذين يؤلفونه..quot; فكيف لا يكون اجتماع المجلس قانونياً بحضور 65 أو 70 أو حتى 85 نائباً وخاصة في الدورات التي تلي الدورة الأولى؟؟

على صرافة الأغلبية ألا تستبدل عملة نبيه بري المزورة بالعملة الوطنية الأصيلة!